الفنان المصري عبدالغفار عودة: المسرح الإسلامي غير موجود

انتشر مصطلح “المسرح الإسلامي” بين الكثير من المسرحيين في مصر خلال ثمانينات القرن الماضي، فقد انتشر هذا الشكل، الذي نشأ وترعرع في أحضان ما يسمى بالصحوة الإسلامية، والذي اعتبر اتجاها أو شكلا من أشكال مسرح الهواة. ولكنه في جوهره يفتقد إلى دقة التسمية، كما أن مجرد اصطدامه بالمؤسسات الدينية يتبدد ويجهض قبل أن يولد، حيث تحاصره الموانع والنواهي ما يجعل منه مسرحا مشوها في تشخيص شخصيات من التاريخ الإسلامي. في ما يلي حوار جريء حول المسرح الإسلامي والثقافة مع الفنان المصري الراحل عبدالغفار عودة.
التقيت الفنان عبدالغفار عودة في الإسكندرية أثناء إخراجه لإحدى المسرحيات المعروضة على خشبة مسرح سيد درويش عام 1983، وكان وقتها مديرا للمسرح المتجول، وقد أخرج وشارك بالتمثيل في الكثير من المسرحيات مثل “ست الحسن” و”السبنسة”، كما اشتهر بدوره في مسلسل “محمد رسول الله” في تلك الفترة، حيث أدى شخصية فرعون مصر في زمن النبي موسى عليه السلام، فحقّق نجاحا جماهيريّا كبيرا، وربما مشاركته في هذا المسلسل الشهير جعل الكثيرين يسألون عن إمكانية وجود ما يسمى بـ “المسرح الإسلامي”، إلى جانب الدراما الإسلامية والدينية والتاريخية التلفزيونية، وهذا ما دفعني إلى لقائه -وأتذكر أنه كان في غرفته بفندق سيسل- للحوار معه حول هذا المسرح.
أرسلت الحوار للنشر في إحدى الجهات التي كنت أتعامل معها في ذلك الوقت، ولكنه لم ينشر، ربما بسبب آرائه الجريئة التي سنقرؤها هنا حول موضوع “المسرح الإسلامي”، هو لم يعترض على المسمَّى أو المصطلح، ولكنه كان يعترض على المعترضين على ظهور الشخصيات الإسلامية على المسرح أو حتى في السينما والتلفزيون، عدا شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
مرت سنوات على إجراء الحوار، وسافرت للعمل خارج مصر وعدتُ وفتحت دفاتري القديمة وكراتين الكتب المغلقة لأستعيد موضوعات قديمة بعضها نشر والبعض الآخر لم ينشر، وكان من بين الذي لم ينشر حواري مع عبدالغفار عودة الذي رحل في 23 فبراير عام 2003 (والذي يصادف عيد ميلادي الخمسين) قبل أن يرى حواري معه منشورا في أي جريدة أو مجلة.
الإسلام والمسرح

ولد عبدالغفار عودة في الثاني من يونيو بالدقهلية عام 1940، وحصل على بكالوريوس المعهد العالي للفنون المسرحية عام 1964 قسم التمثيل والإخراج، ثم حصل على شهادة في الإخراج المسرحي من جمهورية المجر عام 1972 تشمل الجانبين العملي والنظري.
انضم لعضوية المسرح القومي ممثلا ومخرجا، وعمل في قسم المسرح بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية، وكان عضوا بمجلس نقابة المهن التمثيلية على مدى سبعة عشر عاما. كما عمل في وزارة الثقافة لمدة 42 عاما حتى وصل إلى درجة وكيل وزارة.
بدأ مسيرته الفنية في المسرح في فترة الستينات من القرن العشرين، حيث أخرج مسرحيته الأولى وعنوانها “ورق ورق”. وشغل منصب نقيب الممثلين لدورتين متتاليتين، وأسس المسرح المتجوّل وعمل مديرا له. من أهم أعماله التلفزيونية كممثل: «محمد رسول الله»، والذي يتكون من خمسة أجزاء بدأ عرض الجزء الأول في رمضان 1980، كما شارك في أجزاء أخرى من هذا المسلسل الرمضاني، فضلا عن مشاركته في مسلسلات دينية وتاريخية أخرى مثل “لا إله إلا الله” في دور هامان، و»الكعبة المشرفة»، و»تحت ظلال السيوف»، و»هارون الرشيد»، و”القضاء في الإسلام”، و”السيرة الهلالية”، و”وادي فيران”، و”ألف ليلة وليلة” و”الأبطال”، و”إمام الدعاة”. كما أن له العديد من المسلسلات الإذاعية والمسرحيات التي أخرجها وشارك بالتمثيل في بعضها.
الفنان عبدالغفار عودة له تاريخ فني تلفزيوني وإذاعي ومسرحي عربي حافل بالأدوار الإسلامية التي أداها في المسلسلات الدينية والتاريخية المختلفة، فهل نستطيع أن نقول إن لدينا مسرحا إسلاميا الآن بين مسارحنا المختلفة؟
عبدالغفار عودة: مسألة المسرح الإسلامي في الحقيقة مسألة شائكة بعض الشيء وتحتاج إلى كلام كثير لأن تقسيم المسرح إلى نوعيات؛ مسرح تراثي، مسرح إسلامي، مسألة لم تخرج إلى حيز الاحتراف، أو حيز العرض المتكامل، ولكن وصلت إلى حدود الهواة في بعض المراكز الثقافية أو النوادي أو الجمعيات، فمثلا جمعية الشبان المسلمين من الممكن أن تقدم مسرحية عن حياة فلان، وكلها اجتهادات حول بعض الشخصيات أو المواقف الإسلامية.
في تصوري أن المسرح الإسلامي غير موجود لأنه يفقد الأساس في سبب قيامه ألا وهو الشخصية الإسلامية التي يدور حولها الفن المسرحي، حتى يتولد من خلالها عملية الصراع، ويتم من خلالها عملية البناء الدرامي أو التلاحم العضوي في العمل الفني، إنها غير موجودة على الإطلاق، ليس لأنها غير موجودة تاريخيّا، ولكن لأنه غير مصرح ظهورها على خشبة المسرح أو من خلال التلفزيون أو السينما.
نجد أن الرقابة على المصنفات الفنية والأزهر الشريف، وكل من له صلة بعالم الإسلام أو الدين يمنع بالقطع دون نقاش ودون جدال ظهور الشخصيات التالية: سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، آل البيت، الخلفاء الراشدون، العشرة المبشرون بالجنة، الصحابة.
طبعا أمام هذا الحظر وهذا الكم الهائل من الممنوعات، تتحول الشخصية الإسلامية إلى شخصية تطرح في الأعمال الفنية من خلال راو أو من خلال السرد أو من خلال شخصية مبلغة مما يضعف الجانب الإسلامي أو الجانب المؤمن في الدراما، لذا تجد الشخصيات الكافرة أو الشخصيات التي تحمل وجهة نظر مناوئة للإسلام موجودة ولها حضور ولها كيان، مثل شخصية أبي لهب، وأبي سفيان، وأبي جهل، كل هذه الشخصيات تمارس وجودها في العمل الدرامي، أما المعادل لها دراميا أو فكريا فغير موجود، فمثلا سيدنا عمر بن الخطاب لا يظهر، ولكن يظهر مَن يحكي ويقول إن سيدنا عمر عمل كذا أو قال كذا، ولكن أين سيدنا عمر نفسه، فشخصيته غير مصرح بها للظهور أو ممنوع ظهورها.
هل هذا قصور في مسلسلاتنا الإسلامية؟
عبدالغفار عودة: بالطبع هذا قصور صارخ، ورأيي أن هذا السبب الأساسي والأول في عدم ظهور مسرح إسلامي حقيقي، كل ما هو موجود من اجتهادات في الكتابة أو اجتهادات في الإخراج أو اجتهادات في الإنتاج سواء كان من خلال التلفزيون أو من خلال الراديو أو المسرح، كلها اجتهادات محدودة، وستظل محدودة ولم تخرج إلى المسرح أو إلى أي فن يتناول التاريخ الإسلامي أو يتناول المسرح الإسلامي بصورة درامية حقيقية.
لدينا تراث إسلامي رهيب وهائل، ولدينا شخصيات ومواقف إسلامية درامية أخطر وأهم من الشخصيات التي عرضها شكسبير مثلا. لدينا خالد بن الوليد، أهم وأخطر من عطيل أو هاملت أو الملك لير، لدينا عمرو بن العاص، لدينا عكرمة، لدينا أبوسفيان.. حتى الشخصيات الكافرة عندما تبرز في تطورها من الكفر إلى الإسلام، أو في تطورها كشخصية مناهضة للإسلام، سنجد أن هناك أبعادا مختلفة لها في كفرها وأبعادا مختلفة أخرى في إسلامها، ولكن للأسف الشديد النظرة القاصرة من الأزهر وبعض المسلمين الذين لا يعرفون من الإسلام إلا قواعده الشكلية وتحفظاته ولا يعرفون روحه.
وقد أتيحت لي الفرصة من خلال أعمال عبدالرحمن الشرقاوي أن أجري حوارا حول هذا الموضوع وأن أقدم دراسة حول المسرح الإسلامي من خلال التعازي الشيعية، وهي أول أصل له علاقة بالمسرح الإسلامي، وهي تقدم في الكثير من الدول العربية، ولكن تقدم في كل دولة بشكل معين، وهي تتناول حياة سيدنا الحسين في موقعة كربلاء، وما قبلها وما بعدها، وما تم له من إجهاض وإحباط أو في النهاية إلى اغتياله، هذا الاغتيال المعروف في كربلاء، وعذاب الشيعة مما تسببوا فيه من آلام لسيدنا الحسين وأخواته، وكل ما دار في هذه الموقعة.
لقد أقمت هذا العرض في أكاديمية الفنون بالمعهد العالي للفنون المسرحية، وكنت أدرّس فيه، وحاولنا من خلال هذا العرض أن نجري طرحا أو تصورا لفكرة المسرح الإسلامي. وكان موجودا عبدالرحمن الشرقاوي الذي اشتهر بكتاباته الإسلامية وبفكره وبشعره وبأعماله التي له فيها باع إسلامي طويل. وقد أحسست بمدى المرارة من خلال مناقشاتي معه، ومدى المعاناة التي يعانيها جرّاء إيقاف مسرحيتيه “الحسين ثائرا” و”الحسين شهيدا”.
وقتها وجدت أن هناك بعض الشخصيات التي لها وزنها الفكري الإسلامي مثل الشيخ متولي الشعراوي والشيخ الباقوري لا يمانعون في ظهور بعض الشخصيات الإسلامية على المسرح عدا شخصية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالطبع.
إذن من أين يأتي رفض ظهور الشخصيات الإسلامية التي ذكرتها آنفا على المسرح؟
عبدالغفار عودة: الرفض يأتي من العقليات المتحجرة في الأزهر التي تنظر إلى الإسلام نظرة شكلية بعيدة عن الروح، فالإسلام يسر وليس عسرا، ومن خلال عرض شخوصه ومن خلال عرض تاريخه نجد فيه، في جيلنا وما نربيه من أجيال، عشرات الآلاف من الموضوعات العظيمة، والقدوة، ثم إن هذا يُكسب الدراما ويُكسب الثقافة ويُكسب الفن ويُكسب التراث الإسلامي ثراء وانتعاشا غير عادي، لأنني عندما أعرض لهذه المواقف سأعرض التاريخ الإسلامي، وسأعرض لشخوصه وسأبرز جوانب جديدة.
فإلى متى أظهر بدائل لشخوص إسلامية في مسلسلاتنا وأفلامنا كأن أظهر مثلا راويا أو أظهر ضوءا أو عصا تختفي وتظهر أو أشياء من هذا القبيل. هذه البدائل إلى متى؟ أعتقد أننا بهذا وصلنا بالدراما الإسلامية إلى طريق مسدودة، فلن يستطيع مؤلف أن يكتب بعد ذلك إلا وسيعيد ما كتب أو سيكرر ما ظهر أو سيدور في نفس الفلك.
شخصيات عظيمة

إذن ما الحل في رأي عبدالغفار عودة؟
عبدالغفار عودة: الحل يأتي عندما يرفع هذا الحظر وتتنفس الدراما الإسلامية والمسرح الإسلامي من منطلق أن الإسلام ليس حكرا على الأزهريين، وليس حكرا على قرارات ما أنزل الله بها من سلطان، فليس للمنع وجود في القرآن، وليس للمنع وجود في السنّة، وليس للمنع وجود في آراء الفقهاء الأربعة أو في القياس، أو في أي مصدر إسلامي يمكن أن يعتد به.
ولكن هذا المنع منع شكليّ لعقليات متحجرة تقف بمفاهيمها في طريق تخلف طويل جدّا، وفرض هذا الرأي فيه إهانة للإسلام ولتاريخه، وفيه حجر على قيمه وشخوصه ومواقفه، ولو أن هذا الحظر ألغي أعتقد أننا سوف نستطيع أن نتنفس فنّا أنضج، ونجد مواقف وشخوصا إسلامية حقيقية تكون مثلا وتكون قدوة، ونستطيع أن نستعيد روح المسرح الإسلامي، ونستعيد أصالته، وما نقدمه الآن سنكتشف لحظتها أنه مجرد قشور في عالم الإسلام، وفي عالم الدراما الإسلامية.
تعتقد أننا لو سلَّمنا جدلا بأن مثل هذا الحظر قد رفع، فما أهم الشخصيات الإسلامية التي من الممكن أن نتعامل معها دراميّا؟
عبدالغفار عودة: عبدالغفار عودة: بالقطع شخصية الرسول عليه الصلاة والسلام لن تظهر، ولكن هناك شخوص كثيرة مثل شخصية عمر بن الخطاب، شخصية ثريّة جدا في نواحيها الدرامية، ألم يكن عمر بن الخطاب كافرا قبل دخوله إلى الإسلام ثم جاءته اللحظة الإيحائية العظيمة فأسلم وآمن، وكذلك عمرو بن العاص وخالد بن الوليد، إنهم بشر عاديون، ولم يكن هناك وحي يتنزل عليهم، ولكنهم شخصيات عادية كانت كافرة، وعندما أسلمت وآمنت تحولت حياتها إلى النقيض وإلى الضد.
كل هذا لو أظهرناه دراميّا من خلال المسلسلات لكان شيئا عظيما. ومثلا لو دخلنا في سلمان الفارسي الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم “سلمان الفارسي منكم آل البيت” هذه الشخصية العظيمة ثرية جدا عاصرت عبدة النار، وعندما آمنت بعبادة النار كرهت الجانب السلبي فيها وتركتها، وآمنت باليهودية، ثم تركتها، وآمنت بالمسيحية وعرفت جوانبها وتأملتها ثم تركتها، وعندما جاء الإسلام تأمل جوانبه واعتنقه أخيرا.
هذه الشخصية التي عرفتْ كل الأديان بما فيها عبادة النار، عندما يأتي الإسلام يتمسك به، فهذا تمجيد للإسلام، وهذا جديد لم نره في المسلسلات الإسلامية، وعندما نراه بلا شك سوف نتعرض للديانات والفلسفات والآراء المختلفة وسوف يكون هناك ثراء فكري عظيم.
هذا واحد من آلاف الشخصيات العظيمة، وفي رأيي أن هناك كنزا كبيرا اسمه “التراث الإسلامي” والشخوص الإسلامية والمواقف الإسلامية، وأن هذا الكنز أُغلقت عليه بضبَّة ومفتاح وقفل كبير جدا العقلية الأزهرية غير المتطورة وغير المتفهّمة لما يجب أن تكون عليه الدراما الإسلامية.
مسرح الستينات
سؤال تقليدي لا بد من طرحه على عبدالغفار عودة لأن لرأيه ثقلا كبيرا في هذا الموضوع، وهو عن مسرح الستينات: هل فعلا كان هناك مسرح عظيم في الستينات كما نسمع الآن؟ وما أهم العلامات البارزة في هذا المسرح؟
عبدالغفار عودة: المسرح جزء لا يتجزأ من المسار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وبالتالي الثقافي والفني، ولا أستطيع على الإطلاق أن أقول إن مسرح الستينات كان مسرحا عظيما من فراغ، فمسرح الستينات كان مسرحا عظيما لأنه عاصر مناخا سياسيّا واقتصاديّا واجتماعيّا كانت فيه محاولات لقيام دولة اشتراكية تنبذ المحاولات الفردية، وتتجه للمجموع لمصلحة المجموع، وكان هناك تطور ظاهر في المسرح، وبالتالي في كل الفنون، فالمسرح جمّاع لكل هذه الفنون، وعندما يزدهر المسرح تزدهر بالتالي كل هذه الفنون.
مسرح الستينات كان تعبيرا عن مرحلة كان كل الموجود فيها على نفس المستوى، النقد كان على نفس المستوى، التأليف كان على نفس المستوى، الإخراج كان على نفس المستوى، الحياة السياسية كانت على نفس المستوى، الحياة الاجتماعية، الحياة الاقتصادية، كل شيء كان على نفس المستوى، كنت تحس بأن هناك انتفاضة مع قرارات يوليو الاشتراكية، ومع محاولة إيجاد صيغة لحياة الناس تكون مستقرة يجد المجموع فيها وجودا حقيقيّا وتطورا حقيقيّا.
هذا المسرح، مسرح الستينات، بالطبع يجب ألا نبكي عليه، كما نبكي على الأطلال، ويجب ألا نتمسك به باعتباره هو المنجى الأول والأخير، لأن كل مرحلة لها ظروفها السياسية بالدرجة الأولى، ثم ظروفها الاجتماعية والاقتصادية المترتبة على هذا المسار السياسي المحدَّد، ومن المعروف أيضا عن المسرح أنه إذا كان مرتبطا ارتباطا وثيقا بالمسار السياسي فالاقتصادي فالاجتماعي، فإنه مرتبط بدرجة بتوفر الحرية الحقيقية أو الديمقراطية الحقيقية، فإذا كانت هناك ديمقراطية حقيقية، فإن المسرح سوف يتنفس ويزدهر ويمارس وجوده، وإذا كانت الديمقراطيّة مزيفة، فإننا لن نجد إلا مسرحا مزيفا، وفنّا مزيفا لأن الفن الحقيقي لا ينبع ولا ينبت ولا ينتشر ولا يزدهر ولا يُثرى إلا في ظل هواء ديمقراطي أو مناخ ديمقراطي حقيقي مئة بالمئة.
أمام الحظر والكم الهائل من الممنوعات تتحول الشخصية الإسلامية إلى شخصية تطرح في الأعمال الفنية من خلال راو
أيضا مسألة التضارب في المسار السياسي والتضارب في المسار الاقتصادي والاجتماعي بالتالي، أو التضارب في مسألة الديمقراطية يخلق لنا صورة مشوهة ومشوشة للفن وللمسرح، ولكل ما له علاقة بالفكر والثقافة، لأن كل هذه المسائل السابقة مرتبطة ببعضها البعض، وللأسف الشديد أنا أعرف أن التغيّر الثقافي أو الفني ينبعان من منطلقين، إما الدولة تريد أن تغير، وإما الفنان هو الذي يريد أن يغير.
ومن الواضح أن الفنان هو الذي يريد أن يغير، ذلك أن الدول النامية اقتنعت واعتنقت مبدأ أن الثقافة تعني الضد، تعني الفكر اليساري، الثقافة تعني لا، الثقافة تعني “خميرة عكننة”، الثقافة تعني ثورة، الثقافة تعني نارا من تحت الرماد. اقتنعت الدول النامية بهذا مما يترتب عليه وجود حساسية معينة تجاه الثقافة، وحساسية تجاه كل من له علاقة تجاه فكر ووجدان المواطن.
أصبحت الثقافة أقرب ما يقال إلى المثل المشهور “عندما أتذكر كلمة ثقافة أتحسَّس مسدسي” وللأسف الشديد هذا المفهوم لو استمر، فلا بناء لعقل مواطن مصري أو عربي، ولا بناء لوجدان أي مواطن مصري أو عربي، لأن الثقافة لا بد أن يتوافر لها مناخ ديمقراطي حقيقي، لا بد أن يتوفر للثقافة وأيضا للفنون والعلوم القدرة -سواء من خلال الفنان أو من خلال الدولة- على تغيير هذا الواقع، فمهمة الفن ليس أن يعكس الواقع فحسب، لأن هذا هو نصف المهمة، أما النصف الآخر فهو أن أسعى من خلال عكس هذا الواقع إلى تغييره إلى الأفضل وإلى الأحسن وإلى الأنفع، وهذه الرغبة في التغيير لن تأتي إلا إذا قلنا: لا، إلا إذا كنا ضد، إلا إذا قام الفن بدوره في التوعية، وفي التنوير، في الكشف، وفي التعرية، وفي الحشد، وفي التحريض.
إننا محتاجون إلى فن يبني ويثير، وليس إلى فن ينفّس ويريح، ويقوم بدور المرطِّب أو المُنعش أو الهاضم لأكلة دسمة أو المسلِّي لمجموعة من المخدرين. في الدول النامية نحن في حاجة إلى فن يوعِّي وينوِّر ويفوِّق ويكشف ويضيء. الفن بهذه المواصفات لا بد أن يتحرك من خلال حالة من الديمقراطية الحقيقية، ومن خلال مسار سياسي أقرب إلى الناس منه إلى الانفتاح الاستهلاكي والديمقراطية التعاونية المزيفة التي تتوه من خلال القيم والمسارات، وتتوه من خلالها ملامح الصورة الحقيقية لما يجب أن يحدث.