الرقص الحديث يتمرد على الأجسام المثالية والمهارة

مبدعو ما بعد الحداثة كانوا في أشد الاحتياج إلى التعبير عن أنفسهم بلغتهم الحركية.
الأربعاء 2021/09/08
الحركة أكثر تعبيرا وحرية وانطلاقا من الكلمة

تجاوزت الفنون الحديثة الأطر التقليدية المرسومة سلفا، ومثلت تمردا جريئا على منظومات راسخة حتى أصبحت من البديهيات التي يصعب الخروج عنها، ومن ذلك فن الرقص الذي كرس على امتداد قرون حركات نمطية وصورا وثقافة مكررة تفصل بين الجنسين وتكرس الأفكار العامة والتصورات السطحية للجسد، إلى أن جاء الرقص الحديث وكسر كل ذلك.

 تنطلق راقصة الباليه ومخرجته ومصممته سحر حلمي هلالي في كتابها “مرحلة ما بعد الحداثة في فن الباليه” من بحث مرحلة هامة في تاريخ الرقص ودراستها، تلك المرحلة التي ظهرت بعد فترة الحداثة في عالم الرقص، حيث تبحث في التأثيرات التي تأثرت بها هذه المرحلة وساعدت على ظهورها، ومن هم مبدعوها الذين كانت لهم الإسهامات الأولى في هذا النوع من الرقص وما هي أعمالهم، كما تبحث في المؤثرات التي تسببت في تراجعها.

وتؤكد هلالي أن النصف الثاني من القرن العشرين عرف تطورا كبيرا في حرفية الأداء والوصول إلى أعلى مستوى فني مهاري وحركي في تقنيات الباليه من خلال عروض باليهات النيو كلاسيك التي قدمت على مسارح الباليه المختلفة، في كل من أوروبا وروسيا وأميركا، فظهر العديد من مبدعي فن الباليه والتأليف الحركي، مثل موريس بيجار، رولان بتي، جون كرانكوا، جان كريستو مايو وجيري كيليان.

ضد المهارة

ترى هلالي في كتابها، الصادر عن دار سنابل، أنه في السيتينات والسبعينات من القرن العشرين ظهرت أيضا مرحلة جديدة يطلق عليها الحداثة أي ما بعد الرقص الحديث، وهو عبارة عن تيار قلب في حقيقة الأمر موازين تصميم الرقص، وهذا من أجل إعادة الحريات التي صادرتها الأسماء المشهورة لمصممي الرقص الحديث، فقد طالبت الأقليات بحقها في الوجود الفني، ما جعل الفنانين يرغبون في إعادة التفكير وإعادة النظر في أعمالهم.

واستطاع ميرس كاننجهام أن يضع الخطوة الأولى في هذا التيار من خلال الصدفة وترك الحرية الارتجالية للجسد، ففي هذه الفترة من الستينات والسبعينات من القرن العشرين لم يعد هناك فنانون ولكن مؤدون ولم يعد هناك عروض بل أداء، فقد نظر هذا الجيل من الراقصين إلى كاننجهام وأعماله المميزة وضرورة وجود أعمال مختلفة عنها، وكأن أعماله لا بد من تدميرها، فمبدعو مرحلة ما بعد الرقص الحديث لم يجدوا أنفسهم في هذه المرحلة من الرقصات الدرامية والتمثيل التصويري والمجازي لهياكل اللامعقول فرفضوا دوام شكل الفن على ما هو عليه.

عصر الحركات الجاهزة انتهى وأعيدت صياغة الرقص بطريقة تلقائية طبيعية والدعوة إلى المساواة بين الجنسين في العمل الفني

وتتابع “بدأت نظرية الرفض في الرقص على يد إيفون راينير التي أشهرت لاءاتها في كل ما يختص بالرقص والعروض الأخرى، حيث قالت ‘لا للمشاهد الضخمة، لا للمهارة، لا للسحر والإيحاء وتعالي صورة النجم في العمل، لا لكل ما هو بطولي، لا لعكس ما هو بطولي، لا للتصورات القديمة، لا لتدخل المشاهد، لا للأسلوب الراقي، لا لإغراء المشاهد، لا للحركة أو الإجبار على الحركة’. إذن فهو البدء من الصفر، لتعريف ما هو الجسد؟ وما هو الرقص؟ وما هو المكان؟ وما هو الزمان؟ ومن يرقص؟ وأين يرقص؟ ولمن يرقص؟”.

ويرى مصممو تلك الفترة أن كل حركة يمكن أن تكون حركة رقص ولينتهي عصر الحركات الجاهزة، فالرقص للجميع والمبدأ هنا “أنا أرقص إذن أيا كان ما أقوم به فهو رقص”، فالنهد حر والشعر حر ولم يعد هناك ما يدعو إلى الخجل والخطوة هي أول حركات الرقص، إعادة صياغة الرقص بطريقة تلقائية طبيعية والدعوة إلى المساواة بين الجنسين في العمل الفني، فالمرأة تستطيع أن تحمل الرجل، عكس ما كان متعارفا عليه في عالم الرقص عبر العصور.

وقد تم الاحتفاظ بالصدفة مع الابتعاد عن الحركات المهارية والاقتراب من الحركات التي لا تنتمي إلى الحركات الراقصة وإنما الحركات المستعملة للإنسان العادي، أي حركات الشعب. إنها نقطة لانطلاق مجموعة من تجارب اللارقص بالإضافة إلى التكنيك للرقص، ولا تقاليد، ولا أطر، ولا مكان مسرحيا بالمعنى التقليدي للكلمة، وإنما استعمال الحركات المألوفة والمعتادة مثل السير، الجري، الوقوف، الأكل، وكذلك التكرار.

وتشير هلالي إلى أن بعض العروض لفترة ما بعد الحداثة قدمها عدد من المصممين مثل تريشا براون عام 1966 في عرض “موتور” (Motor) وهي تضع كاميرا على ظهرها، وفي عام 1969 تطالب الجمهور بالصياح فيها كي ترقص عرض “البطن الصفراء” (Yellow Belly) والذي قدمت فيه رؤية حركية جديدة ومختلفة ومبتكرة لقربها ممّا بداخلها كمبدعة وكذلك عرض “أرض الغابة”  (Floor of the forest) عام 1969.

وفي الفترة من 1970 وحتى 1976 تجمع مصممو ما بعد الحداثة كمجموعة من الراقصين والمصممين وكونوا فرقة “جودسون” (Judson) بنيويورك في محاولة للبحث عمّا هو خارج المألوف، خارج التقليدي، خارج الموجود في المناهج والكتب، وغير ما قدم ويقدم على المسرح. فكانوا يرقصون في الشوارع وفي صالات الفن التشكيلي وعلى درجات السلالم، في الحدائق العامة، على أسوار المباني، فقدموا عملا نرى فيه رجلا يسير بطول حائط أحد المباني كنوع جديد من الابتكار.

فن للجميع

Thumbnail

توضح أنه في عام 1971 أنشأت جماعة نسائية من أجل الاعتراض على حرب فيتنام وقدمت عرض “علم جودسون”  (Judson Flag Show) لإيفون راينير وهو عبارة عن مجموعة من الراقصين عراة لا يرتدون سوى علم أميركا. وهناك العديد من التجارب في هذا النوع تبحث في مهارة التجديد حيث يتم هدم أنواع الرقص السابقة للحصول على المزيد من الحركة في حركة الجسد وسلوكه والأشياء المستعملة والأماكن التي يمكن أن يقدم عليها العرض.

تقول المؤلفة “من دراستي لتاريخ الفن وتاريخ الباليه خصوصا وجدت من تحليلي لمرحلة ما بعد الحداثة أن مبدعي هذه الفترة كانوا في أشد الاحتياج إلى التعبير عن أنفسهم بلغتهم الحركية، لكن كان عليهم كسر كل القيود التي تعوقهم وكان أهمها احتكار راقصي الباليه الكلاسيكي بمصمميه ومبدعيه”.

وتضيف “بالتدقيق في تاريخ مبدعي الرقص ومصمميه في فترة ما بعد الحداثة نجد أنهم ليسوا بالضرورة من دارسي باليه كلاسيكي أو حديث، بل نجد أنهم ليسوا دارسي باليه أصلا إنما هم فنانون تشكيليون أو مصورو فوتوغرافيا أو مهندسون.. إلخ، لذا كان عليهم أن يجدوا لغة حركية بسيطة وسهلة حتى يتمكنوا من أدائها والتعبير من خلالها. كما وجدت أنهم ليسوا من دارسي مسرح أو دراما، لذلك لم يهتموا ولم يلتفتوا إلى قواعد المسرح والدراما المسرحية، إنما هم كانوا جيلا يريد أن يعبّر عن نفسه بالطريقة التي تسمح بها قدراتهم الجسمانية المحدودة، فألّفوا لغة حركية جديدة ومختلفة معالجة خصيصا لقدراتهم الجسدية. لغة خاصة دون معالجة لنص أدبي أو تحليل حركي أو استعراض لمهارات حركية أكروباتية”.

الرقص الحديث لا يمثل جماعة دون غيرها ولا يقتصر على ذوي الجسم المثالي والقدرات الخارقة فقط

وتكشف هلالي أنها أدركت كباحثة وفنانة أن أهم مميزات فن الباليه في القرن الحادي والعشرين أنه أصبح من حق الجميع المشاركة في ممارسته سواء بالأداء الذاتي للفرد أو بتأليف حركي للمصممين أي مؤلفي الحركة. فالكل يريد أن يعبر عن وجهة نظره بالحركة. وبالتأكيد اختاروا الحركة لأنها أكثر تعبيرا وحرية وانطلاقا من الكلمة، فجاءت أعمالهم على النحو الغريب والجريء في نفس الوقت، لم يهتموا برأي النقاد ولا الجمهور، لأنه كان احتياجا أكثر منه استعراضا للمواهب والقدرات الفنية.

وتتابع “نحن أيضا في مصر في أمسّ الحاجة إلى فن يستطيع أن يصبح ملكا للجميع لا يمثل جماعة دون غيرها ولا يقتصر على ذوي الجسم المثالي والقدرات الخارقة فقط. فن لكل الفئات لا لفئة بعينها. نحن محتاجون إلى الجرأة في الأفكار والابتكار بتشجيع المواهب الجديدة. محتاجون إلى ألاّ نخاف من الطارئ بتقديم عالم غير مثالي كما هو الحال في عروض فن الباليه التقليدية الجميلة. محتاجون إلى التعدد والتنوع في الفكر والابداع في تقديم أشكال مختلفة لفن الباليه، محتاجون أن نتعلم أن فن الباليه هو لغة حركية يمكننا بها أن نعبر عمّا نريد أيا كان كما هو الحال وباقي أنواع الفنون الأخرى، كالرسم والموسيقى والنحت والأدب والشعر والسينما والمسرح”.

وتوقفت هلالي في كتابها عند التأثير الكبير الذي أحدثه حريق الأوبرا المصرية القديمة وحرمان الجمهور العربي من الاتصال بتطورات الفن الغربي خصوصا فيما يتعلق بالأوبرا والرقص الذي حقق تقدما كبيرا لفن الباليه في النصف الأول من القرن العشرين، وتركز على الأثر الاقتصادي والسياسي الخفي للفن، والتأثير المدمر الذي يمكن أن يقع عليه، ومن هنا تصور لنا المفاجأة والصدمة التي أحستها عندما عادت هذه التيارات مرة أخرى للظهور في مصر، ولكن بعد أن اتخذت أشكالا مختلفة ونضجت إلى حد كبير وأصبح لها مبدعوها الكبار ومدارسها المختلفة.

Thumbnail
14