"أبنية مهملة" تسكنها الريح في لبنان الجريح

يتواصل حتى السابع عشر من نوفمبر الجاري في صالة “جنين ربيز” البيروتية معرض للتشكيلية غادة زغبي حمل عنوان “أبنية مهملة”، ثابرت فيه الفنانة اللبنانية على تقديم أعمال فنية مستقاة من الواقع وبأسلوب واقعي يُحيل في واقعيته المتطرفة إلى عوالم داخلية ومواقف خاصة من العالم المحيط.
بيروت - يدور المعرض الجديد لغادة زغبي المقام حاليا في صالة “جانين ربيز” البيروتية حول موضوع عنونته الفنانة التشكيلية اللبنانية بـ”الأبنية المهملة”، ضمّ ستة عشر عملا فنيا مشغولا بمادة الأكريليك وبضعة أعمال أخرى على ورق مشغولة بالفحم وبألوان الأكريليك. وقد تميّزت هذه الأعمال بحدّة خطوطها وسلطة تمركز مشاهدها وسط اللوحة.
وقدّمت زغبي معرضها بهذه الكلمات، لا بل قدّمت أجواءه بهذه الكلمات “كنت أمشي في شوارع المدينة، أقف مليا أمام المشاريع المبتورة، نصف المنجزة: هل هذه أحلام مجهضة؟ توقٌ مبتور أو أطفال متروكون؟ لماذا نبني هذه المشاريع ثم نتركها للدمار؟ والأهم لماذا يبدو الهجران كأنه صنوٌ للتدمير، تماما مثل الإجهاض؟”.
أسلوب مُوارب
تضع الفنانة اللبنانية زائري معرضها أمام تقنية فنية عالية جدا حقّقتها حتى في معرضها الفني الأول الذي جرى في غاليري “آرت سبيس الحمرا” تحت عنوان “أنظمة الشخصي”، حيث عرضت في كل لوحة خزائن واقعية جدا ولكن مُواربة، لأنها مفتوحة دون أي تحفظ، كما عرضت كل محتوياتها التي تدفّقت إلى خارج الخزائن، وبالرغم من ذلك ظلّت سرّية، لأنها أغرقت الناظر إليها في سيل من تفاصيل ملوّنة تشتّت الذهن وتحضّه على استخلاص المعنى الساري في تلافيف أغراض الخزانة وماهيتها.
وهي اليوم في معرضها الجديد تتّبع الأسلوب المُوارب ذاته، الذي يصطدم فيه الواقعي البحت بإحالات عديدة هي أبعد بكثير ممّا تراه العين.
كما ذكرنا آنفا، لوحات الفنانة الجديدة تحضّ الناظر إليها على استنباط المعنى ممّا يبدو ظاهريا أنه تجسيد لعمارات مختلفة جرى بناؤها وأهملت، فلم تُتم ولم تُسكن وتُعمّر.
وللتأكيد على هذه المسألة طرحت الفنانة أسئلة في بيانها الصحافي الخاص بالمعرض، أهمها هذا السؤال/ التساؤل “لماذا يبدو الهجران كأنّه صنو للتدمير، تماما مثل الإجهاض؟”. وحاول وسيحاول كل من زار معرضها أن يُجيب على هذا السؤال المُفخّخ حتما.
بداية يمكن القول إنه بالرغم من كون الفنانة وضعت تلك الأعمال تحت عنوان “العمارات المهملة” لتدلّ مُشاهدي لوحاتها على أنها عمارات بدأ العمل عليها فأُهملت، إلاّ أنها فتحت لهم الطريق إلى التساؤل عن تلك العمارات: هل الإهمال هو الوصف التام لحالة العمارات؟
لا شك في ذلك إن توقّف المُشاهد عند حدود واقعية المشهد. لكنْ ثمة أمر آخر لا يلبث أن يتكشّف ويدعم وجود “أمر آخر”، فخلفيات تلك العمارات خصّصتها الفنانة لسماوات مزدحمة بالتعبير! سماوات أبوكالبتية متواطئة مع هيئات تلك الأبنية المُثيرة للريبة.
إنشاء مُضاعف
عمارات زغبي تبدو وكأنها غير مُكتملة، ولكنها “مُكتملة”. إنها عمارات ليست مُهملة ولا مُعدّة لترميم لم ولن يحدث. فهي تبدو وكأنها صُمّمت لتكون هكذا في صيغة لا نهائية. ولكن لماذا تطلّ علينا هذه العمارات البارزة بسلاسلها الفقرية وهياكلها الحديدية كحالة كاملة لا تنتظر مرحلة نهائية؟
عمارات أُنجزت لتكون غير منجزة بشكل يجعلها غير قابلة للسكن، فأصبحت دليلا على زمن هامشي لا يعوّل عليه، وقد انتقل إلى وتيرة حياتنا اليومية المنهمكة بتفاصيل ومهمات تُعتبر من البديهيات في مدن العالم.
ولطالما كان “الواقع” في اللوحات السابقة للفنانة هو الدرجة الأولى والأخيرة من سلم تشكيلاتها الفنية المُعبّرة، إنه العتبة التي تنطلق منها الفنانة لتوغل بعيدا في الإحالات النفسية والفلسفية والاجتماعية والسياسية.
عمارات زغبي أُنجزت لتكون غير منجزة بشكل يجعلها غير قابلة للسكن، كدليل على زمن هامشي لا يعوّل عليه
ويلعب اللون البني دورا هاما جدا في تمكين هذه الفكرة المذكورة آنفا، وإن كانت وفْرته قد خنقت معالم لوحاتها. يحضر دائما اللون البنيّ بشكل مراوغ مُطعّما بالوردي، بالبنفسجي، بالأصفر، بالأحمر، وبالأسود وبالأزرق المعدنيّ الذي يفتح فوهات في تلك الأبنية كأنه يسمح لها بالتنفس، ولكن فقط بالقدر الكافي، لتبقى صامدة بوهمه (أي وهم الزُرقة) الذي يخترق الأفق في أوجّ الاختناق.
حتى الهواء يشي بالفكرة ذاتها، يحيط بتلك المنازل ثقيلا على كاهل العمارات، يتخلّلها ويتسلّل إلى جميع مساماتها مُثقلا بذرات الجوّ والغبار، ومحمّلا بالمعاني والإيحاءات الكئيبة.
لوحاتها تلك لا يمكن استيعاب قدراتها الإيحائية، والتي حتما تعتمد على قراءة المُشاهد الشخصية والمطلعة على أعمال أخرى لفنانين لبنانيين (أعمال كثيرة جدا) رسموا فيها البيوت اللبنانية التقليدية في تألقها، أو تعرّضها للإهمال أو التدمير أو الترميم. هذه اللوحات على الرغم من جماليتها لا تأخذنا إلى أبعد منها، خلافا لعمارات غادة زغبي.
ويأتي هنا ما نحبّ أن نسميه بالإنشاء المُضاعف، وهو يكثّف رمزية هذه الأبنية. الإنشاء الأول هو لمظاهر الأبنية المباشرة. أما الثاني فهو للعمل البشري الواضح من خلال الأعمدة الحديدية المنصوبة خارج المباني من أجل مهمة عُمّال البناء. لا نراهم في اللوحات، ولكن نعلم أنهم نصبوا هياكلهم تلك على أتم وجه (خلافا للعمارات) وغادروا.
غادروا لأن العمارات في حالتها “غير المنتهية” هي النهائية؛ لأن أصحابها أو عمّالها أو مالكوها أرادوا أن تكون على تلك الشاكلة: مجرد مشاريع بناء مرصودة للاضمحلال.
البناؤون/ المالكون/ الساكنون/ الغامضون/ المجهولة أسماؤهم والمعروفة إخفاقاتهم في مجال “الوطنية” صنعوا قدر تلك العمارات، كما صنعوا حياتهم وحياة الآخرين التي يخيّم عليها اليوم ظل انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس 2020. كم يشبهوننا هؤلاء، نحن الذين لم نبدأ بأي إنشاء واعد إلاّ وهدّمناه وجعلناه عبرة لمن اعتبر بشكله وحياته المدمّرة بصيغتها النهائية.
والفنانة غادة زغبي من مواليد شمستار البعلبكية التي أنجبت الكثير من الفنانين الموهوبين، وهي حاصلة على شهادة في الفنون الجميلة من الجامعة اللبنانية التي خرّجت أفضل الفنانين اللبنانيين على الإطلاق بالمقارنة مع باقي جامعات لبنان الخاصة، حتى يكاد فنان “الجامعة اللبنانية” يُعرف من أول نظرة إلى لوحاته.
