عدد قديم من تلك الصحيفة

زميل في "العرب" في مصر لديه متعة استثنائية في تصفح أرشيفات الصحف والمجلات المصرية. أرشيفات الصحف شيء مرعب. تتحداك تلك الكمية من الورق، سواء أكانت مجلدة ومؤرشفة أم أكواما من التعاقب لأعداد مفردة. الصحف مدونة يوميات للحدث. شيء يشبه حوليات التاريخ، ولكنها بالتأكيد ليست تاريخا. البعض يقول إنها النسخة الأولى من التاريخ. لست في وضع الحكم.
لا أستطيع منافسة زميلنا بجَلَدِه وتحمّله، لكنّ لديّ ولعا لا بأس فيه في تصفح جريدة قديمة. بعض المطاعم والفنادق والحانات تعرض صفحات من صحف نشرت شيئا لافتا. النصر على النازية مثلا. سقوط جدار برلين. وفاة مارلين مونرو. اغتيال جون كينيدي. الغرب أقل حساسية من الشرق. يمكن أن تجد صفحة لجريدة معروضة تحمل صورا لألدّ أعداء بريطانيا. من يجرؤ على عرض صفحات لصحف فيها رئيس سابق أو مخلوع في دولة عربية؟
أذكر ذلك اليوم الذي أزلنا فيه البانيو من الحمام في عملية تجديد للمنزل. العامل الذي اشتغل هناك قبل أكثر من 20 عاما ترك عددا من صحيفة تابلويد بريطانية. كأنني عثرت على كنز. شكرا له، فكأنه رمى رسالة في قارورة من تلك التي نسمع عنها في حكايات الضياع وغرق السفن. أوراق لم تصفرّ تماما، لكنها كبسولة زمن.

ابنتي انتبهت للأمر، فجاءت يوما تهديني نسخة من عدد صحيفة التايمز من يوم تخرجي في الثمانينات. فرحت بالهدية كثيرا. تتصفح العدد فتجد حرب الناقلات مشتعلة بين العراق وإيران. بقيت الحرب وتقاعدت الناقلات القديمة.
صديقي الراحل بوخلف رحمه الله احتفى في مجلسه بنسخة من أول عدد لصحيفة “الاتحاد” الظبيانية الغرّاء. هذه محطات لا يمكن أن تنسى بسهولة في تاريخ الشعوب. كان لديه حس مرهف بأهمية التاريخ والتراث.
عندما دخلت صحيفة “العرب” محررا مبتدئا قبل سنوات طويلة، تسللت للأرشيف. الراحل الجميل ذو القلب الطيب يوسف الهوني تعهد أرشيف المؤسسة. “تعال يا هيثم لأريك خبايا الأرشيف”. عندما سحب مجلد العرب الأول، أعطاني الإيحاء بأنه يفرك المصباح السحري ليظهر المارد. عندما تصفحت المجلد الأول، قدرت إحساس يوسف بالتاريخ. “شبيك لبيك”. شيء ممتع حقا. تخيل نفسك في معمعة التسعينات وبعد حرب الخليج، وبكل ما يعني هذا من صدمة لشاب في العشرينات. لكن الصفحات التي أمامك من أعداد السبعينات تتحدث عن كامب ديفيد وأنور السادات ومناحيم بيغن أو من الثمانينات عن صراع الحبيب بورقيبة ومحمد مزالي. ناس ملأوا عصرهم واحتفت بهم الصحافة سلبا أو إيجابا.
كانت تلك الصفحات من أوائل الدروس التي تلقيتها في الهدوء أمام النكبات. لا شيء يبقى على حاله. اطمئن. القادم قد يكون أسوأ.