روايات ودراما ولوحات وفنون "كورونية" تتسلح بالمستحيل لتتنبأ بالمستقبل

بوعي أو دون وعي هناك خلط للخيال العلمي بالفانتازي في الإبداعات العربية الحديثة في عوالم غير متسقة.
الاثنين 2021/05/31
الفانتازيا سخرية من الواقع العبثي (لوحة للفنان سنان حسين)

انتشرت خلال السنوات القليلة الماضية في الإبداعات الأدبية والفنية العربية ظواهر عدة أسهمت في التحايل على جمود الواقع وقسوته، وخلخلة قيوده وأحكامه الصارمة، وعلى رأس هذه الظواهر والسمات اللافتة، الاتكاء على الخيال العلمي، الجامح إلى حدّ الشطط، خصوصا المستلهمة من الميدان الطبي ما يخلق فانتازيا مثيرة للجدل.

ازدادت شطحات الاتكاء على الخيال العلمي وضوحا وكثافة على نحو مفرط بعد ظهور فايروس كورونا المستجدّ، وسيناريوهات نشوئه ومقاومته والتعايش معه، إذ تحوّلت الحياة بأسرها في ظل الجائحة الكونية السائدة إلى منطقة برزخية ضبابية بين الحقيقة والأسطورة، والوجود والعدم.

قد يأتي توظيف الخيال الطبي والعلمي في الفنون والآداب المعاصرة، انطلاقا من احتمالات تبدو للوهلة الأولى غير مستحيلة، ويجري هذا التوظيف بالابتعاد عن المعقول والمنطقي تماما وصولا إلى سماء الفانتازيا.

وفي الحالتين، ليست هناك من فروق جوهرية، حيث إن الغرائبية تبدو هي الثيمة الحاكمة لتلك الأعمال الإبداعية المتنوعة من روايات ومسرحيات ومسلسلات وأفلام ومعارض تشكيلية وكاريكاترية، التي أرادت أن تتسلح بالجنون الكامل، من أجل الفكاك من قبضة الدوائر الضيّقة البائسة، التي تحكم حركة الحياة بقوانين خانقة.

خلط ساذج

“ماذا جرى للأرض؟”.. خيال علمي وفني للتشكيلي محمد عبلة

جاءت أدبيات العصر الكوروني خلال الأشهر الماضية لتبالغ بدورها أكثر وأكثر في مزج الحقائق والأساطير، وذلك عند تصديها للظواهر الغريبة والمجهولة فوق ظهر الكوكب، والأمور الصحية غير المستقرة، وتناولها بالرصد والتحليل مستقبلا إنسانيّا غامضا، بل مشكوكا في قدومه بشكل طبيعي، على الأقلّ خلال الأشهر المقبلة، التي لن تشهد محوا كاملا للجائحة الخطيرة وتأثيراتها السلبية على سائر الأصعدة، البدنية والنفسية والسلوكية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، وغيرها.

لعل السمة الملاحظة أن اللامعقول الذي انطلق يزيح الواقع تدريجيّا من أرض الإبداع العربي، راح يخلط في العهد الكوروني على وجه الخصوص بين لونين مختلفين، أو يدمجهما مع بعضهما البعض دون أي فواصل، على نحو ساذج مثير للدهشة.

اللون الأول هو الخيال العلمي، بتمثلاته الطبية وغيرها، ويشير إلى ذلك النسق الإبداعي الذي تنبني خيالاته وتأملاته على الاكتشافات العلمية والمبتكرات والتبدلات البيئية والمناخية وتلاحق الأزمنة والإبحار في الفضاء وعوالم الروبوتات والحياة في كواكب أخرى والقوى الروحية الخفية للإنسان وما إلى ذلك.

وهذا اللون الإبداعي يُفترض أنه يراعي صحة الفرضيات والنظريات العلمية والفلسفية والتطبيقات التقنية التي يستوحي منها خيالاته بوصفها تنبؤات مدروسة أو اجتهادات غير منقطعة الصلة بالتجارب الجارية على الأرض.

أما اللون الثاني، الذي جرى خلطه بالخيال العلمي في الإبداعات العربية الحديثة، ربما بوعي أو دون وعي، فهو الطرح الفانتازي، ذلك الذي يقيم عوالم جديدة مختلفة غير متسقة مع الشواهد الواقعية والقوانين الطبيعية، وربما ينبني التناول برمّته على أساطير خارقة وقوى سحرية وخرافات شعبية وتكسير لتسلسل الأزمنة وخرائط الأمكنة، وليس هناك أي حدود لتخييلاته الكبيرة وقفزاته الواسعة في صناعة الأحداث وصراعات الشخوص، وحركة الكائنات، التي ربما لا يوجد مثيل لها أصلا في حيّز المعرفة.

صار للإبداع المراوغ تكييف لقراءات عاطفية للواقع المستغلق من حولنا

ولهذا الدمج بين الخيال العلمي، والطرح الفانتازي، كما في مسلسل “كوفيد 25” مثلا بفجاجته وهشاشته واختلاقاته العجائبية، ما يدعمه أو يبرره بعض الشيء في المرحلة الكورونية الراهنة التي عمّقت الافتراض والتفكك والتباعد على حساب الملموس والمتماسك والقريب، وأعلت من قيمة العيش في خطر على حساب الركون للطمأنينة في كنف الأنظمة المستقرة، على اعتبار أن هذه المرحلة كلها حتى اللحظة الحالية يمكن أن تندرج تحت مظلة الحسابات غير النهائية، والاحتمالات المفتوحة، واختلاط الحقائق والأكاذيب، بداية من ملابسات ظهور الفايروس المستجدّ، مرورا بآليات التعامل معه وسبل مقاومته ومواجهة انتفاضاته وموجاته وتحوّراته، وصولا إلى سيناريوهات نهاية المعركة الدائرة بينه وبين البشرية في مختلف الأرجاء.

إن الرؤية العامة التي أنتجت مثل هذا الطرح الجمالي والفلسفي اللامعقول لا تفصل في حقيقة الأمر بين تصوراتها عن الإبداع الأدبي والفني، وتصوراتها عن الحياة من حولها، تلك التي تعتبرها مسرحية كونية محبوكة وقابلة للانفلات في آن، سواء أديرت خيوطها من خلال مؤامرة في العهد الكوروني أو تبلورت أحداثها قدريّا لتصل إلى ما وصلت إليه من انفراط وخلل في اللحظة الزئبقية الكائنة.

إبداعات متنوّعة

صار للإبداع المراوغ تكييف لقراءات عاطفية للواقع المستغلق من حولنا، بوصفه عرضا دراميّا متشابكا لا تزال فصوله مستمرة في غموضها وهذيانها. وهو عرض عالمي، أبطاله البشر جميعا بأقصى درجات المشاركة. ولم يهبط جاهزا مكتملا من سماء، ولم يُفرَض بإلحاح من قوى سلطوية أو احتكارية، ولم تسبقه دعاية ميديوية وإعلانات ترويجية مدغدغة، ولم يتشكل في حيز الأوراق البيضاء كنص مكتوب قبل وساطة الدراماتورج، وإنما تجسّد هذا العرض الكوني المبهر، ونما وتطوّر، بسرعة خاطفة في الميدان، بحضور كل المراقبين، ودهشتهم، وانخراطهم في الفعل، في الوقت نفسه.

في هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى مرحلتين حديثتين تبرزان تمظهرات هذا الطوفان من الخيال العلمي والطبي، الممزوج بالطابع الفانتازي، في الإبداعات المصرية والعربية المتنوعة من روايات وأعمال درامية ومعارض فنية وغيرها. المرحلة الأقرب، تعكس العهد الكوروني، فيما تعبّر المرحلة الأخرى غير البعيدة عن السنوات القليلة التي سبقت الجائحة.

وتشترك أعمال المرحلتين معا في أمرين محوريين؛ الأول: الرغبة الجارفة في تعرية الحقيقة البشرية ورسم ملامح الكائن الآدمي الضعيف الزائل. والثاني: رفض الواقع الكابوسي المحيط كما هو، أو عدم القدرة على فهمه والتعاطي الموضوعي معه، ومن ثم محاولة الهروب الاستسهالي من أزماته ومشكلاته التي يصعب حلها من دون معجزات أو حفر أنفاق استثنائية إلى الأحلام والهلاوس والخزعبلات.

من تجسّدات إبداعات المرحلة الكورونية، على سبيل المثال لا الحصر، مسلسل “كوفيد 25” من تأليف إنجي علاء وإخراج أحمد نادر جلال وبطولة يوسف الشريف الذي انتهج سبلا غير علمية في التعامل مع تحوّرات الفايروس وتطورات الوباء العالمي وتفاصيل إنتاج اللقاحات المضادّة، على نحو بدا أقرب إلى ترويج الخرافات، ولقي العمل انتقادات لاذعة واسعة النطاق.

الخيال الطبي ذريعة فنية

وَرَصَد رسّامو كاريكاتير مصريون وعرب من خلال الخيال الطبي العلمي والفانتازيا صراع البشرية مع الوباء بأسلوب ساخر في أعمالهم بالملتقى العربي لرواد الكاريكاتير، وبلغ الجموح لدى بعض الفنانين مداه بتصويرهم مقاومة الفايروس من خلال الأحجبة والدجل والشعوذة، وإطلاق الرصاصات المتتالية على رأسه.

كما صَوّر تشكيليون ضربَ الجائحة الصحية وجوهَ البشر بقسوة؛ خصوصا وجوه النساء الجميلات، واختصر الفنان عصمت داوستاشي الأزمة في هيئة شيطان مخيف له قرون، فيما قدّم الفنان محمد عبلة مجموعة من التماثيل بعنوان “ماذا جرى للأرض؟”، أطلق فيها خياله العلمي مبرزا خواء الكوكب الأرضي وانهيار الإنسان جسدا وروحا.

اتخذت بعض الأعمال الإبداعية، خصوصا في القصة والرواية والشعر، من الخيال العلمي قشرة سطحية، مدّعية تبلور مرحلة إبداعية تسمّى المرحلة الكورونية، وفي حقيقة الأمر فإنها لم تخرج عن تيارات أدبية معروفة تعاملت من قبل مع انتشار الأوبئة والفجائع والهزائم الكبرى وسيناريوهات نهاية العالم كما في أعقاب الحربين العالميتين، وتماسّت مع العدمية والعبثية، ومالت عناوين هذه الأعمال إلى المباشرة والتسطيح، كما في قصة “هلاوس معزول”، وقصيدة “مشاعر موبوءة”، وما إلى ذلك.

الفرار إلى الموت

لجأت أعمال أخرى كثيرة، فنية وأدبية، قبل كورونا، إلى الخيال العلمي والطبي غير المشروط والفانتازيا العجائبية للسخرية من الواقع العبثي، ومحاولة بناء عوالم بديلة أكثر استجابة لرغبات الإنسان المكبوتة المقموعة، كما في فيلم “قلب أمه” للمخرج عمرو صلاح، وبطولة شيكو وهشام ماجد، ومسلسلات “في بيتنا روبوت” و“ربع رومي” و“الرجل العناب”، ومن قبلها أفلام “كلب بلدي” و“الحرب العالمية الثالثة” و“حسن وبقلظ”، وغيرها.

أدبيات العصر الكوروني وفنونه تبالغ في مزج الحقائق والأساطير عند التصدي للظواهر الغريبة والتحدث عن المستقبل

وفي المسرح المصري، استثمرت “أبوكبسولة” من تأليف محمد الصواف وإخراج محمد مرسي، الخيال الطبي اللامعقول تحديدا لإثارة قضايا جريئة اقتصادية وسياسية ودينية وإعلامية في المجتمع المصري، وانتقاد أحوال الواقع الراهن باقتراح توفير “كبسولات طبية” لتحقيق الشَّبَع والحرية والابتسام، ومداواة سائر الأمراض المجتمعية المستعصية على الحل.

ومضت روايات أدبية رصينة في الاتجاه ذاته، كما في رواية “السايكلوب” للكاتب إبراهيم عبدالمجيد التي تمخّض فيها الخيال العملي والطرح الفانتازي عن كائن خرافيّ مفترس، بعين واحدة، راح يلتهم البشر واحدا تلو الآخر في الواقع المصري المرفوض، وذلك بعدما فشلت ثورة 25 يناير 2011 في تحقيق أهدافها من عيش وحرية وعدالة اجتماعية، فجاء الخيال العلمي القاسي باللعنة القاضية، راسما طريقا للهروب إلى الموت.

15