بعد نوبل، هل تكون جائزة غونكور من نصيب كاتب أفريقي؟

"أكثر ذاكرات البشر سرية" رواية تصور حاضر أفريقيا وماضيها بين قارتين.
السبت 2021/10/30
الأفريقي متهم دائما (لوحة للفنان معتوق بوراوي)

في العام 1921 أسندت غونكور جائزتها لكاتب مارتينيكي هو روني ماران عن روايته “باتوالا”، فأثارت ضجة عارمة في الأوساط الثقافية والسياسية؛ أوّلا لأن الفائز أسود؛ وثانيا لأنّه انتقد الإمبراطورية الكولونيالية الفرنسية وممارساتها اللاإنسانية في أفريقيا، في أوج سطوتها. ورغم بروز عدّة كتاب أفارقة جيدين، لم تسند الجائزة إلا مرة واحدة لكاتبة من أصول أفريقية هي ماري ندياي، فهل تختار هذه المرة كاتبا أفريقيا بمناسبة مرور قرن على ذلك التتويج المثير للجدل؟

كلّ الدلائل تشير إلى إمكانية تتويج السنغالي محمد مبوغر سارْ عن روايته “أكثر ذاكرات البشر سرّيّة” بجائزة غونكور هذا العام، لاسيّما أنها اختيرت ضمن القائمات القصيرة لأهم الجوائز الأدبية الفرنسية لهذا العام، بما فيها غونكور.

 والطريف أن منطلق هذه الرواية رواية أخرى “واجب العنف” فازت عام 1968 بجائزة رونودو، ثمّ اتّهم صاحبها المالي يامْبو أولوغيم (1940 – 2017) بالسرقة الأدبية، فتمّت مصادرتها لاحتوائها على جمل ومقاطع لكتاب معروفين، قال الكاتب إنه وضعها بين معقفين، ولكن الناشر “سُويْ” حذفها دون استشارته.

عمل مرشح بقوة لنيل الجائزة

استعادة كاتب مظلوم 

رغم سحب الرواية من المكتبات الفرنسية لمدة ثلاثين سنة، فإنها ظلت حاضرة في أذهان كل مهتم بالتاريخ الأفريقي، من مؤرخين وكتاب وباحثين، ذلك أنها تخالف التاريخ الأفريقي الرسمي، ولكن مؤلفها اختار الصمت والعزلة حتى وفاته، لما لقيه من الغرب، الذي صدّق حكاية السرقة، ومن الأفارقة الذين اعتبروه متماهيا مع الطرح الكولونيالي، بل إن سنغور نفسه اتّهمه بالخيانة، خيانة الشعوب الأفريقية، وتزوير تاريخها.

بطل الرواية دييغان لاتير فاي، كاتب سنغالي شابّ، يعيش في باريس يكتشف عام 2018 كتابا أسطوريا صدر عام 1938 بعنوان “متاهة اللاإنساني”، لكاتب سنغالي هو أيضا يدعى تي سي إيليمان وُصف في البداية بالرامبو الزنجي، قبل أن ينقلب عليه النقاد ويتهموه بالانتحال، بدعوى أن كتابا بتلك القيمة لا يمكن أن يؤلفه كاتب زنجي، ما يضطر إيليمان هذا إلى الاعتكاف والصمت، قبل أن يختفي ويغيم ذكره منذ ذلك التاريخ.

 ذلك الكتاب يبدأ بأسطورة ملك سفاح، جاء في الأساطير السنغالية أنه كان يحرق أعداءه ثم يأمر بأن يتحولوا إلى أشجار، ولكن حدث أن ضل ذلك الملك طريقه في الغابة، فألفى نفسه أمام ضحاياه الذين راحوا يتقاذفونه من جذع إلى جذع.

من تلك الأسطورة يستوحي إيليمان مفهومه للماضي، ذلك الماضي الذي ينتظر بصبر وأناة في مفترق طرق المستقبل، حيث يفتح للإنسان الذي يحسب أنه فرّ من سجنه الحقيقي ذي الزنزانات الخمس: خلود المفقودين، ودوام المنسي، ومصير المذنب، ورفقة العزلة، ولعنة الحبّ المخلّصة.

وإيليمان يكاد يكون صورة من أولوغيم، فمسارهما واحد، من البلد المستعمَر الذي ولدا فيه إلى باريس حيث زاولا دراستهما بامتياز، وظهورهما المفاجئ بعمل حقق شهرتهما في البداية ثم كان سببا في تشويه سمعتهما، بغير وجه حق، وعودتهما إلى ديارهما مهزومَين، مكسورَي الخاطر، واعتزالهما الأدب والمحافل الثقافية.

 غير أن رواية مبوغر سار تنحو منحى غير إعادة كتابة سيرة الكاتب المالي الراحل، إذ أوجد مؤلِّفَ “متاهة اللاإنساني” في مرحلة سابقة لأولوغيم بثلاثين عاما، أي قبل استقلال بلده وبعده، وجعل بطلَه الشّابّ لاتي رفاي يتنقل عبر أقطار ثلاثة هي أفريقيا وأوروبا وأميركا اللاتينية بحثا عن إيليمان، ومنح عمله سعة وطموحا يتجاوزان قضية أولوغيم.

متاهة اللاإنساني

محمد مبوغر سارْ يبني روايته على كتاب سبقها للمالي يامبو أولوغيم، لكن ذلك لا يقلل من شأنها، ولا من طاقتها التخييلية
محمد مبوغر سارْ يبني روايته على كتاب سبقها للمالي يامبو أولوغيم، لكن ذلك لا يقلل من شأنها، ولا من طاقتها التخييلية

تبدأ الرواية في باريس، في الوسط الأدبي تحديدا، عام 2010 وما تلاها، وترتد إلى ثلاثينات القرن الماضي، وتتواصل في السنغال زمن الاستعمار مع ذكر دور المحاربين السنغاليين في خوض المعارك الفرنسية وتنكّر فرنسا لذلك الدور، ثم في فرنسا زمن الاحتلال النازي، وتستمر في بوينس أيرس مع إرنستو صاباتو والبولندي المهاجر آنذاك فيتولد غمبروفيتش، لتختتم في داكار، حيث انتهى المطاف بذلك الكاتب الغريب، على غرار نهاية الكاتب المالي. رابط كل ذلك بحث السارد الذي يعدد أنماط السرد من لقاءات ومقولات وقصاصات صحف ويوميات ويضاعف الحكايات حول غايته، أي حياة تي سي إيلميان، ولكنه يحتفي من خلال ذلك بالخلق الأدبي.

رواية ممتعة، تصور حاضر أفريقيا وماضيها، وقراءة قارتين لتاريخ مشترك، فمن حكاية نص، استعرض مبوغر سارْ جانبا من تاريخ القرن الماضي، محللا أثر الاستعمار ثم الهجرة والمنفى على البشر، وهو إذ يسرد قضية “متاهة اللاإنساني” لا يروي حياة كاتب فقط، بل حيوات عدة أجيال تركت فيها المرحلة الكولونيالية آثارا لا تمّحي.

هذا البحث المضني عن كاتب يمكن قراءته كمغامرة لإشباع فضول أو إمساك بحقيقة، ولكنه يمكن أن يقرأ في المقام الأول كارتحال إلى الذات وعودة إلى الأصول، واستقراء لتاريخ وسبر لخلفياته وتبعاته، والرواية إلى ذلك طرح لوضع المبدع، الموزع بين الكتابة والحياة، واحتفاء بالأدب وسلطته التي لا تزول.

ولئن بنيت هذه الرواية على كتاب سبقها، ونعني به هنا رواية “واجب العنف” للمالي يامبو أولوغيم، فإن ذلك لا يقلل من شأنها، ولا من طاقتها التخييلية.

وعلى غرار ما قاله سارد بورخس في قصة “مقاربة معتصم” حيث في النص بحث عن نص آخر “من الطبيعي أن يَشرُف بكونه مستوحى من كتاب قديم”، فإن ربط هذه الرواية برواية أولوغيم يخدم نفس الغايات النبيلة.

فهل يتوَّج كاتب أفريقي آخر هذا العام، بعد فوز عبدالعزيز قرنح بنوبل، وهل سينجح هذا الكاتب السنغالي الشابّ محمد مبوغر سارْ في الفوز بغونكزر ليمحو خيبات سابقيه، الذين لم يتوج بعضهم في أحسن الحالات سوى بجائزة رونودو أو جائزة الأكاديمية الفرنسية؟ ذلك ما سنعرفه يوم الثالث من نوفمبر المقبل.

Thumbnail
13