"أولاد أحمد.. مسودة وطن".. قصائد الثورة والإنسان والأحلام

المترجم التونسي أيمن حسن يقدم أول مختارات فرنسية للشاعر الراحل أولاد أحمد.
السبت 2021/09/18
شاعر الحرية وأيقونة وطن

من عرف الشاعر التونسي محمد الصغير أولاد أحمد عن قربٍ شخصا وشاعرا، أو من قرأ قصائده التي تحول بعضها إلى أيقونات ثورية رفعتها الحناجر واليافطات والجدران منذ أيام الثورة كتمائم في وجه الاستبداد، يدرك قدرة هذا الشاعر الكبيرة على الجمع بين الالتزام والعمق والحساسية في الشعر، وكل ذلك خارج دائرة الأيديولوجيا التي حبست الكثير من الشعراء العرب، وهو ما تؤكده مختارات جديدة صدرت بالفرنسية للشاعر بعد ما يقارب الخمس سنوات على رحيله.

“أولاد أحمد.. مسودة وطن” عنوان مختارات شعرية للشاعر التونسي الراحل محمد الصغير أولاد أحمد، قدمها أخيرا باللغة الفرنسية الشاعر والمترجم التونسي أيمن حسن.

ويقدم الكتاب الجديد، الصادر عن دار مانيتاست الفرنسية، أول أنطولوجيا بالفرنسية لأولاد أحمد قسمها حسن إلى ثلاثة فصول جاءت تباعا “حول الشعر”، “قصائد الثورة التونسية”، “مسودة وطن وقصائد أخرى”، من خلالها نتعرف على جزء هام من مسيرة أولاد أحمد العاشق لبلاده والصوت الصادح بآلام وآمال التونسيين وكل المهمشين.

أدونيس: لم يلتزم أولاد أحمد شعريا بالسياسة وإنما التزم بالشعر سياسيا

الشعر والسياسة

يبدأ الكتاب بقصيدة أولاد أحمد الشهيرة “نحب البلاد” التي ذاع صيتها حتى خارج تونس لما فيها من حس وطني، وهو الذي يقول في مطلعها “نحب البلاد/ كما لا يحب/ البلاد أحدْ/ نحج إليها/ مع المفردين/ عند الصباح/ وبعد المساء/ ويوم الأحد/ ولو قتلونا/ كما قتلونا/ ولو شردونا/ كما شرّدونا/ (..) لعدنا غزاة/ لهذا البلدْ”.

ليس من باب المصادفة أن يصدر أولاد أحمد بعد الثورة التونسية كتابه “القيادة الشعرية للثورة التونسية”، وهو الذي كرس شعره لقضايا وطنه لكن من خارج دائرة الأيديولوجيا الضيقة، بل من باب الإنساني والحلم بالحرية والتحرر والتوق إلى مستقبل أفضل للناس والأرض، للمهمشين، الذين أتى الشاعر منهم، وهو ابن مدينة سيدي بوزيد مهد الثورة التونسية.

وفي تقديمه للكتاب يقول الشاعر السوري أدونيس “لم يلتزم أولاد أحمد شعريا بالسياسة وإنما التزم بالشعر سياسيا على النقيض من معظم الشعراء العرب الذين جايلهم. وليتهم أخذوا بالتزامه إذًا لكان شعرهم فتح فضاء خلاقا من العلاقة بين الرؤية السياسية والرؤية الشعرية، هكذا جاء شعره مختلفا بذاتية حماسية وتعاطفا وبنظرته فهما واستبصارا”.

ويضيف “ظلت السياسة والأيديولوجيا في هذا الشعر كمثل غيمة لا يستشف وراءها من ينظر إليها إلا ما يشبه الوعد أو التلويح برذاذ خفيف عابر”. مقرا بأنه “هكذا عاش أولاد أحمد في الزحام السياسي الأيديولوجي كمثل طائر في غابة: لا يتردد على الظلال الكثيفة، وإنما يقيم في سره المنفرج المضيء منفردا بين أحضان غصن منفرد”.

أيمن حسن: الأدب التونسي غير منتشر أوروبيا لكني أؤمن بالمبادرات الشخصية

في الفصل الأول من الكتاب نقرأ آراء أولاد أحمد “حول الشعر”، منطلقا في قصيدته “إيقاع” من تساؤلات حول منطلقات الكتابة من الأولين إلى اللاحقين، ولم يخف حتى من ذكر الأنبياء الذين كتبوا بريش العصافير المذبوحة، لم يتوان حتى عن فضح الكاذبين في قصيدة تالية وتمجيد المكان في أخرى، هكذا كان الشاعر متمردا على التاريخ الثابت كما يروى لنا، متسائلا عن جوهر أهم الأفعال الإنسانية ألا وهو الكتابة التي عاشرها عقودا ولكنه لم يعرف فيها الثبات على شكل أو تقنية أو موضوع، عدا أنه المسحور بوطن يحلم به.

في الفصلين التاليين نقرأ للشاعر قصائد سياسية بامتياز، قصائد تمثل وجهة نظره في طريقة إدارة البلاد التونسية خاصة في زمني الرئيس الراحل زين العابدين بن علي وما بعده زمن الثورة التي جاءت بالإخوان إلى السلطة في تونس، ليبشروا بسنوات من الخراب والعنف كان الشاعر أولى ضحاياها، وهو الذي اعتدي عليه في حياته أكثر من مرة.

يقول الشاعر في إحدى قصائده التي ضمتها الأنطولوجيا: “إلهي أعني عليهم/ لقد عقروا ناقتي/ وأباحوا دمي…/ في بيوت أذنت بأن لا يراق دم فوق سجادها/ إلهي/ أعوذ بك الآن من شر أهلي/ يبيعون خمرا رديئا/ ويؤذون ليل السكارى البريء”.

الالتحام بالناس

حتى في لحظات التضرع لا يتوقف أولاد أحمد عن الانتصار للمهمشين والمنسيين والمطليين بقطران الاحتقار من السكارى وسكان الليل والعاهرات وأناس الشوارع الخلفية والعاطلين وحبيسي الفشل والضياع وغيرهم ممن لا يلتفت إليهم عادة في الأعمال الأدبية إلا كونهم ضحايا وعالمًا ديستيوبيًّا قبيحًا لا يستحق إلا النقد، يأخذ الشاعر بأيديهم إلى قصائده ليجعل منهم البريئين موجها اتهامه للسلطة قبل أي شيء غيرها.

فتح الشاعر قصيدته للبلاد ولثورتها فنجده ملتحما مع طالبي الحرية قبل الثورة وبعدها، حتى أنه كتب “تحية إلى شباب القصبة” الاعتصام الذي تلا رحيل بن علي وأسقط حكومته. كان الشاعر صوت كل رجل وامرأة، كان صوتا شجاعا يقف في وجه التيار ليدافع عن المظلومين والمتروكين في الظلال، يتحدث للعالم باسمهم، يقول وجعهم وأحلامهم، عواطفهم وهواجسهم المكتومة.

لم يتوقف أولاد أحمد عن دوره كشاعر مشاكس، بليغ، لا يصمت عن الحق ولا يتراجع عن قضاياه ومبادئه في أن يكون شاعر الناس، في قصيدته المكتوبة نثرا أو في التفعيلة، كانت رحلة لغة إلى دواخل الأماكن محملة بحكايات ليلية، كانت تسخر وتحب وتغضب وتشاكس وتصرخ، كانت قصائد مليئة بالحياة حياة التونسيين ومكرسة لثورتهم بقوة وجرأة.

Thumbnail

من خلال القصائد المختارة نعيد اكتشاف أولاد أحمد الصوت الشعري الذي يصدح عن حناجر كل التونسيين وكل المهمشين في هذا العالم، الصوت الساخر والناقد والصارخ في وجه منظومة الإخوان ما بعد الثورة، وقد أمسى أيقونة لهذه الثورة التي التف حولها الجميع، محتمين بقصائده، وكلنا نتذكر دوره في كبح جماح الإخوان في اعتصام باردو ومحاولة تصحيح المسار، إذ لم يكتف بالكتابة عن بعد بل كان حاضرا في الحراك الشعبي.

وتسأل “العرب” المترجم أيمن حسن عن سبب تركيزه على القصائد السياسية للشاعر فيقول “الوضع الراهن للبلاد فرض هذا الاختيار مع العلم وأنّي اخترت القصائد صحبة الشاعر قبل وفاته. أردنا في الحقيقة النجاح في معادلة الشعر والسياسة لمحاربة أعداء الوطن”.

الكتاب يقدم أول أنطولوجيا بالفرنسية للشاعر التونسي من قصائد سياسية وقد قام باختيارها بنفسه قبل رحيله

عاش الشاعر رفقة التونسيين في مواصلات النقل، في الأنهج الخلفية، في المقاهي وفي الأسواق، لم يكن له برج العاج الذي كان لغيره من المترفعين عن أبناء جلدتهم، لذا أصلح أولاد أحمد صورة الشاعر في أذهان الناس، وصار مثالا للشاعر الصادق، المرهف والقوي في الآن نفسه، الساخر والجدي، الناقد والمحب.

ويكاد يكون أولاد أحمد الشاعر التونسي الوحيد الذي تمكن من أن يصبح ظاهرة شعبية بعد أبوالقاسم الشابي الذي نال شهرته بعد وفاته، فلا تجد رجلا طفلا أو امرأة حتى من غير المتعلمين، إلا ويعرف الشاعر، وقد يحفظ بعض السطور من شعره.

لكن وإن كنا في هذه المختارات نكتشف وجه اللحمة بين السياسي والشعري في نصوصه فإن للشاعر قصائد أخرى تذهب أكثر إلى التفاصيل اليومية، معرية معاناة الشاعر الوجودية وألم الإنسان الذي تعتصره المدن المعاصرة وتمزق أحلامه وتحاصر جسده وصوته، في محاولة لتحويله إلى عنصر من ماكنة إنتاجها التي تدور دون توقف أو رحمة.

عوالم الشاعر متداخلة ما يفرض صعوبة في تفكيكها وترجمتها، ونظرا إلى صعوبة ترجمة الشعر تسأل “العرب” أيمن حسن كيف كان نقل عوالم الشاعر إلى الفرنسية؟ فيجيبنا “دائما أقول إنّ ترجمة الشّعر تتطلّب شاعرا. طبعا، أشتغل منذ سنين على الترجمة وكما ورد في تعريفي من قبل الناشر الفرنسي، ترجمت لأدونيس والمزغني ونوري الجراح ومحمد الغزي وطلال حيدر وغيرهم. كل منهم له لغته وعوالمه، وأحاول أن أحترم ذلك في لغة الوصول”.

وحول مدى تقبل شعرية مثل شعرية أولاد أحمد من قراء الفرنسية يقول حسن، لـ”العرب”، “أولاد أحمد شاعر حقيقي وارتبط اسمه بالثورة التونسية. صحيح أن الأدب التونسي غير منتشر بكثرة في فرنسا وفي أوروبا عموما، والأسباب كثيرة ومتنوعة، لكني أؤمن بالمبادرات الشخصية والعمل لتجاوز هذا النقص. سيكون الأمر أفضل مع صدور كتاب آخر للشاعر”.

ويأمل حسن في مواصلة ترجمة عوالم أخرى من عوالم الشاعر أولاد أحمد الذي حصرته الذائقة في شق الشاعر السياسي والوطني، وإن كان ذلك التمشي ينال جل ما كتب، وقد أخذ عليه ذلك من باب التكرار والإغراق في الخطابة في حياته، إلا أن التجربة الشعرية لأولاد أحمد أو أي شاعر غيره تقرأ كاملة بكل كبواتها ونجاحاتها.

13