"في بلاد العم سالم" فيلم تونسي قصير يشبه طلقة من مسدس تشيخوف

حكاية حارس مدرسة بعيدة تختصر خيبة أجيال من التونسيين.
الجمعة 2021/11/05
تفاصيل مشغولة بعناية

“الأصل في السينما هو الشعر” مقولة وجدت الكثير من الرواج لدى عدة نقاد وسينمائيين حتى، ولكن المتتبع للكثير من الأفلام التي تقدس هكذا مقولة سيجد أن لا شعر فيها بقدر ما فيها تهويمات تدعي الشعر. وفي الجانب الآخر هناك من يدعو إلى تخليص السينما والروايات من الشعر لأنه يضر بها، وهذا أيضا رأي متحامل. لا تضاد بين الشعر والسرد والكتابة والصورة، إنما العلاقة هي التكامل. فيلم يخلو من الشعرية ربما قد لا يقدر له الصمود أكثر من لحظة عرضه. وهذا ما انتبه له منتجو الفيلم القصير “في بلاد العم سالم” لينجزوا عملا رهانه التكامل.

ضمن فعاليات أيام قرطاج السينمائية عرض أخيرا الفيلم القصير “في بلاد العم سالم” للمخرج التونسي سليم بالهيبة الذي يشارك في المسابقة الرسمية للأفلام الروائية القصيرة في هذه الدورة.

وقد توج الفيلم بالعديد من الجوائز من بينها جائزة مهرجان الفيلم الأفريقي ببلجيكا في دورته الـ25، وكذلك جائزة في الدورة الـ25 للمهرجان الدولي لسينما المؤلف في الرباط (المغرب). وهو ما يؤكد أهمية هذا العمل الذي يبدو في ظاهره حكاية بسيطة بينما يخفي اشتغالا ماهرا على التفاصيل لصياغة حكاية شعب بأكمله من خلال قصة حارس مدرسة.

في مكان بعيد

الإشارة والتلميح والتكثيف سمات ميزت الفيلم الذي لم نر فيه ولو لقطة زائدة عن الحاجة في تفاصيل مضبوطة

يبدأ الفيلم من مشاهد لحارس مدرسة عين الرقاد، التي تقع في منطقة ريفية بعيدة بين الجبال والسباسب، في زمن لا نعلم منه سوى أنه قبل العودة المدرسية، بينما ريح الخريف تبدأ في الحركة من حوله منبئة بانتهاء فصل الصيف وعطلة الدراسة السنوية.

 رجل خمسيني صامت، بوجه تملؤه الجدية والترقب، يعمل دون كلل من مكان إلى آخر بين أرجاء المدرسة. يحاول إصلاح أعطاب الطاولات والكسور في زجاج النوافد والصابورات، ودهن الجدران وتهيئة القاعات لاستقبال التلاميذ، كل ذلك بمفرده لا أحد يدفعه إلى ذلك.

يتوقف حارس المدرسة عند العلم التونسي الممزق على العمود في وسط الساحة، حيث تقام تحية العلم الصباحية كل يوم في المدرسة، على غرار مدارس تونسية كثيرة.

من هنا ينتقل الحارس في رحلة مثيرة من القرية التي لا نعرف اسمها، إلى شوارع المدينة، هي تونس العاصمة ربما. رحلة لم ينبس فيها الرجل بكلمة، فيما تتبعه الكاميرا بين أزقة المدينة القديمة، وصولا إلى محل، من المحل يقتني علما تونسيا جديدا. السعادة تحتل وجهه، وها هو في طريق العودة إلى مدرسته، مملكته، بلاده الراسخة بين الجبال.

الرحلة الصغيرة والبسيطة لا تنتهي بهدوء كما تنبئنا تفاصيلها المشغولة بعناية، بل تنقلب رأسا على عقب، العم سالم يجد نفسه وسط مظاهرة، هي وفق ما يبدو مظاهرة أيام الثورة التونسية ضد نظام بن علي، يفشل في الفرار، يحاصرهم البوليس، ويودى به إلى السجن بتهمة جاهزة حينها ضد المتظاهرين من قبيل الإخلال بالنظام العام والشغب والتخريب وغيرها.

الرجل بريء مما ينسب إليه. الحكم جائر، لكن وللمفارقة ما يثبت التهمة هو أنه يحمل علما في يده. العلم أداة جريمة وإثبات لها.

مفارقة ينجح الفيلم في صناعتها بعناية كما سنرى في تشكيله لمشاهده ولحكايته، بشيء من الدقة التي للأمانة لا نجدها في الكثير من الأفلام التي تنسب نفسها إلى الأفلام الروائية القصيرة، فيما هي لا تكتسب من القصر إلا قصر الوقت.

خلل فادح يضرب عدة أفلام قصيرة عربية، لا تنضبط في جوهرها إلى خصوصيات الفيلم القصير، الذي يوحي أكثر مما يقول، والذي لا يقبل في رأيي الزوائد، لا في المشاهد أو الشخصيات أو التفرعات وغيرها مما يُسمن.

وربما من هنا يمكنني تشبيه الفيلم القصير بالقصة القصيرة، إنه يشبه “مسدس تشيخوف”، الذي جاء من مقولة الكاتب والقاص الروسي الشهير “إذا كان لديك في المشهد الأول مسدس موضوع على الطاولة، يجب أن يُطلقَ به في المشهد الثالث”.  ومن ثم القصة كالطلقة، مكثفة ولها هدفها. هكذا في رأيي الفيلم القصير، ولو بتنسيب.

الاشتغال على الشعرية

Thumbnail

مصير العم سالم السجن إذن، الحارس يفشل في تركيز علم جديد في ساحة المدرسة. الجو رمادي أكثر. فقط صراخ الصبية والفتيات الصغار مع عودتهم إلى الدراسة. المدرسة فضاء حي من جديد. لكن العم سالم الذي خرج من السجن للتو ليس سعيدا.

العم سالم لا يقول ولا كلمة طيلة الفيلم، عدا شتيمة يوجهها إلى أحد المعلمين الضحوكين وهو يحثه على الإسراع، ومن بعدها يغرق في جو تضاعفت رماديته، واشتدت ريحه، بينما العلم القديم تزعزعه الريح بقوة.

إنها حكاية الثورة وخيباتها يرويها سليم بالهيبة بدقة ودون زوائد أو تفرعات، خيبة التونسيين الحالمين بالإصلاح رغم صعوبة الوضع، والطامحين إلى صون الوطن، وليس أهم من الراية دلالة على الوطن الذي كان من المفروض أن تهيئ فيه الأجيال ظروف النجاح لبعضها البعض، وأن يكون الوطن لا كلمة على بطاقة، بل مفهوما راسخا، وأن يكون العلم لا قطعة قماش بل عقيدة.

كثيرة هي العناصر التي تلفت الانتباه في الفيلم، بداية من الأداء الممتاز لشريف مبروكي الذي قام بدور الحارس، ونعلم صعوبة أن يكون دورك دون حوار، وتتنقل من حال إلى حال لتروي ما بداخلك من خلال جسدك وملامحك، وهو ما أتقنه، في جو التوتر والجد ومن ثم السعادة بالعلم الجديد وبعده الخوف، فالانكسار بعد السجن، والغضب والخيبة التي تخفي بذرة صغيرة من الأمل، لمعاودة الإصلاح.

ما يلفت الانتباه في الفيلم الاشتغال الدقيق على المشاهد ومن ثم الأداء الممتاز لشريف مبروكي في دور الحارس

ما يلفت أكثر هو الاشتغال الدقيق على المشاهد، سواء من أمكنة التصوير في المدرسة أو بين الأزقة، وعناصر هذه الأماكن التي تخلق شعرية المشهد، بداية من الكسر في النوافذ، وما للنوافذ من دلالة، ثم الطلاء وغيره من الإصلاحات المحدودة والتي تبدو ضئيلة أمام الوضع الذي يجب إصلاحه، هنا المدرسة، ومن بعد الدلالة الكبرى للعلم التونسي، العلم الذي يتوحد تحته التونسيون كبارا وصغارا، ويدافعون عنه بقوة ضد كل اعتداء، وكلنا نتذكر حادثة إنزال العلم التونسي من كلية منوبة قبل السلفيين أيام حكم الإخوان وكيف تصدت له شابة ليعاد العلم من جديد. العلم رمز لوطن.

الشعرية لا نقصد بها الإغراق في المشاهد التأملية وتركيبها بعيدا عن الحكاية، كما يفعل بعضهم تحت لافتة السينما الشعرية، ما عادت ذائقة المتلقي اليوم تقبل بشكل كامل أفلاما من قبيل أفلام تاراكوفسكي على أهميتها، وما عادت السينما مغرقة في التأملات بحجة الشعرية، الشعرية نفسها تغيرت إلى الاهتمام بالتفاصيل بنوع من السردية، وربما لم ينفك الشعر أبدا منذ ولاداته الأولى عن السرديات الكبرى من إلياذة هوميروس إلى ملحمة فيرجل الرومانية إلى ملاحم الشعراء الجاهليين وصولا إلى ما يخطه شعراء معاصرون.

الشعر لم يكن في يوم بعيدا عن السرد، بل هما يتكاملان. وهنا استفادت السينما على امتداد تاريخها من قدرة الشعر على خلق كثافة سردية ومن جوهره القائم على الاختزال والإشارة والتلميح أكثر من القول.

الإشارة، التلميح والتكثيف سمات ميزت الفيلم الذي لم نر فيه ولو لقطة زائدة عن الحاجة، بل اعتنى المخرج بكل التفاصيل من اللون الرمادي إلى الأبيض إلى الألوان المضمحلة مثل لون العلم المهترئ، إلى توظيف الريح والطبيعة والأماكن الضيقة والمفتوحة. كما وظف الأصوات بعناية، وهي التي كانت تدفع الأحداث إلى التصاعد، وهي تلاحق حركات العم سالم الدؤوبة.

14