موسيقى "ويجز" ورفاقه أكبر من مجرد ظاهرة مصرية

تتربع موسيقى “تراب”، وهي نوع من الموسيقى الذي يمتاز بسرعة إيقاعاته المستمدة بالأساس من موسيقى الهيب هوب على عرش الساحة الموسيقية في مصر حاليا. والدليل الاستعانة بنجومها في إعلانات أكبر الشركات والأغاني الترويجية للأفلام والمسلسلات وتحقيق مشاهدات عالية، وإحياؤهم الكثير من الحفلات الموسيقية بما في ذلك حفلات النخبة في مصر.
القاهرة - فاجأت الصورة الحاشدة التي نشرها مغني الراب المصري الشاب أحمد علي الشهير بـ”ويجز” (23 عاما) الكثيرين ممن لا يحتكون بتلك الأغاني والفئات التي خرجت منها أو تبنتها، فقد مثلت حالة من الصدمة لمن يتمسكون بعادتهم القديمة في الاستماع ويحتفظون بذوقهم الموسيقي الذي تشكّل عبر تجربتهم الخاصة وتجارب جيلهم. فما يقدمه ويجز ورفاقه ومن قبلهم مغنّو المهرجانات بدا للأجيال الأكبر زوبعة ستذهب سريعا، لكن الاستمرار والانتشار والتصاعد يشير إلى عكس ذلك.
ومثلت الصورة التي بثها المغني الشاب ويجز من حفلته في التاسع والعشرين من أكتوبر الماضي في مركز المنارة والتي أظهرت جمعا غفيرا من الحضور، صدمة للكثيرين، فيما عدها المغني انتصارا، حيث قال ويجز خلال الحفلة لجماهيره “هذه أول مرة أحيي فيها حفلا في القاهرة ويحضره ذلك العدد الكبير، أشعر بالانتصار”.
بين حفلتين
جيل الأغاني الذي شبّ على عالم منفتح كل شيء متاح فيه لا يرضى بالأسلوب الغنائي الرومانسي أو الهادئ والبطيء
من بين ذلك الجمهور كان محمد زكريا (28 عاما) الذي لم يكن يستسيغ من قبل أغاني ويجز، وكان شديد الهجوم على أغاني المهرجانات والموسيقى المصرية الجديدة.
خُيّر زكريا من قبل صديقته بين حفلتين، الأولى لمدحت صالح، والثانية لويجز. في البداية اختار الشاب حفل صالح، متهكما على ويجز وما يقدمه من فن، لكن بعد إعادة تفكير رأى أن صالح يمكن أن يشاهد أغانيه عبر الإنترنت، لكن ويجز بما تمثله حفلته من تجربة جديدة وطاقة وما تمنحه له الحفلة من فرصة تلاحم بأجيال لاحقة، اختار ويجز في النهاية.
يقول زكريا لـ”العرب”، “حفلة صالح كانت تشترط أن أرتدي ملابس رسمية، وأذهب لأقيّد على كرسي عدة ساعات، أما ويجز فقد ارتديت الشورت (بنطال قصير) وذهبت لأرى ما يحدث في ذلك العالم ممنيا نفسي ببعض الانطلاق، وقد وجدت الكثير منه”.
كانت التجربة ثرية بالنسبة إلى الشاب الذي تعدّ المطربة أنغام والمطرب عمرو دياب ومحمد منير مطربيه المفضلين.
ويضيف “رأيت حشدا كبيرا جدا لم أرَ مثله من قبل، الجمهور مختلف عن أي جمهور آخر، معظمه من شباب الجامعات وطبيعته مختلفة عن جيلي، في العلاقات بين الفتيات والشباب، الكلمات المستخدمة، المظهر، كل شيء مختلف تقريبا وأكثر تحررا”.
وتابع “كنت أظن أن من يستمع إلى ويجز ورفاقه شباب غير متعلمين، لكن فوجئت بالعكس، فالكثير من الحضور من الطبقة الوسطى والعليا، لا أدري إذا كان ذلك بسبب سعر التذكرة (يتراوح بين 25 إلى 35 دولارا) أم أن تلك الطبقات هي جمهور ذلك النوع من الغناء”.
على مدار ساعتين تقريبا لم يتوقف زكريا والآلاف من حاضري الحفل عن التفاعل مع أغاني ويجز، ومن قبله “عفروتو”، وهو أيضا رابر (مغني راب)، يؤكد أنه لو أتيحت له الفرصة مجددا لكرر التجربة.
التجربة التي غيرت مفهوم الشاب عن ذلك النوع من الغناء ونقلته بها من خانة منتقديه إلى المعجبين تعد التحاما ليس بمجرد نوع جديد من الغناء انتشر في مصر خلال العقد الأخير، بل بحالة من التمرد المجتمعي يعكسه ذلك النوع من الأغاني.
ويرى مراقبون أن الجيل الذي شبّ على عالم منفتح تماما، كل شيء متاح فيه عبر الإنترنت، لم يكن ليرضى بالأسلوب الغنائي نفسه، الرتم الرومانسي أو الهادئ أو البطيء فيما يختبر من حوله حياة سريعة لاهثة، أو بكلمات تقتصر موضوعاتها على الحب والشوق والهجر، بينما تحيطه الأزمات من كل جانب.
أكد الباحث المتخصص في الموسيقى محمد الأسواني لـ”العرب”، “أن التقليدية الشديدة في أسلوب الغناء والموضوعات المكررة قبل المهرجانات والتراب، كانت سببا رئيسيا في تمهيد الطريق لذلك النوع من الموسيقى”.
ونجاح موجة التراب وجيل المغني ويجز، بدأ بمحاولات كثيرة ترجع إلى بداية الألفينات، بحسب الأسواني، الذي يتذكر التجربة الأشهر الممثلة في فرقة “أم.تي.أم” أصحاب أغنية “أمي مسافرة” وحققت نجاحا مدويا في تلك الفترة، وكانت مختلفة عن السائد، وبداية انتشار موسيقى الهيب هوب بين قطاعات أوسع في الجمهور المصري.
ويعتبر الأسواني حقبة ما بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 الانطلاقة الحقيقة، “بدت الساحة الفنية والجماهيرية أكثر تقبلا لكل الأنواع الموسيقية الجديدة والمختلفة، وشهدت تلك الفترة زخما موسيقيا بتواجد قوي لفرق الأندرجراوند وفرق الراب والمطربين المستقلين، وبالطبع أغاني المهرجانات التي انطلقت بقوة منذ ذلك الوقت”.
أداء صوتي أم فن

الراب هو أسلوب أداء صوتي يقوم به ويجز وغيره على موسيقى التراب، فيسمى المؤديون “رابرز” ويصنف الشكل الموسيقي الذي يقدمونه بـ”تراب”.
ويعتمد الراب على أن يقوم الرابر بكتابة الكلمات بنفسه، لذا يتضمن الكثير من القضايا التي تدور حول الذات والأزمات التي تواجه الكاتب وتتلاحم مع هموم ومشكلات جيله.
في أغنية “21” لويجز يتحدث عن الهجرة غير الشرعية والمخدرات، وفي أغان أخرى له يتحدث عن الوحدة والغدر، فالدوران حول المحبوبة وقصص الحب لم يعد المحور أو الموضوع الرئيسي.
وفي أغنية “سكرتي” لويجز أيضا يقول في أحد مقاطعها “رايحة بينا فين ماشية بينا كام، بنزاملوا الرجال وبناكل بالحلال على سريري أقلب الأحزان مصاب وفي معاناة، وفي راسي الكل بتاعي أنا المال العام”.
يعتمد الراب بشكل أساسي على خوض حرب كلامية بين الرابرز، فيجد المتابع نفسه في أحداث ساخنة، هذا يطلق تراك (قطعة موسيقية) فيرد عليها آخر، في منافسة تقفز على الركود الاجتماعي والسياسي وتتناسب مع عنفوان الشباب وحماستهم.
كما تتيح لهم لغة تبدو مشفرة، فتمنحهم ميزة إضافية، أو ترسخ الانسلاخ عن المجتمع المحيط وتدعم أواصر تكوين مجتمع داخل المجتمع. فمثلا يقول ويجز في أغنيته “دورك جي”، “بفتنا تعاشر المظابيط، يا سمك شعرة يا مصابيح، ضباع بسعر المقاطيع، لو إنت بابا طب أنا مين”.
إقبال الجمهور على أغاني الراب التحام ليس بمجرد نوع جديد من الغناء بل بحالة من التمرّد المجتمعي
يقول شاهين وهو واحد من أقدم الرابرز في أغنيته “سيري”، “اتس أوكيه بيبي عادي اتس أوكيه، هاتي البُكى وخدي البوكيه”. أو أغنية مروان موسى “تيسلا” التي يعد اسمها شفرة في حد ذاته، فليس الجميع يعلمون أن تيسلا هي وحدة قياس المجال المغناطيسي، ولا تكاد تخلو أغنية واحدة من الكلمات والتركيبات اللغوية الغريبة وغير المألوفة للمستمع العادي.
لا يكاد المستمع العادي غير المتذوق لهذا النوع، التمييز بين موسيقى التراب والمهرجانات، فبالنسبة إلى فئات كثيرة هي واحدة، كلها موسيقى صاخبة، وعادة ما يمتد تصنيف المهرجانات ليشمل الراب أيضا بالنسبة إلى هؤلاء على اعتبار أن الأخيرة الأقدم.
هذا التصنيف العشوائي لا يجانبه الصواب على نحو تام، فمن جهة تعد المهرجانات هي الأب الروحي أو الممهد لأغاني التراب، ومن جهة أخرى يتداخل النوعان الآن في التكنيك والتوزيع على نحو يكاد يجعل من الصعب التفرقة بينهما، أما على مستوى المضمون، فثمة اختلافات لكنها ليست عميقة، فكلاهما يشتركان في النزعة الذكورية الواضحة، والتباهي بالذات، وإثارة الأزمات المجتمعية، وغدر الأصدقاء، فيما يبقى التلاسن بين الرابرز أكثر تميزا.
يقول محمد الأسواني لـ”العرب”، “اندماج الراب مع المهرجانات هو بداية نجاح الحركة الموسيقية الجديدة في مصر، وأساس نجاح جيل ويجز، أو كما تسمى موجة موسيقى التراب أو التراب الشعبي، والمميز لهذا الاندماج أنه جاء من تقارب النوعين بنفس الدافع والحجم، حتى أنك لا تستطيع أن تفصل من اتجه إلى الآخر بدرجة أكبر”.
بدأت هذه الرحلة بتعاون بين نجوم الاتجاهين بشكل منفصل موسيقيا، مثل تجربة السادات مع عمرو حاحا وأم.سي أمين وفيلو في مهرجان الراب المصري قبل سنوات، وكذلك باتجاه عدد من نجوم المهرجانات إلى تغيير طريقة التوزيع والأداء بتخفيف الأصوات الموسيقية الشعبية المميزة والاتجاه أكثر إلى الموسيقى الإلكترونية، مثل تجارب السادات وفرقة “المدفعجية” وفرقة “الصواريخ”.
ريادة المهرجانات
يؤكد الصحافي المصري المهتم بموسيقى المهرجانات والراب، أحمد شعبان لـ”العرب” أن المهرجانات صاحبة فضل كبير في انتشار الراب وإكساب نجومه شعبية أكبر بعد تعاون عدد من الرابرز مثل عفروتو وويجز ومروان بابلو في بداياتهم مع مغني المهرجات الأشهر سادات العالمي على سبيل المثال.
واستفاد منهم الأخير، وهو من أبرز نجوم المهرجانات في مصر، لتجديد مشروعه الموسيقي اعتمادا على مواهب شابة، وفي المقابل ساعدهم السادات على الوصول إلى جمهور عريض في وقت قصير، ووفر لهم دعما كبيرا، إذ كان يفتح أبواب الأستديو الخاص به ويأتي المغني أو الرابر ويجلس في الأستوديو معه وفريقه أسابيع يجربون كل شيء، ويخرجون بتجارب جديدة ولافتة.
ورغم أن ويجز أطلق عدة أغان بالفعل قبل التعاون مع السادات، في أغنية “خربان” في أغسطس 2018، إلا أن ذلك التعاون فتح أبوابا جديدة للشهرة أمام ويجز، وحققت الأغنية نجاحا لافتا، ووصل عدد مشاهداتها على موقع “يوتيوب” نحو 15 مليونا.
لم يقتصر التعاون والاندماج بين مغني الراب والمهرجانات على ويجز والسادات، بل باتت السمة الرئيسية والثيمة المتكررة، حيث شارك ويجز مع المغني الشعبي حسن شاكوش في أغنية “سالكة”، وهي إعلان دعائي بالأساس، وتعاون مروان موسى مع مغني المهرجانات الدوبل زوكش في أغنية “فرصة”، وتعاون الرابر أبوالأنوار مع مغني المهرجانات الدوبل زوكش والمغني عنبة في أغنية “العو”.
خرجت تلك التعاونات من المهرجانات والراب لتشمل أشكالا أكبر، فمثلا الفنان الشعبي أحمد سعد، تعاون مع عنبة ودبل زوكش في أغنية “الملوك”.
لماذا ويجز؟
إذا كانت صورة حفلة ويجز أو نجاح الراب، شهادة نجاح جديدة لموجة الموسيقى المصرية الجديدة، ربما تساءل البعض عن السبب الذي قصر تلك الضجة بحفلة لويجز، ولماذا لم تظهر من قبل مع مغني المهرجانات؟
تبدو الدولة أو الجهات الرسمية في مصر أكثر تسامحا مع الرابرز منها مع مغنّي المهرجانات، حيث ينظرون إلى الرابرز في النهاية على أنهم متعلمون، بعضهم خريج مدارس أجنبية، يدسون كلمات أجنبية في أغانيهم، فضلا عن أن الراب نفسه فن مستورد، فكانت بداية ظهوره في سبعينات القرن الماضي في الولايات المتحدة.
ويشير محمد الأسواني لـ”العرب” إلى أن مطربي المهرجانات لا يُسمح لهم بإقامة الحفلات في “المنارة”، وهي مكان رسمي أو شبه رسمي في القاهرة، ويتم التضيق عليهم، سواء لأن السيطرة عليهم غير مأمونة، أو من منظور طبقي بأن أمثالهم لا يستحقون الانتشار والشهرة، فغالبيتهم لم يحظ بفرصة كاملة من التعليم، وهم أبناء الطبقة الشعبية أو المهمشة، فقد سمى البعض أغاني المهرجانات بـ”صوت المهمشين”.
وهناك الكثير من الأدلة التي تثبت أن المهرجانات والراب لن يختفيا سريعا، وأنهما لم يكونا زوبعة، فخلال عقد ترسخ هذا اللون، وشهد الكثير من التجديد، بل و”الثورة الفنية” كما يحب الصحافي المعني بتتبع تلك الحركة وتطورها أحمد شعبان وصفه.
الجيل الذي شبّ على عالم منفتح تماما، كل شيء متاح فيه عبر الإنترنت، لم يكن ليرضى بالأسلوب الغنائي نفسه، الرتم الرومانسي أو الهادئ أو البطيء فيما يختبر من حوله حياة سريعة لاهثة
ويضيف “فرضت المهرجانات نفسها رغم الرفض الذي واجهته في البداية على أساس طبقي، وانتشرت بين الطبقات الأغنى، ورغم أنها تقولبت ولم تعد كما كانت في نسخها الأولى الأكثر تحررا التي لا تستحي أن تطلق السباب أو تناقش مواضيع جريئة، لكن التجربة أثبتت قدرتها على الاستمرار والتجديد”. ويقول شعبان “مولوتوف”، وهو موزع موسيقيّ وأحد المسؤولين الرئيسين عن تلك الطفرة الموسيقية الخارجة عن المألوف، “طاقة متفجرة وعلامة بارزة في المهرجانات والراب الشعبي، إيقاعاته ساهمت في نجاح أغان كثيرة، ورفعت أسهم نجوم جدد، ووسعت قاعدة مستمعي الراب والمهرجانات منذ تعاونه مع مروان بابلو في أغنية ‘الجميزة’ و’فري’ وغيرهما، وصولا لتعاونه مع ويجز في أكثر من أغنية، آخرها ‘دورك جاي’، التي توجت ويجز ملكا على عرش الموسيقى المصرية العام الماضي”.
يلفت الأسواني إلى أن التساؤل أو التحدي يدور حول الأسماء الموجودة حاليا، وليس حول المهرجانات أو الراب كقوالب فنية، فمن قبل حين ظهر عمرو دياب ومحمد منير ظلا على القمة لعقود حتى وجدا من ينافسهما، لكن الآن كل بضعة أيام تظهر أسماء جديدة وتلمع وتختفي أخرى وتتراجع، لأن عمر الشهرة والقمة قصير وسريع.
لذا يبقى التساؤل لقياس درجة صعود المنحنى الممثل لأغاني الراب والمهرجانات، وما إذا كانت قد وصلت إلى الذروة وتنتظرها موجات من الانكسار أم أنها ستظل ثابتة لفترة في نقطتها الحالية أم أنها ستواصل الصعود؟