من يدفع فاتورة التقشف في تونس: الدولة أم الناس

لا شك في أن غالبية التونسيين قد وقفت إلى جانب الرئيس قيس سعيد في خطواته منذ الخامس والعشرين من يوليو والتي قادت إلى التخلص من منظومة هيمن عليها الفساد واستصغار الدولة والاستغراق في الملف السياسي وإدارة الظهر لقضايا الناس على المستويين الاقتصادي والاجتماعي.
لكن أعينهم ما تزال مفتوحة لرؤية أي طريق سيقودهم إليها الرئيس النظيف والنزيه، فقد استحسنوا الحرب على الفساد وحرصه على استعادة أموال الدولة التي نهبت من قبل الثورة ومن بعدها. كما باركوا حربه على الفساد السياسي ولم يكن مهما جدا بالنسبة إليهم السقف الذي يمكن أن يصل إليه سواء بحل البرلمان أو الأحزاب وفق تقرير محكمة المحاسبات أو سجن هذا الوجه السياسي أو ذاك، وتجد لكل خطوة يخطوها دعما كبيرا.
الآن بدت الصورة غير واضحة بعد أن حث الرئيس التونسيين على التقشف في مرحلة أولى، ثم دعاهم للمشاركة في التعبئة المالية لإنقاذ المالية العمومية، أي ضخ تبرعات شعبية لأجل المساهمة في تغطية النقص الكبير في ميزانية 2021 (أربعة مليارات دينار تونسي، أي حوالي مليار وربع مليار دولار)، وهو رقم كبير خاصة أن الدعوة جاءت عامة ولم تفسر كيف يمكن جمع الأموال ومساعدة الدولة، هل سيتم عبر صندوق جديد شبيه بصندوق 26/26 الذي عبأ الأموال لفائدة الدولة في عهد الرئيس الأسبق الراحل زين العابدين بن علي أم بشكل ضريبة أم سندات؟
الأزمة المالية لا تتوقف على توفير رواتب شهرين أو ثلاثة، فهذه مهمة سهلة، لكن الأهم هو وقف الفوضى المالية خاصة في المؤسسات العمومية الكبرى، التي تعيش أغلبها حالة إفلاس شبه كامل
ومن المهم الإشارة إلى أن الفئة الكبيرة من التونسيين الذين ساندوا قيس سعيّد وتظاهروا لأجله في الخامس والعشرين من يوليو هم من الفئات الضعيفة والهشة ومن العاطلين عن العمل وخريجي الجامعات الذين قادوا حملته الانتخابية، فمن أين لهذا الجمهور بالتبرع للدولة؟
إن التقشف مهمة الدولة، وسد العجز المالي كذلك، ولكل دولة طرقها سواء في تعبئة الأموال من الداخل أو من الخارج.
في الداخل هناك حلول كثيرة بدءا بسرعة ضبط طرق لاستعادة الأموال المنهوبة والمسروقة، وهي بأرقام كبيرة وفق ما أشار إلى ذلك الرئيس سعيّد نفسه في أكثر من كلمة.
من المهم إغلاق موضوع المصالحة مع رجال الأعمال الذين سبق أن أخذوا أموالا ولم يعيدوها، إغلاقه بشكل بات حتى لا يتحول الأمر إلى مسلسل ممل يساهم في دفع رجال الأعمال التونسيين إما إلى الهروب إلى الخارج، أو الانكفاء في الداخل على مشاريع محدودة وباعتمادات قليلة بانتظار توضح المشهد، إذ من حق رجل الأعمال أن يخاف وينكفئ ويحتفظ بماله خاصة مع فوضى المصالحات التي شهدتها السنوات العشر الماضية.
الآن الوضع اتضح، والناس بما في ذلك رجال الأعمال متفائلون، ويفترض أن تتم مصالحة على أسس واضحة تستعيد فيها الدولة أموالها وتسترد حقوقها، وكذلك توفي رجال الأعمال حقوقهم بتسديد ديون الدولة لفائدتهم، فهناك مشاريع كثيرة معلقة لأن الدولة لا تدفع الأموال للمقاولات والشركات.
من المهم كذلك أن تقوم جهة ما في الدولة بدور هيئة مكافحة الفساد المعلقة أعمالها بجرد دقيق لأموال الفساد التي تتهم بها أحزاب وشخصيات سياسية وحكومية ما قبل الثورة وخاصة ما بعدها، فالناس تسمع قصصا كثيرة عن نهب منظم ومشاريع عملاقة لدى فلان وعلان، وتتوقع أن استعادة هكذا أموال ستساعد الدولة على توفير أموال ضرورية لميزانيتها على أن يتم ذلك بعيدا عن الاستثمار السياسي وألا يترك لفوضى التصريحات والتسريبات التي ترفع من سقف انتظار الناس ويمكن أن تقود إلى خيبة أمل حين يكتشفون أن الكثير مما يروج ليس دقيقا أو ليس موجودا.
إن التقارير الدقيقة في هذا المجال مهمة ليس فقط في توفير الموارد المطلوبة، ولكن الأهم أنها تعيد الثقة في الدولة وجهازها الرقابي والقضائي، وأنها قادرة على أن تعود دولة قوية وفاعلة ونزيهة، ما يشجع الناس على تصديقها، والمساهمة الفعلية في التبرعات أو بناء المشاريع صغيرة أم كبيرة.
وقال الرئيس سعيّد في مجلس وزاري إن التونسيين داخل وخارج البلاد يمكنهم المساهمة في إيجاد التوازنات المالية، وأن الأموال التي سيتم تجميعها ستخضع للرقابة المباشرة لرئاسة الدولة، وأنه “لن يذهب أي مليم إلا في ما رصد له”.

وهذا بيت القصيد، فالناس تثق في الرئيس سعيّد، لكنها لا تثق في الدولة كجهاز، وصور الفساد ما تزال ماثلة أمامهم في تفاصيل حياتهم بدءا من المحليات وصولا إلى مشاريع البنية التحتية والماء والكهرباء، والموانئ والمطارات.
هناك مؤشرات جيدة على معالجة الفساد في مواقع قريبة من الناس بمقاضاة وسجن بعض من ثبتت عليهم تجاوزات في حق المال العام، أو استثمروا وظائفهم لتحصيل مكاسب بطرق غير شرعية، وطال الأمر بعض الوزراء والولاة (المحافظين) وموظفين في وزارات ومحليات وغيرها.
وعلى الدولة، أيضا، أن تعالج حالة كبيرة من الإسراف في المال العام، سواء بشكل غير قانوني أو بشكل مقنّع أو مكشوف، ويتعلق الأمر بشكل مباشر بالإسراف لدى موظفي الدولية وأسطول السيارات وتكاليف البنزين الذي يصرف على مهمات خاصة بكبار الموظفين أكثر منه على مهمات تابعة للدولة. وهي وضعية تحتاج إلى جرأة وحزم من رئيس الجمهورية الذي يمكنه وحده أن يتخذ قرار حصر استعمال السيارات الإدارية على العمل داخل المؤسسات، وليس في المهمات الخاصة، وهي إجراء لو حصل سيوفر على المدى القصير والمتوسط عائدات لا بأس بها للميزانية ويحسن الخدمات داخل الإدارة.
إن الأزمة المالية لا تتوقف على توفير رواتب شهرين أو ثلاثة، فهذه مهمة سهلة، لكن الأهم هو وقف الفوضى المالية خاصة في المؤسسات العمومية الكبرى، التي تعيش أغلبها حالة إفلاس شبه كامل وتعتمد على الحكومة سنويا لأجل تعويض الخسائر تحت مظلة إصلاح المؤسسات المعنية، لكن كل عام تتوسع دائرة الخسائر وتتجنب الحكومات الصدام مع النقابات التي ترفض أي تغيير يمس من مزايا الموظفين.
لكن هذا لا يعني القطيعة عند وضع خطط الإصلاح مع هذه المؤسسات، التي يفترض بفعل دورها الخدمي أن توفر سنويا فائضا كبيرا للدولة مثل شركة نقل تونس، والقطارات، والمطارات، والموانئ، وفتح حوار مع الاتحاد العام التونسي الشغل بشأن إصلاحها بما يقود إلى حوكمة حقيقية يتم فيها تقليص العمالة الزائدة عن اللزوم، وهناك حديث عن توظيف مثير للشكوك في بعضها مستفيدا من فوضى مرحلة ما بعد الثورة وقوة النقابات.
إن الحوار مع اتحاد العمال الرئيسي شيء مهم جدا من أجل وضع البلاد على سكة الاستقرار، والمقصود حوار متوازن تراعى فيه مصلحة تونس بعيدا عن مناخ السنوات الماضية واستعراض القوة لدى النقابات من أجل التمهيد للإصلاح المطلوب من صندوق النقد الدولي الذي ستدخله تونس رضيت أم لم ترض، وهو سيمس في الصميم مصالح الجميع لمرحلة قد تتجاوز العشر سنوات من أجل إعادة الاقتصاد على السكة.
إن التقشف لا يعني آليا زيادة الضرائب على المواطنين، فذلك عنصر من عناصر عدة تقوم بها الحكومات، وليس هو الأول في أي خطة، ولأجل هذا لا بد من أن تعتمد حكومة السيدة نجلاء بودن على الوضوح والمصارحة وتوسيع التقشف ليطال كل المجالات الممكنة من نفقات الدولة والوزارات ومؤسسة رئاسة الجمهورية، إلى مؤسسات القطاع الحكومي المترهلة، وصولا إلى تنفيذ خطط الضرائب على الشركات والمؤسسات ذات النفوذ والتي لا تستجيب لما تطلبه الدوائر الحكومية.