كارل أبل وعصفوره

كان كارل أبل (1921 - 2006) ابن سلالة فنية هولندية مغامرة. سبقه رامبرانت (1606 - 1669) ثم فنسنت فان غوخ (1853 - 1890) ثم وليام دي كوننغ (1904 - 1997).
الأول هو ملك عصر الباروك، والثاني أحدث تغييرا في الحداثة الفنية حين تأثّر بالمطبوعات الخشبية اليابانية، والثالث حين تقدّم صفوف التعبيريين التجريديين في نيويورك.
أما كارل أبل هو ابن الثلاثة بما يعني أنه ابن عصورهم وأساليبهم الفنية. وكان في الوقت نفسه مختلفا عن معاصريه. ميله التعبيري إلى الألوان الصارخة دفعه إلى أن يكون عضوا مؤسّسا لجماعة “كوبرا” في باريس عام 1948.
كانت كوابيس الحرب العالمية الثانية مصدر إلهام لعالمه الذي تميّز بصراع المخلوقات البشرية ذات الملامح الحيوانية. إلى أن تخلص من تلك التأثيرات احتاج أبل إلى زمن طويل. يومها خرج من تلك المتاهة بعصفوره، وهو لقيته التي سُر بها عالم الفن.
لقد رأيت قبل سنوات في متحف ستيدلك بالعاصمة الهولندية أمستردام غرفة خُصّصت لذلك العصفور. في داخل تلك الغرفة رسم أبل على الجدران مباشرة عصفوره عبر تجليات جمالية مختلفة.
كان ذلك العصفور دليله في ليل الفن التجريدي، وكأني به اختار أن يرسم بعنف خارجي فيما هو يعيش داخليا في نعيم يملأه ذلك العصفور بحدائق زقزقاته.
ولأن ذلك العصفور حيوي ونشيط وسريع التحوّل وقادر على ضبط أجنحته بأصباغها حسب المزاج التعبيري للرسام، فقد ترك مروره أثرا عظيما في تجارب مئات من الرسامين من مختلف الجنسيات.
لقد أراد له أبل أن يكون عصفوره حرا، فاستجاب حين صار ينقل خطواته بين لوحات الرسامين ليكون نشيده الصباحي ملهمهم اللغوي الذي لا يمكنهم الاستغناء عنه.
مَا أن يرى المرء فيلما يصوّر كارل أبل وهو يرسم داخل مرسمه، لا بد أن تمرّ بذهنه صورة ثور هائج يطارد خرقة حمراء. ولكن تلك الخرقة بالنسبة إلى أبل تظل محلّقة وهي محمولة على جناحي عصفوره الذي يختفي أحيانا تاركا المجال كله لخياله الذي هو خيال ذلك الرسام الهائج.
نظرة سريعة واحدة نلقيها على أعمال أبل تجعلنا على يقين من أن ذلك الرسام الذي يجهل اسمه الكثيرون قد ترك أثرا عظيما على الفن العالمي منذ ستينات القرن الماضي، قد يفوق أثر أي فنان مشهور آخر.