من الانتظار إلى الاستباق: أبوظبي تعيد تعريف "الحكومة" عبر الذكاء الاصطناعي

أبوظبي- لوقتٍ طويل، كانت زيارة الدوائر الحكومية في العالم العربي أشبه برحلة شاقة: طوابير لا تنتهي، ملفات ثقيلة، توقيعات متعددة، ومراجعون فقدوا جزءًا من يومهم وأعصابهم داخل ممرات لم ترحم. هذه الصورة، المألوفة والموروثة، تختفي بهدوء في أبوظبي.
داخل أروقة الوزارات ومراكز البيانات، تتشكل اليوم ملامح حكومة مختلفة؛ حكومة لا تنتظر المواطن ليطلب الخدمة، بل تبادر. تستشرف، تتوقّع، وتخاطب المواطن كشريك لا طالب خدمة. هذا التحول ليس شعارًا إنشائيًا، بل واقع إستراتيجي طموح بدأ بالتجسد على الأرض.
حين أعلنت حكومة أبوظبي مؤخرًا عن استثمارها أكثر من 3.5 مليار دولار في التحول الرقمي، لم يكن الهدف فقط تطوير البنى التحتية أو أرشفة الوثائق، بل خلق منظومة تُفكر بطريقة مختلفة تمامًا. الهدف المعلن: الوصول إلى حكومة “تتعرّف على احتياجاتك قبل أن تخبرها بما تريد.”
بحلول عام 2027، تطمح الإمارة إلى أن تكون جميع الخدمات الحكومية، بنسبة 100 في المئة، مدعومة بالذكاء الاصطناعي، في خطوة غير مسبوقة على مستوى المنطقة.
◄ الحكومة لا تكتفي باستيراد التقنية بل تُخطّط لصناعتها بأيدٍ إماراتية وبوعي محلي يتحدث لغة المجتمع ويدرك حساسيته
عند الحديث عن الحكومة، يتبادر إلى الذهن مكتب، موظف، ختم، وربما طابور. لكن في النسخة الجديدة التي تتبناها أبوظبي، يبدو أن الحكومة تحوّلت إلى “نظام تشغيل مجتمعي،” يعمل بصمت في الخلفية، ويُرسل الإشعارات، يُعالج الإجراءات، ويُراسل المواطن بلغته المفضلة وبالوقت الذي يناسبه.
فمثلًا، يتلقى المواطن إشعارًا بأن رخصته أو تصريح عمله أو وثيقة رسمية ما توشك على الانتهاء. لا حاجة إلى الذهاب، لا أوراق، لا توقيعات. النظام يتنبأ بالحاجة، ويقترح، بل يُنفّذ تلقائيًا بعد موافقة المستخدم.
التحول الأهم لا يكمن في “التحول الرقمي” بالمعنى الكلاسيكي، بل في التحول العقلي والفلسفي في بنية الحُكم. أبوظبي تراهن على خلق حكومة تتعامل مع المواطن كنظام ذكي يرتكز على البيانات، السلوك، والسياق. لم تعد الخدمة تُطلب، بل تُقترح. لم يعد المواطن يُراجع، بل يتم التعرف عليه.
هذا المنظور يطرح تساؤلًا أكبر: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون قاعدة لإدارة الدولة لا مجرد أداة تقنية؟
المنطقة العربية تشهد بدورها سباقًا رقميًا مهمًا. السعودية تستثمر بكثافة في البنية السحابية وتختبر الحوسبة السحابية في الحج، وقطر تطور منصة بيانات وطنية موحدة، بينما تعمل مصر على بناء مراكز تدريب للذكاء الاصطناعي بشراكات دولية. لكن ما يميز أبوظبي هو أنها لا تطور أدوات، بل تعيد صياغة العلاقة بين الفرد والدولة.
هنا، تتحوّل “الحكومة” من سلطة إلى خدمة، ومن إدارة إلى حوار رقمي متكامل.
بعيدًا عن الهيبة الرقمية، يبرز رهان آخر في قلب هذه الإستراتيجية: الرهان على الإنسان المحلي. جزء كبير من التمويل خُصّص لتدريب موظفين حكوميين ليكونوا مطورين، مهندسي بيانات، وقادة رقميين. الحكومة لا تستورد التقنية فحسب، بل تُخطّط لصناعتها بأيدٍ إماراتية، وبوعي محلي، يتحدث بلغة المجتمع ويعرف حساسيته.
مع كل هذا التقدم، تظهر أسئلة حرجة لا يمكن تجاوزها:
◄ داخل أروقة الوزارات ومراكز البيانات، تتشكل اليوم ملامح حكومة مختلفة؛ حكومة لا تنتظر المواطن ليطلب الخدمة، بل تبادر. تستشرف، تتوقّع، وتخاطب المواطن كشريك لا طالب خدمة
إذا كانت الحكومة تعرف احتياجاتي قبل أن أطلبها، فماذا تعرف أيضًا؟ وما هو حدود التنبؤ المقبول؟ وكيف نحمي غير المتصلين رقميًا، مثل كبار السن أو ذوي الإعاقة، من أن يُتركوا على الهامش؟
اللافت أن مبادرة أبوظبي تأخذ هذه الأسئلة على محمل الجد، إذ تتضمن إنشاء أدوات “أخلاقية” رقمية مدمجة، تضمن أن تكون الخوارزميات مدرّبة على فهم ما لا ينبغي فعله، لا فقط ما يمكن فعله. هذا التوجه يوحي بأن المشروع ليس مجرد “تحول رقمي”، بل هندسة للثقة.
في عالم عربي يتوق إلى الشفافية، وسرعة الأداء، واستعادة الثقة في المؤسسات، يبدو أن الذكاء الاصطناعي قد يكون قاطرة إصلاح إداري وسياسي غير مباشر. لا نُبالغ إن قلنا إنه قد يكون مدخلًا لصياغة عقد اجتماعي جديد، حيث يُعاد تموضع المواطن في المركز، لا على الأطراف.
التقنية وحدها ليست الحل، لكنها بالتأكيد أداة جبّارة لإعادة هيكلة العلاقة بين الناس ومؤسساتهم. حين تُدار الخوارزميات بأخلاق، وحين يُصمَّم النظام لتمكين الإنسان لا مراقبته، تصبح الرقمنة تحريرًا لا تسلّطًا.
ربما ما تبنيه أبوظبي اليوم يُقارن بتحول القرن العشرين حين غيّر النفط وجه الخليج. لكن الفارق أن “نفط القرن الحادي والعشرين” لا يُستخرج من الآبار، بل من مراكز البيانات، ومن عقول تعرف أن المستقبل ليس في الورق، بل في الخوارزمية المسؤولة.
في النهاية، يبقى السؤال مفتوحًا للعواصم الأخرى: هل تتحرك لتستبق، أم تنتظر لتُراجَع؟ الحكومات التي تنتظر المواطن، قد لا تجده في الطابور.. لأنه صار رقميًا، وسبقها بخطوة.