علي حسن الجابر يطارد الإيقاع محلقا بجناحي نونه

"صورة الحرف أم صوته؟"، لم يدر ذلك السؤال في أصوات الرسامين الحروفيين العرب. كانت نظريتهم تقوم على أساس استلهام جماليات الحرف العربي. وهو مفهوم عام عالجه كل رسام بطريقته الخاصة.
ولكن الشغف بحركة الحرف العربي وهي مصدر ليونته كان هو العامل المشترك بين كل تلك التجارب، سواء تلك التي كانت عبارة عن استدراك للحرف باعتباره أثرا كما لدى العراقي شاكر حسن آل سعيد أو تلك التي تستند إلى الجانب الزخرفي - الخطي كما لدى التونسي نجا المهداوي.
القطري علي حسن الجابر لا ينتمي إلى أي واحد من الاتجاهين. فهو ينصت إلى الحرف وينظر إليه في الوقت نفسه. ذلك معناه أنه يجمع بين صورة الحرف وصوته ليصل إلى غايته في تلمس الطريق إلى تأثيره الجمالي.
يده تطارد خيال الموسيقى
ولع الجابر بالحرف العربي يعود إلى سنوات مبكرة من شبابه. لقد تعلم يومها أصول فن الخط العربي. كان يأمل أن يكون خطاطا. غير أن مزاجه الغنائي في النظر إلى الحروف بحرية لم يكن ييسّر له الالتزام بقوانين ثابتة في رسم الحروف والتحكم بعلاقاتها وفق ضوابط لا يمكن الخروج عليها.
كانت يده تمتلئ بخيال الموسيقى فيما يُفترض أن تكون يد الخطاط مصوبة بشدة ودقة وتماسك إلى هدفها مثل يد جندي. وكان عليه وهو الذي لم يدرس الرسم أكاديميا أن يتعلم الأصول التي لا تضر بحرية يده وتساعده على التعرف على مصادر تلك الليونة العذبة التي يتمتع بها الحرف وهو يسعى لتجسيد شفافيته وكل عنصر لا يُرى من عالمه الشاسع الذي يملأ المعاجم سحرا يفيض عليها.
لم تكن لديه فكرة عن حرف بعينه يكون بطلا لمغامرته التي رغب في ألاّ يدمجها بتجارب الآخرين، فيكون جزءا من كل. حرص على أن يكون مفردا وحيدا حين اكتشفت يده أن الـ"نون" تملأها شغبا. تُطعمها أفكارا برية وتفرد لها مساحة تقع بين الأرضي والمقدس.
ولكن الفنان لم يسهب في التأويل القائم على استلهام حرف الـ"نون" باعتباره كيانا مفردا ذُكر بشيء من القداسة. لم يشأ الجابر التفريط بموعظته الجمالية التي تمزج الجمال باللعب في إطار احتفالي.
لسنوات طويلة وهو يرسم الـ"نون". في كل مرة يرسمها فيها كان يشعر أنه يرسمها لأول مرة. سيتعرف من خلال ذلك الحرف كيف يقيم علاقته بالحروف على أساس الغزل الذي ينبعث من الداخل.
حفلته تقع هناك في الداخل. موسيقى يده تشق طريقها إلى الخارج لتعرفه مع متلقيه على حروف ستظهر كما لو أنها ضيوف طارئون.
نفائس صائغ الذهب
الجابر يلعب بحرية بالحروف، نحاتا ورساما غير أن عينه لا ترى إلا النون، عشقه الأبدي. ولد في الدوحة عام 1956. ودرس التاريخ في جامعة قطر التي تخرج منها عام 1982. عمل في مجال الآثار. عام 1984 شارك في دورة لصيانة التراث العربي الإسلامي في جامعة لوفات ببلجيكا. درس فن الحفر من خلال دورة أقيمت في كلية الفنون الجميلة بجامعة القاهرة.

وإذا كان قد جمع بين الرسم والنحت والفوتوغراف في محاولة منه لفهم الأثر الإنساني وصلته بالمكان في أجواء البحث الحروفي الخاص الذي لم يغادره فإنه نجح في أن يخترق مناطق قد تبدو محصّنة أمام فنان تميزت تجربته بخاصياتها الإيقاعية الداخلية الغامضة كما في دخوله على عالمي المجوهرات والأزياء.
وليس مفاجئا أن تُحدث تلك التجربة تأثيرا عميقا في تجربته الفنية، ذلك لأنه يتعامل مع لوحاته كما لو أنها نفائس فيعالج مفرداتها بدقة صائغ الذهب. وغالبا ما يؤكد أنه لم يتخل عن عادات الخطاط، بالرغم من أن منظوره الحروفي كان قد تغير بطريقة كلية. غير أن حرصه على أن يظل الخطاط مقيما في أعماق روحه يقربه من حالة التجلي التي يعيشها الخطاط وهو يعالج نصوصا مقدسة.
يشعر المرء وهو ينظر إلى رسوم الجابر أن الرسام لا يرسم صورا بقدر ما ينقل نصوصا سرية من حالة خفائها ليجسدها على هيئة حروف يمكن أن تُرى باعتبارها جزءا من طلسم مغلق على معانيه.
أقام الجابر أكثر من ثلاثين معرضا شخصيا. وفي عام 1993 حاز على جائزة لجنة التحكيم في بينالي الشارقة. كما نال جائزة السعفة الذهبية لفناني مجلس التعاون الخليجي. ونال كذلك جائزة الدولة التشجيعية في مجال الفنون التشكيلية.
نون الصحراء النافرة
هل سمع الجابر صهيل حصان وهو يبدأ بحرف النون؟ ليس في الأمر أي نوع من المجاز الشعري بالرغم من أن عالم الرسام كله شعر من جهة رقته. "حصان الصحراء" هو عنوان عمله النحتي الذي يحتل مكانا بارزا في مطار حمد الدولي بالدوحة. ذلك الحصان هو النون التي لم تكتف بمكانها وزمنها، ولا شكلها وصوتها، ولا إيقاعها وأثرها. هذه المرة حضرت مجسدة بمادة لا تذكر بخيالها الفاني.

لقد تعلّم اللعب بالحروف ومعها. لا لأنها صنيعته بل لأنها اكتسبت الكثير من طباعه. إنها جزء من عالمه الروحي. مثلما يستعمل حواسه لكي يراها ويسمعها ويشمها ويتذوقها فإنها تملك الوقت لكي تهبه سعادة أن يلعب. ليّنة ومرنة وموسيقية كألعاب الطفولة منحوتات الجابر وليست صارمة ومتجهمة ومقفلة على ذاتها. يمكنك أن تسمع أصواتا وأنت تنظر إلى حصان الصحراء. ستقنع نفسك أنك رأيته في حلم ما. غير أنك لا بد أن تسمع صوتك وأنت تراه. صوتك القادم من حلم بعيد يشق الصحراء مثلما يفعل ذلك الحصان الذي هو عبارة عن خطوط رُسمت في الهواء وصارت تملك قوة الكائن الحسي.
يثق الجابر أن كل ما يفعله إنما ينبعث من يد الرسام فهو يرسم نحتا ويصور باعتباره رساما.
في تحول غامض وغريب صار الجابر يرسم زهورا. ولكنها زهور تذكر بعين الخطاط المولع بالزخرفة النباتية. كما لو أنه يكرر رمزا ليؤكده ويحفر له موقعا في الذاكرة البصرية يرسم الجابر زهرته لكي يتعرّف على لغتها.
أشبه بالحرف الذي ينصت إلى صوته تتابع الزهرة شهقة عطرها. هل كان يحاول رسم تلك الشهقة بدلا من أن يقبض على العطر؟ لقد حاول في أوقات سابقة أن يرسم ما لا يُرى من خلال التسلل إلى أعماق الحرف. ذلك الحرف الذي يمكن أن يملأ متحفا بتجلياته. أما الزهرة فإنها تشجعه على أن يتسلل إليها وينقب في المواقع الذي تترك فيها أثرها.
زهرته هي المفردة التي كلما تكرّرت تنوعت معانيها. إنه يرسم حياة على هيئة زهرة. حياة خفية يعيشها في لحظة اكتشاف عابرة. وهنا يحضر الخطاط الذي يقدس مفرداته وهو ينظر بطهر إلى أدواته. يقول الجابر "كثيرا ما تراودني أحلام بأمكنة مختلفة ارتبطت بمخيلتي. أمكنة سكنتني منذ زمن بعيد وتتملكني ذكريات القرى ببساطة بنائها الممتلئة بقصص الحب الخيالية والشعر المتوارث والأمثال. أتذكر النساء والأطفال والشيوخ وارتباطهم بالأمكنة".
يرسم علي حسن الجابر بيد العاشق الذي ينتظر أن تنبعث ذكرياته من الرموز الغامضة التي تترك أثرها على سطوح لوحاته. حياته كلها هناك. وهي حياة تقيم في اللغة. ذلك ما جعله شديد الارتباط بالشعر.