الفن لا يعبّر فقط.. إنه يغيّر الكائنات

جاء في ختام رسالة فان غوغ الشهيرة إلى أخيه ثيو “الأسود والأبيض يلونان الحياة بالرمادي. للرمادي احتمالات لا تنتهي: رمادي أحمر، رمادي أزرق، رمادي أخضر”. ورغم أن رمادي فان غوغ متعلق بالأساس بحالة من المرارة والضبابية والمعاناة الشخصية للفنان الهولندي، فإنه يمكنه أن يحمل احتمالات أخرى أقل انفعالا وأكثر تماشيا مع العصر الحالي الذي يغطي فيه الرمادي كل شيء ولكنه أيضا يدفع إلى اكتشاف الأشياء أو إعادة اكتشافها، وهو ما انخرطت فيه الفنانة المغربية سميرة آيت المعلم.
"الحقيقة في المظهر” يقول فيلسوف المطارق، و”الحقيقة في الفن” يقول فيلسوف التفكيك، و”نحن أجسادنا” يقول صاحب العين والعقل، وبين كل هذا يقع الجسد باعتباره مظهرا لنا وباعتباره صانعا للفن (للحقيقة)، وباعتباره “نحن”.
يصعب فصل الفعل الجمالي عن الحضور الجسدي، بل كل ممارسة جمالية هي ممارسة جسدية. يكاد معها يمّحي الجانب الروحاني بشكل مطلق، إلا أننا لا نستطيع الفكاك من الحالة النفسية والشعورية التي ترتبط بعملية الإبداع، فالفنان وهو يُبدع بجسد تعمل أحاسيسه أيضا، في تذبذب أثناء الممارسة والاشتغال.
الجسدي الروحاني
بعيدا عن محاولة تحديد النفسي-الشعوري من الروحاني داخل عملية الخلق الفني، يظل الجسد هو الفاعل الرئيسي على طول التجربة زمانيا ومكانيا. بل إننا مهما جردنا أشكالنا داخل العمل الفني فلا بد أن تخلق أذهاننا أجسادا داخل المساحة الفنية، داخل السديم.
إننا حينما نرى، نرى بأجسادنا. وحينما نبدع لا نبدع إلا عبر أجسادنا، إننا بالتالي نصنع ونتلقى العمل الفني بالجسد أولا قبل كل شيء. لهذا لم يتوان أصحاب المعاصرة عن إلغاء كل مُسمّى “روحاني” في اشتغالهم الفني، مقابل الحضور الجسدي المتلاشي.
غير أن فنانين آخرين ورغم مراوحة العمل لديهم بين الاشتغال الحديث والمعاصر، فهم لم يلغوا عن أعمالهم الحضور الروحاني ذاك، في موازاة مع الحضور الجسدي. وهي ثنائية يعمدون من خلالها إلى صياغة رموزهم ودلالاتهم لمخاطبة “عقل/ الجانب المفكر” و”روح /داخل/ الجانب الحساس” لدى المتلقي.
الرمادي والبهي
من هذا المعطى بالتحديد أجدني أعرج إلى عوالم أعمال الفنانة التشكيلية المغربية سميرة آيت المعلم. التي تذهب باشتغالها على الجسد لتلامس الروح، روح المتلقي، الذي عليه أن يتفاعل مع المنجز الماثل أمامه جسدا وروحا في الآن ذاته.
بالتالي، فالفنانة تعمل على الجسد في بعده اللامادي، في بعد يعتريه التشظي واستحالة “الرسم” والتحديد، لهذا تأتي أعمالها ضاجة بسحابة سديمية رمادية؛ يتخذ فيها اللون الرمادي الحضور الأكبر في غالبية تبايناته الضوئية (من المضيء إلى المعتم) وفي تعدد تدرجاته اللونية (من الفاتح إلى الدامس).. لكن لماذا الرمادي بالتحديد؟
إنه اللون الذي يحمل في طياته كل التضادات، كل المتناقضات: إنه الشيء وضده في الآن ذاته. الحزن والهدوء، الاعتداء والكآبة، المغامرة والرتابة، الوضوح والغموض، الضوء والظلمة، الانفتاح والغموض. وغيرها من الثنائيات المسترسلة التي يمكن لهذا اللون اختزانها.
إنه المزيج السحري، الخليط الواقع بين الأبيض والأسود، وهو عند الفنانة البرزخ بين الجسدي والروحي؛ بينما تقنيا فإنه لون محايد يستخدم في الغالب لإبراز لون واحد أو أكثر. غايته إبراز الشيء المرئي وإعلاء الشيء الخفي. وهذه قوة اللون الرمادي. الذي ليس من العبث أن تختاره الفنانة لونا طاغيا على جل أعمالها، إن لم أقل الكل.
الرمادي بشكل عام متعدد الاستخدامات ويتناسب جيدا مع أي لون تقريبا؛ فهو يمثل كل الحالات الإنسانية ويليق بكل الهيئات الهلامية التي تنبع من كثافة المادة في أعمال آيت المعلم.
نجد في أعمال الفنانة هيئات بشرية لا مذكرة ولا مؤنثة، إنها الكل واللا أحد. ما يعطي جرأة وقوة لمعالجة الفنانة لتيمة الجسد، متحررا من كل قيود وذرائع مقدمة مسبقا، قد تعرقل القراءة والتلقي.
عبر الإخفاء يمكن الإبراز ومن خلال الإضمار يتحقق الإظهار، فالسرّ يعني في ما يعني: أخفى وأظهر.. وهنا يكمن “سر” العمل الفني لدى آيت المعلم، من حيث إنه ليس شيئا خارقا للذات الإنسانية بل نابعا من دواخلها وبهائها.
تنتمي آيت المعلم إلى جيل من الفنانين المغاربة المسكونين بسؤال التجديد والبحث عن الذات في ظل كل التقلبات الحاصلة في كل مجالات الحياة.
تقلبات تمس الجسد والنفس على حدّ سواء، كما تمس التفكير والممارسة.
الفنانة في شغل دائم وبحث غير منقطع داخل ورشتها وعالمها، في محاولة لإيجاد مواد جديدة وتقنيات مغايرة، واشتغالا على مواضيع
متجددة، لكنها لا تنفصل عن سؤال الذات والإنسان المعاصر بكل همومه وراهنيته ويومه، متنقلة بين الصباغة والنحت والتركيب، في خليط سحري عماده التجريب.
إلا أنه لكل مفردة وحركة وشكل -عند الفنانة- دلالة في أعمالها. ما يجعلنا نقف عن “جمل” فنية متشظية من حيث الظاهر، لكنها تتكامل من حيث البناء الخفي للعمل، والذي يجعلها متعددة التأويل وعصية عن الإمساك بها.
لا تبحث الفنانة عن أي محاكاة للعالم والواقع، ولا تسعى للتنصل منهما. فهي تشتغل فيهما وعبرهما، لكن برؤية مختلفة واشتغال مغاير، للتعبير عن الانفعال الداخلي والباطني في حياتنا، ذلك الهلامي والسديمي الذي يسكننا ويحيط بنا.
من هنا تأتي تلك الطبقة الورقية الخفيفة وغير السميكة التي تنسجها فوق نسيج لوحتها أو تمزجها مع الصباغة في الحيز ذاته. بينما تنبع من العمل أسلاك حادة أو تلتصق به أشياء، ليغدو جسدا ملموسا ومرئيا، ومنه تنقلنا الفنانة من مستوى الانفعال والوجدان إلى مستوى الظاهر والملموس، من الروح إلى الجسد. ما يجعل العمل الفني “كائنا حيا” مستقلا بذاته، “ونسيجا متصلا بنسيج العالم”، بتعبير المفكر الفرنسي موريس ميرلوبونتي.
العمل الفني يستقل ببنيانه الأنطولوجي، الذي يجعله عالما حرا متشظيا عن عالمنا، وفي الآن نفسه متصلا به جذموريا. وإنه في الآن ذاته تعبير عن الكينونة، عن حالات البشرية الوجودية لما يختزله من رموز ودلالات وعلامات نابعة من الذات المبدعة، من الفرد الصانع له، من الفنان.
إن الفنان صانع قبل أن يكون “رجل إلهام”، كما يذهب الفيلسوف الفرنسي آلان (إيميل كارتييه). فهو يمزج بين الفكرة والشكل، بين المعبر عنه والمادة، ليطوّع الثانية من أجل الأولى. فالفنان –حسب آلان دائما- رجل إدراك وعمل معا. إنه المتأمل والصانع، بل إنه جزء من العمل عينه، غير منفصل عنه.
هكذا يمكننا أن نقرأ أعمال هذه الفنانة “المعاصرة”. التي تستغل الفن والعمل الفني لا للتعبير فحسب، بل للتحوير والتغيير أيضا، تحوير الكائن والموجود وتغيير العالم إلى ما يجب أن يكون، عبر إظهار اللامرئي فيه. ليغدو معها العالم هو الذي يحاكي العمل الفني لا العكس.
فالفنان ليس صانعا للعمل فحسب، بل للواقع أيضا. والفنان، والحال هنا بالنسبة إلى سميرة آيت المعلم، وهو يشتغل على منجزه في استقلالية داخل مختبره، فإنه يحوّر الواقع حينما يختصره في دلالات ورموز داخل نسيجه المصغر، داخل سديمه الفني.
المادة والفكرة
تسعى الفنانة إذن، إلى عدم عكس الواقع داخل عملها الفني، أي أنها تبعده عن كونه مرآة عاكسة ومُطَهّرا، بتعبير أرسطو، إلى كونه كونا مصغرا يحظى باستقلاليته الذاتية، الذي علينا أن نقيس الكون الأكبر من خلالها، لا أن نسقط نظم هذا الأخير فيه.
ليس من أغراض العمل الفني التعبير عن الكون الخارجي، بل إعادة صياغته وخلقه من جديد. لهذا فآيت المعلم تعمد بحرية تامة إلى تجسيد الملموس في المحسوس، والعكس، مطوّعة بجهد المادة إلى فنها، لصالح الفكرة، لكن دونما أن تجعل لهذه الأخيرة الحضور الأكبر، فللمادة عندها كلمتها واستقلاليتها وحضورها الدلالي.
وهكذا فنحن أمام منجز الفنانة نقف دائما إزاء أعمال فنية صباغية أو نحتية تحتل فيها المادة مكانة كبرى من حيث الاشتغال، سواء سُمْكا أو تسطيحا، خالقة من خلالها فجوات وفراغات تارة لا يملؤها شيء، ويحق للمتلقي في هذه الحالة أن يعمّرها بما يشاء من صور في مخيلته؛ أو تحضر تارة أخرى مكثفة متماسكة، تتخذ لنفسها دلالتها الخاصة، إلى جانب الأفكار العامة للعمل الفني الذي تنتمي إلى بنيانه.
لا انفصال بالتالي، لدى سميرة آيت المعلم بين المادة والفكرة، بين المعبر به والمعبر عنه، بين الحامل والمحمول، بين الدال والمدلول، غير أنها تترك لكل منهما في الآن نفسه استقلالية ذاتية تغني العمل وتجعله حمّال أوجه ومعان، قابلا للتأويل المتعدد وغير محدود ومنغلق على ذاته.