محمد شرفي مفتي الحياة السياسية في الجزائر ورئيسها "الحلال"

يُعتبر الرئيس الحالي للسلطة المستقلة لتنظيم الانتخابات الجزائرية محمد شرفي نموذجا حيا لطبيعة المنتوج السياسي الذي تفرزه المدرسة الوطنية للإدارة منذ افتتاحها في مطلع الاستقلال إلى غاية الآن، فهي تخرّج كوادر موالية ووفية للدولة، يمكن لها أن تتماهى مع كل الأنماط السياسية وتتكيف مع جميع الوضعيات، ولم يحدث إلا نادرا أن تمرّدَ واحد من خريجي المدرسة المذكورة على النظام السياسي، كأن يتحول مثلا من كادر خادم للدولة إلى معارض للسلطة.
وشرفي، رجل القانون والسياسة، واحد من هؤلاء؛ حيث تدرج في مختلف المناصب القضائية والقانونية والسياسية. ورغم التحولات الداخلية والمعارك المندلعة بين الأجنحة الضاغطة حافظ على مكانته واستطاع امتصاص أقوى الصدمات، حين كان الصراع على أشده بين جناحي الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة وبين رجل الاستخبارات المتقاعد الجنرال محمد مدين “توفيق”، ولما احتدمت القبضة الحديدية بين قائد الجيش السابق الجنرال الراحل أحمد قايد صالح في آخر أيام حياته وبين خصومه داخل المؤسسة العسكرية.
ذرف الدموع
ولأن الغاية تبرر الوسيلة في منطق الكثير من المسؤولين في الجزائر فإن شرفي لم يتوان عن ذرف الدموع على رحيل رجل الجيش القوي في السابق، والتصريح لوسائل الإعلام بعد إلقائه النظرة الأخيرة على جثمانه في ديسمبر 2020 بأن “الراحل هو الذي وضع فيه الثقة لإدارة سلطة الانتخابات”، في تهذيب لتلبية الأمر.
لكنه سرعان ما تدارك ذلك بالتعبير عن أن رئاسته للسلطة المذكورة هي نتيجة لما انبثق عن مكوناتها وفق مقتضيات النصوص الناظمة، وذلك حين أدرك أن الرجل الذي عينه في المنصب صار من الماضي، وأن الحاضر هو للاعب جديد في الساحة.
وإذا أقيمت الحجة على السلطة الجديدة في البلاد في يوم ما، بأنها هي امتداد للنظام السياسي القائم في البلاد وأن التغيير هو مجرد شعارات جوفاء وأن ما حدث ما هو إلا مجرد تبادل أدوار واستبدال الممثلين على الركح لا غير، فإن الحجة ستكون في شخص رئيس السلطة المستقلة لتنظيم الانتخابات شرفي؛ فهو المتدرج في مختلف المناصب القانونية والقضائية والسياسية بداية من ثمانينات القرن الماضي إلى غاية العشرية الجارية، ومرورا بعقدي الحقبة البوتفليقية، فقد اشتغل طيلة مساره المهني تحت الظل وتحت الأضواء، ممثلاً أحد النماذج الرابطة بين مختلف مراحل وحقب النظام السياسي الجزائري.
لعبة شاهد الزور
وشكلت التزكية التي ارتدت ثوب الانتخاب- حيث كان آنذاك رئيس السلطة الوطنية المستقلّة للانتخابات التي نظمت في 2019، طبقا لأوامر فوقية بشهادة أعضاء من الهيئة- أولى مناورات السلطة لتوجيه الاستحقاقات الانتخابية المبرمجة، ومؤشرا قويا على الدور الذي سيضطلع به الرجل في الإشراف على مخرجات الاستحقاقات الانتخابية الماضية والقادمة، فهي على قدر ما اجتهدت في نحت مؤسسات منتخبة كانت شاهد زور على ترسيم حكم الأقلية للأغلبية لأن أغلب الجزائريين قاطعوا الانتخابات الرئاسية والدستور والانتخابات التشريعية، وليس بعيدا أن يطال ذلك الانتخابات المحلية.
وفوق ذلك كانت عودته مفاجأة صادمة وغير متوقعة عند الكثير من المتابعين، كونه واحدا من وجوه نظام بوتفليقة، وهو أحد مستشاريه في بدايات حكمه، كما تولى حقيبة وزارية مرتين، ولو أنه حاول الظهور في ثوب الضحية بدعوى تعرضه للضغوط والمضايقات ووقوفه في وجه الفساد، في إشارة منه إلى ما عرف بقضية “سوناطراك 1 و2” ووزير الطاقة الأسبق شكيب خليل.
شرفي يعدّ واحداً من رجالات القانون والقضاء والسياسة البارزين في البلاد، بدأ مشواره المهني في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين، بعدما تخرج من أعتى المدارس العليا للبلاد التي تتخرج منها كوادر الإدارة والقضاء والدبلوماسية، ليبدأ مساره بمنصب قاضي تحقيق ونائب عام في عدة محاكم في البلاد.
وخلال حقبة الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد تم تعيينه أمينا عاما لوزارة العدل، ثم مستشارا في المحكمة العليا التي تعد أعلى محكمة قضائية في الجزائر. ومع مجيء بوتفليقة إلى الحكم عيّن شرفي مستشارا له، ثم ووزيرا للعدل، ليغيب بعدها عن الأنظار، قبل أن يعيده بوتفليقة إلى المنصب نفسه عام 2012 وزيرا للعدل حافظاً للأختام لعام واحد أيضا.
وعشية الانتخابات الرئاسية التي جرت عام 2014، والتي كانت ولاية رابعة لبوتفليقة، خرج شرفي عن صمته وأدلى بتصريحات مدوية حين كشف عن “ضغوط” مورست عليه من قبل الأمين العام الأسبق للحزب الحاكم عمار سعداني لإخفاء ملف تورط شكيب خليل وزير الطاقة الأسبق في قضية فساد تتعلق بتسيير وإدارة شركة “سوناطراك” النفطية المملوكة للدولة.
تساؤلات المتابعين لمسيرة شرفي تدور حول الجهة التي يستند عليها الرجل في مناكفة رموز سلطة بوتفليقة، وتقود في النهاية إلى جهاز الاستخبارات تحديدا
ذهب الرجل إلى ما هو أبعد من ذلك، عندما اتهم حينها الرجل الأول في الحزب الحاكم سعداني بمساومته وابتزازه لإسقاط خليل من قضية "سوناطراك" وتبرئته مقابل الاحتفاظ بالمنصب الوزاري.
وخاطب شرفي الأمين العام الأسبق لجبهة التحرير الوطني حينها قائلا “ألم تطلب مني وديا إبعاد اسم الوزير السابق للطاقة عن التحقيق القضائي الذي مس ‘سوناطراك’، مقابل احتفاظي بمنصبي في الحكومة كوزير للعدل؟”، لتتوجه بذلك استفهامات المتابعين إلى الجهة التي يستند عليها الرجل في مناكفة رموز سلطة بوتفليقة، وتتمحور حول جهاز الاستخبارات الذي كان آنذاك بصدد تصفية حساباته مع جناح الرئاسة. وكان ملف الفساد متعلقا بـ”سوناطراك” ووزير الطاقة، المستهدفين الرئيسيين في الحملة المفتوحة آنذاك من طرف شرفي وبرعاية جهاز الاستخبارات.
ولأن القبضة الحديدية بين الرئاسة والمخابرات انتهت لصالح الأولى، كان أحد ضحاياها الوزير شرفي نظير تطاوله بواسطة القضاء على مقربين من بوتفليقة. واختلفت الروايات بشأن مصيره بعد ذلك بين رواية تقول إنه شغل منصب مستشار لبوتفليقة في ولايته الأخيرة، وبين أخرى تقول إنه اختفى مذاك عن الأنظار إلى غاية عودته كرئيس لسلطة تنظيم الانتخابات برعاية السلطة الجديدة، ليكون مهندساً رئيسياً لاستحقاقات مازالت تثير المزيد من الجدل، فهي بقدر ما استحدثت مؤسسات جديدة زجّت بالبلاد في أتون أزمة شرعية سياسية وشعبية معقدة.
الآن شرفي هو الآمر الناهي في توجيه الحياة السياسية والانتخابية في البلاد، وتحت قراءاته الخاصة لقانون الانتخابات تنظم أكبر “مجزرة” في لوائح المرشحين الحزبيين والمستقلين؛ فبدعوى قطع الطريق على المال السياسي الفاسد وفلول العصابة، وأخلقة الحياة السياسية، يتم إسقاط المرشحين واللوائح من خوض سباق الانتخابات المحلية المقررة بعد أسابيع قليلة، استنادا إلى تقارير أمنية، الأمر الذي يطرح مسألة إخراج الحريات السياسية من قبضة البوليس السياسي والتقارير الكيدية.
ورغم الطابع المستقل للهيئة التي يديرها فإن الرجل لا يتوانى عن مداهنة السلطة وتبرير قراراتها وسياساتها، وحتى نسب المشاركة المتواضعة في الاستحقاقات التي أشرف عليها منذ 2019 لم تزعجه واعتبر أنه لأول مرة يكون للجزائر رئيس “حلال” وبرلمان يعبر عن إرادة الشعب، رغم أنه لأول مرة يتشكل من مكونات تغيب عنها المعارضة.
فتاوى ونظريات
وأعاد تكرار تصريح الرئيس عبدالمجيد تبون، بشأن المشاركة الضعيفة في الانتخابات التشريعية الأخيرة، ليبرر موقف هيئته أمام الانتقادات التي طالتها من طرف الأحزاب المشاركة أو المقاطعين من الحراك الشعبي والمعارضة السياسية، وذكر أن “نسبة المشاركة في الانتخابات لا تهم، بقدر ما تهم الشرعية الناتجة عن الصندوق وما تفرزه من نواب برلمانيين يؤسسون السلطة التشريعية، وأنه يحترم قرار المقاطعين للانتخابات لكن من دون أن يفرضوا رأيهم على الآخرين".
وذهب في أحد تصريحاته المتماهية مع السلطة إلى القول إن المحكمة الدستورية التي استحدثها الدستور الجديد تتولى مهمة الرقابة الإدارية لمصادر أموال الحملة الانتخابية وإن سوق “الدلالة ” -ويعني العشوائية- قد انتهت، في تسويق شعبوي لخيارات السلطة التي استقدمت مرشحين دعمتهم هي بتمويل حملاتهم الانتخابية في سابقة أولى في تاريخ الاستحقاقات الانتخابية بالبلاد.
عودة شرفي تفاجئ الجزائريين؛ فقد كانت صادمة وغير متوقعة عند الكثير منهم لكونه واحدًا من وجوه نظام بوتفليقة، ولو حاول الظهور في ثوب الضحية، فهو أحد مستشاريه وقد ولاّه وزارة العدل مرتين
وذهب إلى ما هو أبعد من ذلك في خلط المعايير السياسية، فبدل البحث في أزمة شرعية المؤسسات الجديدة اعتبر أن مصداقية الانتخابات تستمد من تعزيز ثقة الحاكم والمحكوم، عبر قانون للانتخابات وضع أسسا وآليات تعزز شفافية كامل محطات المسار الانتخابي بدءا من دراسة ملفات الترشح إلى غاية الحملة الانتخابية وتمويلها وإلى إعلان النتائج، مما سيحدث القطيعة التامة بين المال الفاسد والعمل الانتخابي، ويحارب الفساد الانتخابي.
ويتلقى شرفي وأعضاء الهيئة التي يديرها تعويضات ومنحا ومزايا مغرية، كانت محل انتقادات شديدة من طرف معارضي السلطة، كونها تخلق مناخا من الانتهازيين والطفيليين ولا تعكس الخطاب السياسي المسوق للقطيعة مع ممارسات النظام السابق. كما أن الصلاحيات التي أوكلها له قانون الانتخابات حوّلها إلى جهاز بيروقراطي دكتاتوري لا يشجع على استقطاب الشارع للفعل السياسي، ولا يراعي أجواء القطيعة القائمة بين غالبية الجزائريين والسلوك الانتخابي والسياسي كآلية للتغيير والتداول على السلطة.