لوحات تعبيرية تسرد هدوء الطفولة في أوج اهتزازها

عبدالرؤوف العجوري يواصل رحلة بحثه عن سمرة فلسطين المفقودة.
الجمعة 2021/05/21
طفل بسحنة زرقاء يحاول الأولاد السمر كبح برودتها

لم يعد الوباء الذي ضرب العالم وحده المتسبّب في انتشار ظاهرة ما يُمكن أن نسميه بالعرض الفني على شبكات التواصل الاجتماعي، بل أيضا السلطة المُتصاعدة التي تشهدها المنصات الافتراضية لاسيما حين يكون حدث ما في عين العاصفة. وأعمال الفنان الفلسطيني عبدالرؤوف العجوري التي ينشرها على صفحته الفيسبوكية، القديمة كما الجديدة، هي في عين العاصفة: هدوء الطفولة في أوج اهتزازها.

ليس الفنان التشكيلي الفلسطيني عبدالرؤوف العجوري أول أو آخر من رسم الطفولة، لاسيما الطفولة العربية بشكل عام والفلسطينية بشكل خاص والعامرة بكل ما يمكن أن تضجّ به الطفولة من هواجس وتناقضات وآمال وأوهام، ولكنه من دون شك من أهم من رسمها إلى الآن.

ويواظب الفنان على الرسم والنشر على صفحته الفيسبوكية لوحات تجسّد “أطفاله” الذين لهم تارة أجساد متلاصقة تتسلق أحيانا على بعضها البعض، وتارة أخرى تظهر فُرادى في اللوحات. لكن على اختلاف أحوالهم وتجمعاتهم أو توحشهم في فضاء لوحة غير مشغولة إلاّ بعزلتهم، يتوالدون على دفعات في حقول مُحتقنة بأثر حسيّ جدا لغبار رمليّ شديد الحرارة، لكنه غير مرئي.

إنه توالد يومي لا ينضب، ولحسن حظ الفن لا “يشفي غليل” الفنان. توالد وجد فيه بعض النقاد ابتعادا عن الالتزام بتصوير الواقع الفلسطيني المأزوم ونوعا من المراوحة، هي حتما ليست كذلك، بقدر ما هي إصرار على البوح بالواقع المُعلّق ما بين النصر والهزيمة المرفوضة، وما بين الأمل الزاهر وأشواك اليأس.

إصرار على البوح برز من خلال ما رشحت عنه ملامح شخوصه المؤثرة إلى أبعد حد، ومن خلال أجسادهم الغاضبة والخائفة والمُرتجّة في كلا الحالتين والتي استطاع الفنان إبرازها عبر ضربات واستدارات فرشاته اللينة والمموّجة والمُتردّدة في أحيان كثيرة.

أما “تهمة” ابتعاده عن واقعه الفلسطيني، هي ربما الأقسى والأكثر إجحافا بحقه. فهو رسم بطريقته الخاصة فلسطين، أحوال فلسطين، ومزاج فلسطين وتعكّره من خلال شخوصه المُحببة أصحاب الرؤوس “المُسطحة” والشفاه التي تشبه أزرار زهر القطن الوديع لتذكّر بالعطش وبالنصاعة، وباللطف وبالأشواك التي لا بد منها، ومن خلال بعض شخوصه التي تزرّق سحنتها ويحاول الأولاد السمر الآخرون أن يكبحوا برودتها.

خارج التصنيف

أطفال يصرون على البوح بالواقع المُعلق ما بين النصر والهزيمة المرفوضة، وما بين الأمل الزاهر وأشواك اليأس

ليس من المُبالغة القول إن “أولاد” العجوري لا يمكن تصنيفهم إن كانوا لصبية أو لفتيات لأن “الإنساني” طاغ فيها إلى أبعد حد.

الناظر من لوحة إلى أخرى يتشوّق إلى أن يكتشف لوحات إضافية “تنبُت” فيها نفس الشخوص المُحببة، التي نشتاق إلى ضمها، في أحوال مختلفة من أرض عابقة برائحة القهوة الذكية وأزهار البرتقال وجنين القمح الذي ليس هو إلاّ براعمه الواعدة.

يكثّف العجوري، من يوميات ما ارتج مُجدّدا ومُتجدّدا في الجرح الفلسطيني النازف على مستوى العالم، نشر لوحاته العابقة بأولاده السمر الذين لفحتهم شمس فلسطين. وهو قد بدّل منذ بضعة أيام الصورة الشخصية على صفحته الفيسبوكية ببورتريه لأحد هؤلاء الأطفال الناضجين، وهو على الأرجح واحد منهم، فكيف إذا لا ينشر صورة لأحدهم بدلا عن صورته؟

نظرات حائرة

طفل لا يمكن تصنيفه إن كان صبيا أو فتاة، إلا أن الوجع واحد
طفل لا يمكن تصنيفه إن كان صبيا أو فتاة، إلا أن الوجع واحد

نعود إلى فكرة عدم تطوّر نصه الفني كسائر نصوص الفنانين بالنسبة إلى البعض، لنقول لحسن الحظ إنه “لم يطوّر” نصه الفني بالمعنى السطحي للتعبير. فالفنان استمر دون ارتواء من رسم أطفال شكّلهم على هواه، أي على هوى الجرح الذي لا يقتل صاحبه ولا يفنى في آن واحد.

صحيح أن الفنان قدّم لوحات لمشاهد طبيعية تميل إلى التجريدية لتجيء كشكل من أشكال التنويع والتطوير المُرتجى، ولكنها تميّزت بمائية في التعبير وشيء من الملل يُمكن أن نلاحظه فور رؤيتنا لها.

لوحات هي حتما ليست من أنجح أعماله، الفنان ليس فيها، هو هناك، مع الصبية. يقرأ لهم ويقرأون له. وإن كانت ثمة تحوّلات يتمنى أن يراها هؤلاء “اللوّامون”، فهي لن تحدث إلاّ مع وفي شخوصه. خارج ذلك هو على الأغلب سيكون نوعا من مُراعاة لا نعتقد أن العجوري من هواتها.

من النادر أن نقع على لوحات فنية هاجسة برسم أطفال فلسطين وأطفال العالم العربي الذين يقعون تحت وطأة الحروب وآثارها بهذه الخصوصية المرتبطة بشخصية الفنان الأشدّ ارتباطا بواقعه والقادرة في الآن ذاته أن تنسحب على كل أطفال هذا العالم، ولاسيما أطفال فلسطين الداخل.

الفنان يستمر دون ارتواء في رسم أطفال شكّلهم على هواه وعلى هوى الجرح الذي لا يقتل صاحبه ولا يفنى أيضا

يبقى أن نشير إلى نظرات هؤلاء الأولاد (الذين يملكون شعرا جميلا يكرهه المشط) التي تنضح أحيانا كثيرة بحكمة ودهشة وحيرة تُريد أن تظل في الظل لسبب أو لآخر. نظرات معظمها تلتفت إلى يمينها، إلى خارج اللوحة، وتلتفت بالنسبة إلينا، نحن الناظرين إليها، إلى يسارها. فهل في ذلك هوة ما، أم جسر يتوق بأن تُشيّد أواصره بين شرق وغرب، شمال وجنوب؟

وعبدالرؤوف العجوري من مواليد مخيم جباليا في قطاع غزة سنة 1977. وهو يعيش في غزة ويمارس الفن ويزاول أعمالا تساعده على الظروف القاهرة التي تعيشها مدينته منذ سنوات عديدة.

انغمس في ميادين الخط العربي والتصوير الزيتي ومبادئ التصميم الفني، بعد أن تابع تعليمه في مجالات الرسوم المتحركة في أكاديمية الفنون الجميلة بالمعهد العالي للسينما بالقاهرة عام 1999. واستكمل دراسته الأكاديمية في الفن في جامعة الأقصى بالقطاع. وهو أحد مؤسّسي برنامج الفنون الجميلة ومشرف على قسم الدورات التدريبية في جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني بمدينة غزة. انطلقت مسيرته الفنية سنة 1993 وأقام معرضه الفردي الأول “حوار صامت” الذي أقيم في مركز خليل السكاكيني في مدينة رام الله.

وهو أيضا أحد مؤسّسي مجموعة التقاء للفن المعاصر في مدينة غزة وعضو إداري في غاليري بيت التقاء الفنانين في غزة. شارك في معارض جماعية عديدة داخل فلسطين، لاسيما غزة ورام الله، وفي الخارج أيضا. وأقام معارض فردية في العديد من الدول منها: فرنسا، وسويسرا، ومصر والأردن.

17