الاستناد إلى آراء شيوخ منصات التواصل الاجتماعي في حسم الخلافات الأسرية يكرس الشقاق العائلي

مع تكاثر عدد الصفحات والمواقع الإلكترونية التي تنشر فتاوى دينية تتعلق بالحياة الأسرية ارتفع عدد الأسر التي تعتمد على الآراء الدينية المجهولة في حسم قضاياها وتحديد مسار حياتها، ما يؤدي إلى صدامات عائلية وتكريس الشقاق بين الآباء والأبناء. ومشكلة هذه الأسر أنها لا تسأل عن هوية أصحاب هذه المواقع ومستواهم العلمي والمؤسسة الدينية التي يتبعونها وتطبق الفتاوى على أنها شرعية.
أمام تكرار زوج المصرية إيمان كرم إلقاء يمين الطلاق، مرة وهي حائض وثانية في عيد الفطر وثالثة عندما كان عصبيا، لجأت السيدة إلى إحدى الصفحات المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي التي تُفتي في الأمور الأسرية لتسأل عما إذا كانت بذلك محرمة على زوجها أم لا، فصُدمت هي وكل من اطلع على الفتوى بأن علاقتها بزوجها صارت محرمة.
رد عليها شيخ يُدعى يوسف صلاح الدين، وهو المفترض أنه عالم ديني، وقال في تعليقه على رأي الزوجة “الأمر يحتاج إلى تفصيل، لكن على أيّ حال الطلاق على الحائض يقع خلافا لرأي العلماء، والطلاق في العيد يقع خلافا أيضا لرأي الفقهاء، وإذا كان الزوج لديه نسبة وعي في المرة الثالثة فإنها بذلك أصبحت بحاجة إلى الزواج من شخص آخر لأنها محرمة على زوجها”.
تبدو الواقعة فردية، لكن الفتوى الدينية التي جزمت بانتهاء علاقة زوجين دون سماع الطرفين تحمل بين ثناياها مخاطر أسرية بالجملة، أولها أن الصفحة التي نشرت المشكلة والرد الحاسم عليها يشترك فيها عشرات الآلاف من الشغوفين باللجوء إلى الشبكات الاجتماعية للحصول على رأي الدين في بعض القضايا التي يتعرضون لها دون إدراك لتبعات الخطوة.
صحيح أنه ليس معروفا ما إذا كانت الزوجة أخذت بكلام هذا الرأي المتشدد لتقرر الانفصال عن شريك حياتها بداعي الطلاق النهائي أم لم تأخذ به، لكن من غير المستبعد أن الفتوى تركت وراءها تأثيرات سلبية كثيرة، وغير مستبعد أيضا أن يعمل بها آخرون في حياتهم الزوجية ممن يقدسون كلام الشيوخ، مهما بلغت نسبة تشددهم وإقناعهم للناس بأنهم الأكثر علما ومصداقية.
هناك الكثير من الفتاوى المتشددة التي يطلقها دعاة الشبكات الاجتماعية ولا أحد يعرف هوياتهم ودرجات علمهم والمؤسسات الدينية التابعين لها، لكنهم يقدمون أنفسهم لمتابعيهم باعتبارهم مخضرمين وعارفين بكل بواطن الأمور، والغريب أنهم لجأوا عند الإدلاء بآرائهم حول القضايا الأسرية إلى تحريف التراث والأحاديث المنسوبة للنبي محمد (ص) وقدموها كدليل يعزز كلامهم.
عندما طالعت “العرب” البعض من هذه الصفحات وجدتها تعج بالمشكلات ذات الطابع العائلي، من نوعية الزواج المبكر وختان الإناث وطاعة الزوجة لزوجها، وخروج المرأة من المنزل، والطلاق، وتأديب الأنثى حتى لا تنحرف، وطرق تربية الأبناء بشكل صحيح، وهل أن العمل في المؤسسات المصرفية حلال أم حرام، والمستباح والمحرم في العلاقة الزوجية.
وتستقطب الصفحات المعنية بالقضايا الأسرية جمهورها بمسميات شرعية توحي للمتابعين بأن أصحابها يمتلكون الحقيقة المطلقة حول أزمات كل بيت وعائلة على شاكلة: “فتاوى واستشارات شرعية”، “أسرار زوجية وحلول أسرية”، “المشاكل الزوجية وعلاجها”، “فتاوى شرعية لاستشارات أسرية”، “فتاوى أسرية”، “فتاوى شرعية”، “سؤال وجواب لكل مسلم”.
مشكلة أغلب الأسر المصرية، والعربية عموما، التي تلجأ إلى هذه الحسابات المجهولة للحصول على فتوى أسرية أنها لا تسأل عن هوية صاحب هذه الحسابات ومستواه العلمي والمؤسسة الدينية التابع لها، رغم أن الردود غالبا ما تأتي صادمة، وحال تطبيقها قد تقود إلى صدامات عائلية وانتهاء العلاقة الزوجية وتكريس الشقاق الأسري بين الآباء والأبناء، بسبب طبيعتها المتشددة وعدم ملاءمتها للواقع.
عندما وجه أحد الآباء سؤالا لإحدى هذه الصفحات حول مشروعية ختان ابنته الصغيرة، رغم وجود تشريع حكومي مصري يجرم هذا الفعل، جاءه الرد من الشيخ المتشدد بأن هذا فرض واجب عليه كرب أسرة، وادّعى أنه سنة مثبتة عن النبي محمد، ولا تجوز مخالفة الشرع لمجرد الخوف من القانون، لكن الأب لم يشتبك مع صاحب الفتوى بحثا وراء أسانيده الدينية والعلمية.
ويرى متخصصون في العلاقات الاجتماعية أن عزوف الأسر عن استفتاء المؤسسات الدينية الرسمية بشأن القضايا الأسرية، مقابل الذهاب إلى صفحات إلكترونية يديرها مجهولون يرتدون ثوب الأئمة ودعاة الفتوى، يهدم القوام العائلي ويكرس الشقاق بين الأسرة الواحدة. ويُخشى أن يتم تطبيق آراء هؤلاء دون تمييز بين الصواب والخطأ.

ويعتقد الخبراء أن الاستناد إلى آراء السلفيين في حسم الخلافات الأسرية قد يُفضي إلى أزمات يصعب علاجها بسهولة، لأن هذه الفئة اعتادت مخالفة جهات الفتوى ونقل التراث الفقهي حرفيا ومخاطبة الناس بعقلية عصور الجاهلية، وهؤلاء اعتادوا استقطاب جمهورهم من شريحة لم تتلق تعليما جيدا ولا تثق في رأي المؤسسات الدينية الرسمية.
وقالت انتصار السعيد، الباحثة المتخصصة في الشؤون الأسرية ومناهضة العنف ضد المرأة بالقاهرة، “إن لجوء الأسر في أيّ مجتمع إلى حسابات إلكترونية مجهولة للحصول على رأي ديني يعكس تراجع الوعي والاستسلام لرؤى ضيقة في تحديد شكل العلاقة العائلية والاجتماعية، والخطر أن شيوخ هذه الصفحات يفتون بما يطبقونه في حياتهم”.
وأضافت، لـ”العرب”، “عندما يفتي رجل دين غير معروف الهوية على صفحة مجهولة بأن الختان حلال ينقل رؤيته وتجربته وليس رأي الدين الذي أنكر هذا الفعل. وتكمن الأزمة في أن أغلب الفتاوى المجهولة التي لها علاقة بالأسرة وأركانها تكون شخصية أكثر منها شرعية، وللأسف يتعامل معها بعض الآباء والأمهات بقدسية بعيدا عن الرؤى المنفتحة والعقلانية”.
ولفتت إلى أن “اللجوء إلى آراء دينية مضللة يهدد استقرار أيّ أسرة، في ظل زيادة نسبة الأمية وعدم التفريق بين المتشدد والوسطي. وغالبا ما تدفع المرأة وحدها، سواء كانت زوجة أو ابنة، فاتورة باهظة لأن المتشددين بطبعهم ينظرون للنساء بطريقة دونية. ويُخْشى أن يتعامل بعض الرجال مع هذه الفتاوى بقدسية، وتعيش الأنثى في سجن عائلي أبدي بسبب هؤلاء المتطرفين”.
وكانت أغرب فتوى اطلعت عليها “العرب” أن رب أسرة وجه سؤالا لإحدى الصفحات الدينية المجهولة حول إمكانية خروجه ليلا في وقت متأخر للتنزّه مع زوجته وأولاده ولكسر الروتين والملل، فجاءت الإجابة صادمة بأن “الخروج من المنزل ليلا دون مبررات ملحة وضرورية أمر مكروه، والصحيح أن تنام الأسرة مبكرا للاستيقاظ لصلاة الفجر”.
ويعكس السؤال والفتوى معا أن الطرفين منفصلان عن الواقع كليّا، فالأول وصل به الأمر إلى حد أنه طلب صكا دينيا قبل تسْلية زوجته وأولاده، والثاني يدلي برأي شرعي يحرم هذا التصرف بذريعة واهية في مؤشر يوحي بأن الاستناد إلى الفتاوى في تحديد مسار الحياة العائلية تجاوز مرحلة الخطورة، وأصبح الأمر بحاجة إلى ثورة وعي تعالج الخلل الحاصل.