هذيان بصري

لم يكن مفهوم “الفن الحركي” مكرسا قبل الأميركي جاكسون بولوك. لقد تم اختراع ذلك المفهوم من أجل وصف تجربة بولوك التي لم تبن على قاعدة فنية سابقة لها، بالرغم من أن البعض يقيم صلة ولو عن طريق الإلهام بينها وبين السريالية بسبب التأثير الذي تركه لجوء أندريه بريتون وهو بابا السريالية وعدد من أعضاء حركته إلى الولايات المتحدة أثناء الاحتلال النازي لفرنسا.
وإذا كان فن بولوك (1912 – 1956) قد اُعتبر جزءا من تيار التجريدية التعبيرية الأميركية الذي نشأ في نيويورك وتبنته المؤسسة الرسمية ليكون واحدة من مفردات الغزو الثقافي الأميركي للعالم، فإن بولوك نفسه كان نموذجا مثاليا لشخصية اللامنتمي الذي اخترق حدود الذائقة الجمالية المتاحة ليضع مشاهدي أعماله في قلب عاصفة تقنية لم تهدأ حتى اليوم، بالرغم من إقبال المتاحف العالمية على اقتناء أعماله وعرضها باعتبارها من روائع الرسم في القرن العشرين.
لا يزال الغموض يحيط بتلك الأعمال التي خرجت عن نطاق الرسم كما نعرفه إلى مناطق يغلب عليها التبقيع والسكب وحركة الفرشاة التي تبدو لأول وهلة عشوائية، والسطوح المتراكمة بعضها فوق البعض الآخر والخطوط التي تفلت من إمكانية أن تصنع شكلا بعينه.
كانت “التجريدية التعبيرية” التي ضمته إلى جانب مارك روثكو ووليام دي كونغ وآخرين تضيق به في أحيان كثيرة، بل إن تبنيه من قبل المؤسسة الرسمية الأميركية باعتباره صانع دعاية قد ألحق به أضرارا نفسية لم يستطع التغلب عليها إلاّ من خلال الموت.
بولوك لم يكن صانع اتجاه فني يمكن الانضمام إليه وتقليده. لقد امتزج أسلوبه الفني بحياته الشخصية فكانا الشيء نفسه. لذلك فمَن أراد تقليد فنه عليه أن يتحوّل إلى بولوك ثان، وهو أمر في غاية الصعوبة.
وهو ما يعني أن الأثر الذي تركه فن بولوك يتجاوز الأسلوب الفريد من نوعه والذي لا يُقلد إلى كونه حالة غامضة أحدثت اضطرابا في تاريخ الرسم تصعب تهدئتها أو احتواؤها والسيطرة عليها.
وهكذا يكون الدور الذي لعبه بولوك في تحرير الرسم من قيوده أكبر من هذياناته البصرية التي تُصيب بالعدوى كل مَن يُعجب بها.