الذكاء الاصطناعي الفائق: حقيقة أم خيال علمي؟

التطبيقات التي تتجاوز قدرات البشر على التفكير وتمتلك إدراكا لنفسها وماهيتها وتصعب معرفة القرارات التي يمكن أن تتخذها، سبق أن حذر منها ستيفن هوكينغ وإيلون ماسك، وسخر منها آخرون، هل هي حقيقة واقعة أم مجرد أسطورة؟
هل يمكن أن تصبح الروبوتات أذكى من البشر؟
ما من سؤال محير ومثير للجدل أكثر من هذا السؤال. بالتأكيد سمعناه في أكثر من مناسبة، وبأكثر من صيغة.. هل يأتي يوم يسيطر فيه رجال آليون على العالم؟ هل يمكن أن تصبح الآلات أذكى من صانعيها؟
وفي كل مرة طُرح فيها السؤال تلقينا جوابا مختلفا.
لنترك الخيال العلمي جانبا، فهو كما يقال مجرد خيال. دعونا نبدأ من عام 1997، العام الذي هزم فيه الكمبيوتر الخارق ديب بلو بطل العالم في الشطرنج جيري كاسباروف. وانتهت المباراة بتغلب الكمبيوتر على بطل العالم بجولتين مقابل جولة واحدة.
وبينما رأى البعض في هذه النتيجة إنذارا مبكرا بأن الآلة ستسيطر على البشر مستقبلا، رأى آخرون أن المقارنة غير عادلة، لأن هذا النوع من المسابقات يعتمد على حجم المعلومات المخزنة وعلى سرعة استعادتها ومعالجتها فقط ولا علاقة لها بالذكاء والإدراك.
أجهزة الكمبيوتر تستطيع أن تجري حسابات وتعالج المعلومات أسرع بكثير من البشر، والأرقام تؤكد ذلك. تيانهي – 2 كمبيوتر صيني عملاق يعتبر الأسرع حاليا في العالم، يستطيع أن يجري 33.6 مليون مليار عملية حسابية في الثانية الواحدة.
بينما أكثر التقديرات تفاؤلا، وهي للعالم كريس ويستبيري من جامعة ألبيرتا، تضع قدرات الإنسان على مسافة بعيدة ومتواضعة من قدرات الكمبيوتر.
مؤكد أن سرعة معالجة الكمبيوتر للمعلومات أكبر من سرعة البشر، ولكن هل الذكاء هو سرعة معالجة المعلومات؟
الذكاء كما يؤكد العلماء نشاط مختلف تماما، لا يختلف حول ذلك اثنان. هناك الذكاء المنطقي والذكاء العاطفي والذكاء الاجتماعي، إلى جانب القدرة على التعلم والتأقلم.
وتفوق أجهزة الكمبيوتر على الإنسان في معالجة المعلومات، لا يعني أنها تمتلك ذكاء منطقيا وعاطفيا وأنها قادرة على التأقلم والتعلم مثل الإنسان.
الإنسان قادر إن وضع في ظروف جديدة أن يستخدم ما يملكه من معلومات وما يملكه من ذكريات من الماضي على التأقلم مع أوضاع جديدة لم يسبق له أن خبرها من قبل، ويخرج بحلول لم يسبق لها أن خزنت في ذاكرته.
في عام 2009 قام العلماء في جامعة كورنيل بعمل برنامج يراقب ويحلل حركة بندول الساعة، وباستخدام أدوات أساسية برمجها العلماء داخله استطاع البرنامج خلال يوم واحد أن يستنتج قوانين الفيزياء الأساسية!
استطاع البرنامج في يوم واحد أن يستنتج ما استغرقنا نحن البشر الآلاف من السنين لاكتشافه. لكنه فعل ذلك فقط، ونؤكد على فقط، بواسطة الأدوات والمعلومات التي قام صانعوه بتلقيمه بها. الآلة تعتمد دائما على أدوات محددة لتنفيذ مهام محددة.
لكن البرنامج نفسه لا يستطيع أن يطور أدواته ويتأقلم كما يفعل دماغنا. هذا على الأقل ما يعتقد معظم العلماء حتى هذه اللحظة.
المشكلة لا تكمن في قدرة الآلة على محاكاة عمل الدماغ، بقدر ما تكمن في أننا لا نعلم أصلا كيف يعمل دماغنا بالضبط، لذا كيف يمكن للعلماء محاكاة شيء لم ندركه بعد؟
نظرة تاريخية
العالم والمؤلف راي كورزويل الذي يعمل مديرا لمهندسي غوغل، تنبأ يوما بأنها مسألة وقت فقط قبل تطوير أنظمة كمبيوتر قادرة على “الوعي الذاتي”؛ أي أنها ستكون قادرة على تحليل قدراتها الخاصة وتطويرها لتحسين أدائها. وذهب أبعد من ذلك حين أشعل الجدل بمقال تنبأ فيه أن الروبوتات ستفوق صانعيها ذكاء عام 2029!
ومع نشوة الابتكار وما حققه العلم من نجاحات، انساق الباحثون للإدلاء بتصريحات قد يرى البعض أنها مبالغ فيها نوعا ما، لذلك لم يكن غريبا أن يستهدفوا على إثرها بانتقادات كثيرة. وعلى سبيل المثال، في عام 1958 صرّح الأميركي هيربرت سايمون، الذي حاز في وقت لاحق على جائزة نوبل للاقتصاد، أنه في غضون عشر سنوات ستصبح الآلة بطلة عالمية في لعبة الشطرنج، إذا لم يتم استبعادها من المسابقات الدولية.
ومن سوء حظ سايمون، أن الأمر لم يأخذ وقتا طويلا لتتراجع وتيرة التقدم، حيث تمكن طفل في العاشرة من عمره، بحلول منتصف الستينات، من التغلّب على جهاز كمبيوتر في لعبة الشطرنج، حدث ذلك عام 1965. وبعد عام من ذلك التاريخ أشار تقرير أصدره مجلس الشيوخ الأميركي سنة 1966 إلى ما أسماه القيود المتأصلة في الترجمة الآلية، فتعرّض الذكاء الاصطناعي لدعاية سلبية لم يستطع الخروج منها إلا بعد مرور عشر سنوات.
بغض النظر عن أي من الفريقين ستثبت صحة أقواله ورغم أن التكنولوجيا مازالت بعيدة عن الانفلات من قبضة البشر فإن للقلق ما يبرره
ولم تتوقف البحوث، لكنها أخذت منحى جديدا، وتركز الاهتمام على علم النفس، خاصة ما تعلق منه بالذاكرة وعلى محاولة تفسير آليات الفهم، ومحاكاتها على أجهزة الكمبيوتر، كما تم الاهتمام بدور المعرفة في التفكير المنطقي. وهذا ما أدى إلى ظهور تقنيات “التمثيل الدلالي للمعارف” التي تطورت إلى حد كبير في منتصف السبعينات، والتي أدت أيضا إلى تطوير ما يسمى بالنظم الخبيرة، سمّيت كذلك لأنها قد تتطلب استخدام معرفة خبراء مهنيين لاستنساخ طريقة تفكيرهم. وقد أثارت هذه الاكتشافات آمالا كبيرة في أوائل الثمانينات بفضل التطبيقات المتعددة التي تم إنتاجها، ومنها على سبيل المثال، المتعلقة بالتشخيص الطبي، حيث تفوقت الآلة على الأطباء في تشخيص الأمراض.
كل ذلك أصبح ممكنا مع الاختراق الذي تم التوصل إليه في مجال تعلم الآلة، الذي رافق تحسن تصميم الخوارزميات، التي مكنت بدورها أجهزة الكمبيوتر من تجميع البيانات والمعارف وإعادة برمجتها تلقائيا انطلاقا من تجاربها الخاصة.
ما حصل بعد ذلك يمكن أن نشاهده من حولنا في كل مكان، حيث تتابع ظهور تطبيقات صناعية شملت مختلف القطاعات، من التعرف على بصمات الأصابع والملامح والكلام وصولا إلى الروائح. واليوم تستخدم تطبيقات ذكية في مجال الإعلام والموسيقى والإبداع الأدبي، بالطبع إلى جانب القطاعات الصناعية ومختلف الاختصاصات، تعتمد غالبا نظما هجينة تجمع بين البشر والآلة.
نهضة الذكاء الاصطناعي
لم يكتف المطورون بتقديم التطبيقات التي تشغلها أجهزة الكمبيوتر، جاذبية الخيال العلمي فرضت وجودها وعادت لتحتل الواجهة، ومع نهايات التسعينات، تم ربط الذكاء الاصطناعي بالروبوتات التي تحمل ملامح بشرية تجمع بين الإنسان والآلة. إنها خدعة للإيحاء بأن الآلة تمتلك العواطف والمشاعر، خاصة مع تطوير روبوتات تمتلك القدرة على المحادثة.
ومنذ عام 2010، بفضل قوة الآلة، أصبح من الممكن استغلال البيانات الضخمة بواسطة تقنيات التعلّم العميق التي تعتمد على استخدام الشبكات العصبونية. وظهر إثر ذلك فيض من التطبيقات القادرة على التعرف على الكلام والتمييز بين الصور وفهم اللغة الطبيعية وقيادة السيارات والطائرات.. نحن الآن نتكلم عن نهضة الذكاء الاصطناعي الذي باتت قدراته تتجاوز قدرات الإنسان.
لقد هزمت آلة في لعبة الشطرنج بطل العالم في عام 1997، كما تفوقت سنة 2016 آلات أخرى على أحد أفضل اللّاعبين في العالم في لعبة “الجو”، وعلى لاعبين ممتازين في لعبة البوكر. وتقوم أجهزة الكمبيوتر بإثبات، أو بالمساعدة على إثبات، النظريات الرياضية. ويتم بناء المعارف بشكل تلقائي انطلاقا من بيانات ضخمة تقاس بالتيرابايت وبالبيتابايت باستخدام تقنيات التعلّم الآلي.
وبفضل تقنيات التعلم الآلي، يذكر تقرير صادر عن منظمة اليونسكو “باتت الآلات قادرة على التعرف على الكلام وتدوينه، مثلها مثل السكرتيرة – الراقنة في السابق، وتقوم أخرى بالتعرف بدقة على سمات الوجه أو بصمات الأصابع من بين العشرات من الملايين، وقراءة النصوص المكتوبة باللغة الطبيعية. كما وجدت بفضل هذه التقنيات سيارات ذاتية التحكم، وآلات قادرة على تشخيص الورم الميلانيني أفضل بكثير من الأطباء المختصين في الأمراض الجلدية، و ذلك اعتمادا على صور فوتوغرافية للشّامات الجلدية يتم التقاطها باستخدام الهواتف المحمولة. وأصبحت الروبوتات تحل محل الإنسان المقاتل في الحروب، وآلية سلسلة الإنتاج بالمصانع في تزايد مستمر”.
النقلة النوعية الثانية هي الربط بين الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية، حيث يستخدم العلماء هذه التقنيات لتحديد وظيفة بعض الجزيئات الحيوية، وخاصة البروتينات والمجينات، من خلال تسلسل مكوناتها، الأحماض الأمينية بالنسبة إلى البروتينات، والجزء الأساسي بالنسبة إلى المجين.
تراجع دور الإنسان
كل هذا لا يمنح وفق الكثير من العلماء الذكاء الاصطناعي القدرة على الإدراك. قد يبدو الاستنتاج أكثر علمية من استنتاج المحذرين من سيطرة الروبوتات على البشر، خاصة في ظل الحديث عن الخيال العلمي. ولكن لو دققنا في الأمر لوجدنا أن العلماء الرافضين لفكرة سيطرة الآلة هم أكثر بعدا عن العلم، فهم ينطلقون من فكرة تقدس العقل وتعتبره عالما غامضا.
العقل أبسط من ذلك بكثير، إنه مجرد آلة تختزن المعلومات والذكريات تتعلم منها وتتطور. وهذا يتفق مع رأي أبرز علماء الفيزياء المعاصرين، البريطاني ستيفن هوكينغ، وكان قد أسس وترأس “مركز دراسة المخاطر المهددة للبشر” في كامبريدج قبل رحيله عام 2018.
لقد كشف هوكينغ عن مخاوفه مما أسماه “يوم قيامة يثور فيه الذكاء الاصطناعي على البشر ويؤدي إلى إبادتهم، وبأحسن الأحوال إلى استعبادهم”.
وبغض النظر عن أي من الفريقين ستثبت صحة أقواله، ورغم أن “التكنولوجيات الحديثة مازالت بعيدة عن الانفلات من القبضة البشرية”، فإن للقلق ما يبرره. هناك تغيرات اجتماعية بدأت بالظهور خاصة خلال العامين الأخيرين، مع تفشي وباء كوفيد – 19 الذي عجل في إحلال التكنولوجيا محل القوى العاملة، بعد أن دمر الوظائف على نطاق واسع؛ السيارات ذاتية القيادة وخدمات التوصيل إلى البيوت والروبوتات التي تقوم بوظائف داخل المنزل.
المَخاوف من “سيطرة الآلات وتراجُع دور الإنسان” ليست نوعا من الخيال العلمي. فهذا الشعور بات واسع الانتشار فى الأوساط العلمية المختصة والمُتابِعة. أحد أشهر المستثمرين في الغرب إيلون موسك أعلن أن “الذكاء الاصطناعي هو أكبر تهديد يُواجِه وجودنا نحن البشر”، مُشبها الآلات التي تفكر بـ”الأسلحة النووية” وبـ”الشيطان”.
وإذا كان الفيلسوف السويدي نيك بوستروم من جامعة أكسفورد البريطانية قد طمأن العالم أن “العلم لن يتوصل إلى ابتكار آلات بذكاء فائق يتفوق على ذكاء الإنسان، قبل حلول عام 2075″، فإن إبعاد الموعد فى الزمان لا يعني نفي الخطر بل تأكيده.
ورغم هذا القلق، يقول الدكتور أريك هورفيتس الباحث في مؤسسة مايكروسوفت إنه متفائل بأن تستفيد البشرية من بحوث الذكاء الاصطناعي المستمرة حاليا، بل يرى أن هذه البحوث ربما تساعد في التعويض عن الإخفاقات البشرية.
اقرأ أيضا: الروبوتات تجوب المنازل والشوارع أيضا