"شعر وتشكيل" كتاب شعري - فني يدمج بين الكلمات والصور

للشعر علاقة وثيقة بالفن التشكيلي ما انفك يبرزها الكثير من الفنانين والكتاب والنقاد. ويأخذ الفن الشعري بعدا آخر في علاقته بالفن التشكيلي مع الفنانة التشكيلية والكاتبة المغربية لبابة لعلج، التي سعت إلى رصد تلك العلاقة العميقة بين الفنين، منتهجة التوازن بين حساسيتها الفنية ولغتها الأدبية في كتابها الجديد.
تشكل العلاقة بين الشعر والفنون التشكيلية فضاء متداخلا من الإبداع الإنساني يتجاوز التصنيف التقليدي للأجناس الفنية. فهذه العلاقة ليست مجرد تداخل سطحي أو تفاعل عرضي، بل هي انعكاس لرغبة إنسانية عميقة في التعبير عن المكنونات الداخلية، سواء عبر اللون (أو الشكل) أو النص. بفضل هذا التفاعل، نجد أن الفنون التشكيلية والشعر يتبادلان الأدوار أحيانا: تصبح الكلمة لونا، واللون نصا.
لهذا يعد التواشج بين الشعر والفن التشكيلي جوهريا نابعا من أعماق التجربة الإنسانية وسعيها إلى التعبير عن اللامرئي والمجرد، وتحقيقا لفعل التواصل بين الحس والعقل. ويتجلى هذا التداخل بوضوح في أعمال الشاعرة والفنانة التشكيلية المغربية لبابة لعلج، التي تسعى إلى بناء جسور متينة بين الكلمة والصورة، وبين اللون والقصيدة. في هذا السياق، تفتح تجربة لعلج أفقا فلسفيا وجماليا جديدا يدعو إلى تأمل عميق في ماهية الشعر والفن، وكيف يمكن أن يتكاملا لإبداع عالم مفعم بالدلالات والتأثيرات الجمالية.
الشعري والتشكيلي
يبني الشعر والفن التشكيلي حساسياتهما الذاتية وكثافتهما التعبيرية ورموزهما التفسيرية على التموضع المستمر عند مفصل “أنا” و”نحن”، للفرد والمجتمع، للحياة العالمية والرحلات الفردية. كما أن الترابط بين الشعر والفن البصري يبدأ بحضور الشعري في التشكيل وينتهي بتشابك اللوني والغنائي على مستوى التمثيل والتعبير عن المقول وغير المنطوق، عن القابل للكتابة والقابل للتصور، عن المقروء والبصري، وعن المرئي واللامرئي. لهذا يصير الشعر كتابة للصورة، ويصير الفن التشكيلي تصويرا للمكتوب: وكل منهما تحقيقا للمتخيل والهارب من سلطة الهنا والآن.
ولطالما كان الشعر والفن التشكيلي مجالين متداخلين على مر العصور. في زمن النهضة الأوروبية، نجد أن دانتي ألغييري، في “الكوميديا الإلهية”، لم يكن مجرد شاعر، بل مصدر إلهام للعديد من الرسامين مثل بوتيتشيلي. أما في العصر الحديث، فقد تأثر الرسام بابلو بيكاسو بالشاعر بول إيلوار، حيث تجسدت قصائده في لوحات تتناغم مع نصوصه. هذا التفاعل بين الكلمة والصورة ينبع من حقيقة أن كليهما يسعى إلى التعبير عن المجهول والمجرد، سواء عبر اللون أو النص.
يرى الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر في الشعر والفن أدوات تعبير عن الحقيقة، إذ يخرج الفنان والشاعر المكنونات إلى العلن في شكل ملموس أو محسوس. هذا التعريف يتقاطع مع ما نراه في أعمال لبابة لعلج، حيث يتكامل النص الشعري مع اللوحة التشكيلية ليخلق وحدة جمالية تعكس رؤى فلسفية عميقة.
في كتابها الشعري – الفني “شعر وتشكيل”، ترجمه إلى العربية الباحث الجمالي المغربي عبدالله الشيخ، تتبنى لبابة لعلج مقاربة فريدة تدمج بين الكتابة الشعرية والفن التشكيلي. النصوص التي تضمها هذه المجموعة ليست مجرد انعكاس لوحاتها، بل هي شذرات تعبيرية تحمل في طياتها رؤية شاملة للعالم. لعلج تستحضر في هذه النصوص تفاعلا عميقا بين الحواس: اللون يصبح لغة، والكلمة تتحول إلى صورة، ليخلق هذا التفاعل فضاء جديدا من الإبداع.
في إحدى قصائدها، تقول "الشعر يشيد ويحرر ما يحجبه التشكيل في اللامرئي./بينهما، الحدود تتفكك…".
لبابة لعلج تستحضر في كتابها تفاعلا جديدا وعميقا بين الحواس: اللون يصبح لغة، والكلمة تتحول إلى صورة
هذه السطور تلخص فلسفة لعلج الجمالية: إن الشعر والفن ليسا فقط تعبيرين مستقلين، بل هما عنصران متكاملان يكشفان عن جوانب خفية في التجربة الإنسانية. إن الحدود بينهما تتلاشى، لتصبح الكلمة لونا واللون قصيدة. ومن ثمة إن التحول والكثافة والحركة، وهي أمور متأصلة في كلا الفنين، وهو ما يتجسد على امتداد صفحات الكتاب، إذ تساهم – هذه المفاهيم – في إنشاء رؤى للعالم تتطلب، ضمنيا، تحليلات وتفكيكات وفقا لمقاربات نأمل أن تكون شديدة التنوع.
وبالمقابل يمكننا أن ننظر إلى أعمال لبابة لعلج بوصفها تجسيدا لحالة تفكيك البصري لغويا: شعريا؛ حيث لا تسعى الكلمة أو الصورة إلى الهيمنة، بل تتجاوران في إطار يتيح لهما التحاور والاختلاف. في هذا السياق، تخلق لعلج ما يمكن تسميته بـ”المساحة البينية”، وهي فضاء جديد يسمح بالجمع بين الشعري والبصري دون أن يطغى أحدهما على الآخر.
على سبيل المثال، مجموعة من لوحات لعلج تتكامل مع نصوصها الشعرية في تناغم بصري – لغوي يترصد التبيان الفني والبيان الشعري. هنا، تتولد اللوحة من القصيدة، كما تتولد القصيدة من اللوحة. وتتدرج الكلمات إلى صور، واللوحة تتحول إلى نص بصري. هذا التفاعل لا يقتصر على تزيين اللوحة بالكلمات أو العكس، بل يمثل رؤية فلسفية ترى في الإبداع وحدة عضوية تتجاوز الشكل التقليدي للفنون.
تخبرنا الشاعرة الفنانة قائلة “كلمات النص تتزاوج من جديد مع الأشكال الملونة./ الاثنان حاضران، عزز كل منهما الآخر./ بين الظل والنور، من هذا ومن؟/ في تناغم الماء الشفاف، ينصهر القلم مع الفرشاة كي يصبحا/ تعبيرا واحدا ووحيدا.”
وتستمد لبابة لعلج كثيرا من إلهامها من تجارب ثقافية وإنسانية غنية. في ديوانها، نجد إشارات إلى شعراء وفنانين كبار مثل أبولينير، لوركا وهنري ميشو، الذين عملوا على دمج الفنون في رؤى شاملة، “تمثلت لبابة لعلج أعمالهم بحس احتفائي – يخبرنا الباحث والنقاد المغربي عمر العسري – يرتق الصلة بين الكتابة واللوحة عبر نسيجة تأليفية تؤالف بين الفنين. وكأنها تعيد صياغة قولة الجاحظ التي ترى في الشعر صناعة وضربا من النسيج، وجنسا من التصوير.”
أنطولوجية اللانهائي
الترابط بين الشعر والفن البصري يبدأ بحضور الشعري في التشكيل وينتهي بتشابك اللوني والغنائي في التمثيل والتعبير
هذه الإشارات تعكس وعيا عميقا بالتاريخ الفني والأدبي، وتظهر كيف يمكن للفنان أن يكون وسيطا بين الماضي والحاضر، بين الثقافات المختلفة، وبين الحواس المتعددة. بينما يشير النص الشعري الذي يحتفل بهذه الأسماء كلها إلى أن الإبداع ليس محصورا في زمن أو شكل معين، بل هو استمرارية تعيد اكتشاف نفسها في كل مرة. هنا، يصبح الفنان والشاعر وجهين لعملة واحدة، يعملان معا لخلق لغة جديدة تتجاوز كل التصنيفات.
تقول لعلج “رسم أبولينير بالكلمات./ كان تعبير حركة ولعه./ أوديل رودون، الفنان التشكيلي الرمزي والحالم، بحاجة إلى/ الهروبية./ شاغال صاحب ثلاثمئة عمل فني، المهرجون سيصبحون/ شعره!/ فدريكو غارسيا لوركا سيترك رسوماته للخلود./ سيفيرو ساردوي فنان تشكيلي نيوباروكي كوبي تأثر/ برولان بارت./ زواج بين اللوحة والكتابة.”
كما أن تجربة الممارسة الفنية التي تعيشها لعلج بشكل يومي تلعب دورا محوريا في تشكيل رؤيتها الفنية. هذه التجربة، بكل ما تحمل من روح التجريب والخرق والارتقاء والتسامي الروحاني، تجد انعكاسا لها في قصائدها، حيث يظهر التفاعل بين اللون والكلمة كوسيلة لرأب الفجوة بين الذات والعالم، ساعية إلى القبض على انطباعات العالم.
تكتب في إحدى قصائدها “لغة متعددة تتكلم ثم تصمت./ الكلمات والألوان تمر وتموت./ لا تترك إلا انطباعات”.
تجربة الممارسة الفنية التي تعيشها لعلج بشكل يومي تلعب دورا محوريا في تشكيل رؤيتها الفنية
إذا نظرنا إلى أعمال لبابة لعلج من منظور أنطولوجي، نجد أنها تعيد تعريف ماهية الشعر والفن. إنها ترفض الثنائية التقليدية بين الكلمة والصورة، لتؤكد أن كل شكل فني يحتوي الآخر ضمنيا. هذا النهج يتماشى مع رؤى جيل دولوز، الذي يرى أن الفن هو عملية مستمرة من التحول والتغير، حيث لا يمكن فصل العناصر عن بعضها البعض. إذ تقدم رؤية ملحمية للعلاقة بين الشعر والفن التشكيلي.
الحدود بين الكلمة واللون، بين الصورة والنص، تتلاشى لتترك مجالا لحالة إبداعية واحدة. النصوص تؤكد أن الشعر لا يصف الفن فحسب، بل يفعله، كما أن الفن لا يكتفى برسم الصور، بل يفسح المجال للكلمات كي تكون جزءا من اللوحة. هذه العلاقة المتبادلة تجعل من الإبداع نفسه عملية مستمرة من الولادة والانبعاث، كما يتجلى في قصيدة “الفينق المنبعث من رماده الخاص”.
تكتب لعلج “يزور الشاعر والفنان التشكيلي سريرتهما الغنية والمكثفة./ يتحاوران بلا انقطاع مع ذاتهما في شغف ينسي الفضاء/ والزمان./ تتغذى هذه الطاقة من ذاتها./ تجعل من الفنان الفينق المنبعث من رماده الخاص”.
وبشكل عام إن تكرار ثيمة اللانهائي والرغبة في التحقق يعكس توقا وجوديا للخلود، حيث يصبح الإبداع وسيلة للانتصار على الزمن والموت. النصوص تجعل من الفنان والشاعر كيانات شبه أبدية، تحمل شعلة الجمال في عالم يفتقر إلى الثبات. هذا التوق يظهر جليا في قصيدة “ولع واحد للانهائي”، حيث يختتم العمل بنوع من التصالح مع الحاضر عبر الاحتفاء بالتناغم بين الشعر والتشكيل. هنا، الجمال ليس موضوعا بقدر ما هو حالة وجودية، يحتفي بها الشاعر والفنان معا، تاركين وراءهما صمتا مشتركا يشير إلى النهاية والبداية في آن واحد.
هذه القصائد، في مجملها، لا تحتفي فقط بالإبداع كحالة شعورية، بل تعيد تعريفه كفعل فلسفي وجمالي يتجاوز التصنيفات التقليدية. إنها دعوة مفتوحة للتأمل في العلاقة بين الكلمة واللون، وبين الحلم والواقع، وبين الإبداع واللانهائي.
لهذا ليست تجربة لبابة لعلج، بهذا المعطى، مجرد محاولة لدمج الشعر بالفن التشكيلي، بل هي رؤية فلسفية عميقة تسعى إلى كشف النقاب عن العلاقة الجوهرية بين الحواس والتعبيرات الإنسانية. إنها دعوة إلى تجاوز الحدود التقليدية للفنون، وإلى التفكير في الإبداع كعملية متكاملة تجمع بين ما هو مرئي وما هو غير مرئي. من خلال لوحاتها وقصائدها، تقدم لعلج لنا عالما حيث تصبح الكلمة لونا، واللون قصيدة، وحيث يلتقي الفن والشعر في حوار أبدي عن الجمال والإنسانية.