لا تغضب إذا وجدت كتابك في سور الأزبكية

المبررات كثيرة حول بيع الكتب المهداة، هناك ما يمكن أن يفهم في إطار التخلي عن مكتبات إما برحيل صاحبها جسدا وإما عجزه عن الاحتفاظ بالكتب المهداة إليه، لكن هناك من يتخلص من الكتاب الذي يُهدى إليه مباشرة، وهذا ما يخلق نوعا من الألم في ذات مؤلف الكتاب الذي تكبد عناء الإهداء، فيما يتفهم قلّة آخرون ذلك.
ضحك رجاء النقاش وهو يستقبل نسخة من كتابه “ثلاثون عاما مع الشعر والشعراء”، آتية من سور الأزبكية. كان الكتاب الصادر حديثا عام 1992، غريبا وسط عائلة من كتب بينها عِشرة: أرفف، وغبار، وعرق يديْ المقتني الميت، وتأفف الورثة، ونظرات فاحصة لتجار الكتب، وبصمات أصابع رواد السور ممن يستهويهم تقليب الكتب، ثم الانصراف عنها.
في ذلك الوقت كان السور المتخصص في الكتب القديمة فضاء رحبا لليتامى، ولا أكثر يُتما من كتاب زهد فيه ورثة جاحدون لآباء لم يفكروا في مصائر كنوزهم. قد يتوقع أحدنا تسرّب كتبه إلى السور، ومن حسن الحظ أنه يموت قبل أن يرى مستقرّها في دار الأزبكية الآخرة.
التخلص من الكتب قد تكون له مبرراته وقد يكون بلا تبرير وهو ما يجعله ظاهرة جدلية
المؤلف يموت قهرا لرؤية كتاب أهداه إلى صديق ثم باعه إلى تاجر في سور الأزبكية، ولكنّ رجاء النقاش تفهّم الأمر من زاوية الدراما، وقال “إن الوغد كان مزنوقا في ثمن علبة سجائر وزجاجة بيرة؛ فباع الكتاب، ونسي نزع صفحة الإهداء”.
وسألت الأستاذ محمود أمين العالم عن وجود كتب مهداة إليه تباع في السور، فأوضح أن رجال الأمن يصادرون الكتب عشوائيا في نوبات القبض على المثقفين. والناجي من الحبس أو الاعتقال لن يسأل عن الكتب، ولا تهتم الشرطة بإعادة “المضبوطات”، ثم يتخلصون منها. وأما طه حسين فكان صريحا بقوله لأحمد بهاء الدين إنه لا يقرأ من إنتاج الشباب إلا ما يتلقاه.
قال العميد “بصراحة ما لا يأتيني من صاحبه، لا أقرؤه!”. وعن الكتب التي لا يقرؤها أجاب ضاحكا، وقال إن أناتول فرانس كان “يتلقى كمية هائلة من الكتب بالبريد، فيقول لخادمته: ضعيها في البانيو! وفي آخر الأسبوع، يكون البانيو قد امتلأ بالكتب، فيقول لخادمته: جهزي لي الحمام! ومعنى تجهيز الحمام، إفراغ البانيو، والتخلص من الكتب”. الشيء نفسه فعله لويس عوض، مع استبدال المكتب بالبانيو. قال له سليمان فياض إن كتّاب جيل الستينات يرسلون كتبهم إليه وإلى يوسف إدريس، “بتحطّوها في آخر درج في المكتب. وآخر الأسبوع بتدّوها من غير قراية للساعي، يتصرف فيها بمعرفته، بعيدا عن المكتب”. فما مناسبة هذا الكلام؟

الزعل وإبراء الذمة معا. زعل لوجود نسخة من روايتي “أول النهار” في شارع النبي دانيال بالإسكندرية. مَن طلبها، وأصرّ على أن أكتب إليه إهداء، لم يكلف نفسه محو الإهداء أو قطع الصفحة. يبدو أنه تعجل، ولم ينتظر العودة إلى القاهرة، لبيعها في سور الأزبكية، فقرر التخلص منها بإيداعها السور السكندري الشهير. أما إبراء الذمة فأتوجه به إلى من يصادفه، في هذا السور أو ذاك، كتاب مُهدى إليّ، وليراجع تاريخ الإهداء (2014 ـ 2017) حين كنت رئيسا لتحرير مجلة “الهلال”. كان اليوم الأخير، ولعلها الساعة الأخيرة، أشبه بجمع متسرع لما تراه العين من أنقاض وأغراض، بالقرب من القضبان قبيل وصول قطار.
يوم الأربعاء الحادي والثلاثين من مايو 2017 صدر قرار تعيين رؤساء جدد للصحف والمجلات. وقلت للزملاء إن غدا الخميس يوم للكسل، ويليه الجمعة والسبت عطلة. واتفقنا على أن نلتقي الأحد، في سياق “تسليم وتسلّم”، يتم فيه تقديم الزملاء إلى القيادة الجديدة، في الأعراف المهنية.
المؤلف ربما يموت قهرا لرؤية كتابه الذي أهداه إلى صديق ثم باعه هذا الأخير أو سلمه إلى تاجر في سور الأزبكية ليبيعه
وفي المساء تم ترتيب موعدين مفاجئين الخميس، مع الشاعرين أحمد عنتر مصطفى ومحمد عيد إبراهيم الذي أحتفظ له بنموذج خشبي مزخرف لباب تونسي أثري. وكانت الأستاذة سامية شرف الدين قد تركته عندي، هدية إليه في يناير 2017. أقنعت نفسي بجدوى الذهاب لمقابلتهما، ثم أجمع أغراضي، وأحمل ما خفّ منها، وأترك الباقي إلى الأحد، بعد لقاء التسليم والتسلّم.
في الثانية عشرة تقريبا، كلمني أحمد عنتر مصطفى وسألني “أنت فين؟”، وكنت في المترو، بعد رحلة الميكروباص في شارع فيصل. بسؤال من كلمتين وصلني تبرّمه وانفعاله، فقلت إنه قطعا سمع بزحمة شارع فيصل، ودعوته إلى الانتظار في المكتب المفتوح كالعادة. قال “زحمة إيه؟ ومكتب إيه؟ رئيس التحرير الجديد في المكتب، في اجتماع عام مع المحررين”.
وقابلني محمد عيد إبراهيم بابتسامته، ودخلنا دار الهلال معا، وتوجهنا إلى قسم التجهيزات الفنية الذي يشغل نصف غرفة، وانتظرنا انتهاء الاجتماع، لأعطيه هديته التونسية. ولم يذهب الغضب عن أحمد عنتر، وإن خفّ انفعاله. وبسرعة جمعت أغراضا، ونسيت نظارة شمسية كان الأستاذ نصر رأفت زارني ونسيها.
مما نسيته مصحف “THE GLORIOUS QUR’AN”، ويتضمن ترجمة معاني القرآن الكريم إلى الإنجليزية، هدية من الأستاذ أحمد حسين الطماوي، مع كتابيْ محمد سيد كيلاني “عباس حلمي الثاني.. أو عصر التغلغل البريطاني في مصر” و”السلطان حسين كامل.. فترة مظلمة من تاريخ مصر”.
وبعيدا عن “الهلال”، قد يجد محمود قرني وإبراهيم داود وعماد أبوصالح عملا لهم في السور. وكان الأستاذ عصام خلف لا يحب قصيدة النثر، فأعطيته ثلاثة دواوين رأيتها تمثيلا لهذه القصيدة. وتوفي، ولا أعرف مصير مكتبته. وبعد، فلعلك تتسامح إذا وجدت كتابك يباع هنا أو هناك؟ الأمر أعقد من زنقة في ثمن علبة سجائر أو زجاجة بيرة، أو كلتيهما.
