تشكيلي إيطالي يعيد بناء الجزر بالسكاكين والألوان

"جُزر سعيدة" لماركو ماجريني توازنات هشّة تحكمها مشاعر متضاربة.
الاثنين 2021/05/10
أعمال تشبه المتتالية السردية

“لا ينقطع عمل الفنان بعد غيابه” رسالة أطلقتها قاعة المشربية للفن المعاصر بالقاهرة باستضافتها معرضا فرديّا للتشكيلي الإيطالي ماركو ماجريني (1945 - 2021)، إثر رحيله المباغت. وهذا المعرض يعتبر وصيّة له وتأصيلا لبصمته الفنية والفلسفية وتوثيقا لامتدادات رحلته عبر الأمكنة وتعبيرا جماليا عن تفاصيل تجربته الحياتية أثناء مكوثه في مصر.

حَمَل معرض ماركو ماجريني الذي انعقد بالتعاون مع المعهد الثقافي الإيطالي في مصر إلى غاية العاشر من مايو الجاري، عنوانا دالا هو “جزر سعيدة”، حيث تفجّرت أعماله التي تخطّت المئة من أرضيتين: مكانية ونفسية.

الجزر المشار إليها في عنوان المعرض تجاوزت في اللوحات دلالاتها الجغرافية كمساحات من اليابسة في قلب الماء، فظهرت مثل كائنات حية، تشعر وتتنفس وتسعد وتقلق وتحزن، كما تبلورت كتكوينات تجريدية ملتهبة، وكمرايا عاكسة لمشاعر الفنان المتناقضة في ارتحالاته المتتالية، وكاشفة لصراعاته الداخلية مترامية الأطراف.

على طرف سكّين

Thumbnail

تَجَسَّد مفتاح مجموعة “جزر سعيدة” في خرطوشة فرعونية (بمعنى: مربع يشبه خرطوشة الرصاصة، بداخله نقوش وكتابة هيروغليفية)، وهذه الخرطوشة موجودة بالمتحف المصري، وتقول تفسيراتها “إلى من يقف على طرف سكّينه”.

التقط ماجريني هذه الطقوس المحيلة إلى التوجّس والترقب والقلق والحذر، فغلّفَ بها إحساسه الكامن بالسعادة في خضم الحياة في خطر، وانخلعت سعادته على الجزر التي راح يتنقل بينها بخفة، إلى أن بلغ به المقام في مصر، فكان التماهي الأعظم مع عبارة الخرطوشة الغامضة، حيث الوقوف دائما على طرف سكّين.

أبرز الفنان تذبذباته وتناقضاته من خلال ذلك التباين الحاد بين الألوان الحمراء والبرتقالية من جهة، وبين الأسود والأزرق في الاتجاه المقابل، ما يشي باختلاف مؤكد بين الليل والنهار، والعتمة والأضواء، والقتامة والنصاعة.

وقد شكّل السكين عنصرا متكررا وملحّا في الكثير من اللوحات، وتكشّف السكين الضخم متكئا على الجزيرة نفسها في بعض الأحوال، كأنه يشق صدرها أو يطهّرها أو يطلق منها طريقا إلى الفضاء أو نافذة صوب النور. بل إن الفنان توحّد كليّا مع هذا السكين في بعض الأعمال، كما في تلك اللوحة التي قدّم فيها صورة ذاتية له، وقد اتخذ جسده هيئة السكّين المنغرس في الأرض، وذلك من فرط انشغاله بمحاولة البحث عن جسد للعبارة الفرعونية المثيرة للخيال.

الفنان يسرد امتدادا بصريّا ونفسيّا لتجربته في مصر ويعيد صياغة مفهوم الجزيرة بعيدا عن دلالاته الجغرافية

حرص الفنان الإيطالي على تكوين ما يشبه السلسلة أو المتتالية السردية في جملة لوحات “جزر سعيدة”، فهي ليست مجرد لوحات منفصلة، بل هي متوالية متصلة، بحيث تقود اللوحة إلى نتيجة ملموسة أو مُستشفَّة، مُسَلمّة الرؤية إلى لوحة أخرى ونتيجة تالية، من جُملة ما توصّل إليه الفنان عبر البحث والتنقل، فمن جزيرة يمضي إلى مجموعة مَشَاهد، ومن المشاهد يتحرك إلى جزيرة أخرى، وتبقى الحركة دائرية غير مغلقة.

نوّع ماجريني ألوانه وطبقاته وتقنياته ومواده التصويرية القابلة للتجاور والتعايش في ما بينها فوق مسطّح الورق، فتحاورت وتجاورت الألوان المائية والأكريليك والباستيل والأحبار الطباعية والحبر الصيني، كما لجأ إلى التعددية في تكوينات ذات طابع كولاجي للتعبير عن الاضطرابات في عالم التحولات المتواصلة.

جاءت التوازنات اللونية هشة والأشكال حرجة غير مكتملة تتقاطع بين بعضها البعض لتعكس طبيعة الانفعالات المتضاربة سواء داخل الفنان أو في الواقع المحيط به، ذلك الواقع الذي يكتسب أبعادا إنسانية. فالجزر التي يتعاطى معها الفنان الرحّال هي مجموعة من البشر، وكائنات تصلح للسُكنى، بمعنى التآلف والامتزاج والقدرة على الاحتواء، وتحويل خطورة العيش على طرف سكّين إلى حالات حيوية نادرة ومغامرات خصبة مستساغة، بمشاركة طيور وحيوانات وأشجار وكائنات أخرى.

Thumbnail

اعترافات خاصة

بدت المشاعر المركّبة والمتعارضة في مجموعة “جزر سعيدة” لا علاقة لها بأي حال بضيق أو اتساع الجزيرة نفسها، فالأهم دائما العلاقة الخاصة التي أقامها الفنان مع كل جزيرة على حدة.

وفي اعترافات ماجريني قبيل رحيله بشأن لوحات هذا المعرض، فإن الجزر كلها في عينيه متماثلة، سواء كانت الجزيرة الصغيرة صخرة ناتئة في عرض البحر، أو كانت بحجم جزيرة سردينيا الكبرى في البحر الأبيض المتوسط، فلا فرق بينهما، ولا مفاضلة.

ومضى ماجريني في اعترافاته (وصيتّه) بشأن معرض “جزر سعيدة”، التي أتاحتها إدارة قاعة “المشربية” للفن المعاصر بترجمة التشكيلي عادل السيوي، موضحا أن أعظم ما تنازَعَه في أحاسيسه إزاء الجزر: الشغف والقلق في الآن ذاته، حيث إنه كان ينجذب بشدة وهو على متن السفينة التي تحمله، ويساير الوقت حتى تحين لحظة الوصول إلى جزيرة بعد أخرى. أما سبب القلق، فهو أنه حين يصل يبدأ سريعا في عدّ تلك اللحظات التي تفصله عن  موعد الرحيل، وهذا سر القلق وجوهره.

أما سحر الجزر، واحدة تلو الأخرى، فإنه تولد لديه من كونها عوالم مكتملة ومغلقة على ذاتها، عوالم يُكتفى بها كواقع منفصل مواز. هي قلاع أرضية، ومحطات نفسية، تحيط بها المياه من كل جانب، في عزلة عن بقية العالم.

 أما النفور، وهو المعنى المضادّ، فهو ذلك الشعور الذي يتكوّن بسبب صعوبة مغادرة الجزيرة، عندما يريد الفنان، وبأي وسيلة يريد، ذلك أنه اعتمد في ذلك بالضرورة على آخرين، سواء كانت وسيلة الرحيل قاربا أو طائرة، وتلك اللحظات تجسّدت بدورها في اللوحات، إذ بدت الجزر “السعيدة” في لحظة ما، كأنما تحوّلت بضيقها إلى ما يشبه الحصار.

انقسمت جزر ماجريني السعيدة إلى شقين، جزر ذات أصول حقيقية في الواقع، وأخرى تخييلية لا تمت للخرائط بصلة، فهي جزر نظرية وأسطورية، أو من اللون  فقط، لكنها استضافت عالمه التعبيري من ظلال وأشكال وأسماك وغرافيتي وسكاكين، ومن نحل وفراشات وزنابير وضفادع ودلافين، ومن رياضيين ومزارعين ولاعبي جمباز، ومن آثار حيوانات ونباتات وكائنات وألعاب أطفال وبقايا حفريات.

وفي كل جزيرة حقيقية أو مُتَوَهَّمة، هناك رحلة منفردة مع الإبداع الحر، ذي الطابع الموسيقي الانسيابي.

15