مستقبل خطير ينتظر البشر: زراعة بلا مزارعين وعالم بلا عمال وموظفين

"نهاية العمل" تحذير صارخ من اختفاء الحضارة التي عرفناها.
الاثنين 2024/08/05
حقبة إنسانية جديدة

لا تتوقف التقنيات التكنولوجية عن التطور، وقد غيرت القفزة الكبيرة التي عرفها الذكاء الاصطناعي بشكل جذري تصوراتنا للمستقبليْن القريب والبعيد. ولعل أبرز تأثيرات هذا التطور، تغيير بنية المجتمعات بداية من إنهاء طرق العمل وخلق واقع آخر تشهد فيه البطالة ارتفاعا جنونيا، وهذا ما يحذر منه جيرمي رفكين.

ضمن سيرورة خطاب النهايات، لم يسلم العمل أو الشغل بدوره من سهام هذه النهاية. إذ ولج الجنس البشري إلى عصر أفول الوظيفة وضمور فرض العمل بشكل مهول وكبير، حيث إننا نشهد ارتفاعا كبيرا لنسبة البطالة أكثر مما شهده العالم في سنوات الثلاثينيات من القرن المنقضي. يحدث كل هذا بفعل التكنولوجيا التي تلتهم الوظائف، والمتولدة عن ثورة المعلومات التي تجتاح كل قطاع النشاط البشري، بما فيها النشاط الفلاحي والزراعي.

يعالج جيرمي رفكين في مؤلفه الموسوم بـ”نهاية العمل” هذا الأفول المهول للوظائف بفعل التوسع غير المسبوق للتقنية والتكنولوجيا في كل المجالات، وبروز مفهوم “عن بعد” داخل المنظومة الوظيفية. فالعالم في نظر هذا المفكر يتجه إلى منحى جد خطير، وينقسم إلى قطبين، الأول يتشكل من نخبة المهندسين والباحثين والمتحكمين في تكنولوجيا المعلومات المتفوقة (المبرمجين)، ومن جهة الأخرى قطب العمال الذين تعد وظائفهم مهددة، فلم تتبقّ هناك مهن قارة وثابتة في عالم يصير أكثر أتمتة (التشغيل الآلي) وخاضعا للآلة والذكاء المعلوماتي.

عالم بلا مزارعين

◙ جيرمي رفكين يحاول تجاوز ما يمكن أن تقوم به القطبية الجديدة من إدخال العالم في عصر الاضطراب والفوضى
◙ جيرمي رفكين يحاول تجاوز ما يمكن أن تقوم به القطبية الجديدة من إدخال العالم في عصر الاضطراب والفوضى

لتجاوز ما يمكن أن تقوم به هذه القطبية الجديدة، من إدخال العالم في عصر الاضطراب والفوضى العارمة، يستدعي الأمر عاجلا، حسب رفكين، البدء في التفكير فيما لا يمكن تصوره، أي أن نستعد لاقتصاد يزيل وظائف أكثر جماهرية في عملية الإنتاج وعملية التوزيع، بما فيها مهن الزراعة والزراعة، مما يستدعي الإعلان عن بزوغ حقبة “ما بعد السوق”، والتي تُحَدِّد نوعا جديدا من النشاط البشري ومن التوزيع والربح. وهو ما يستلزم التصرف بشكل أكثر دقة وحذر على مستويين: الأول يخص تقليص ساعات العمل، والثاني يبتغي تطوير “قطاع الخدمات”، حيث ينتظم - ذاتيا - فيه الناس في جماعات تتولى القيام بإنتاجية متصاعدة للخدمات والتي هُم في حاجة إليها.

بالتالي فجيرمي رفكين يواجه بجرأة وخبرة الإشكاليات الأكثر أهمية في المجتمع الراهن، إشكاليات يعد مقلقا ومربكا الحديث عنها. إننا إذن، على أعتاب حقبة إنسانية جديدة، حقبة متسمة بضمور محتوم للوظيفة، كما نعلمها اليوم، إلى درجة إلغائها، ومعه التخلي عن اليد البشرية العاملة. وذلك بفعل غزو الآلات ونظم الاتصالات وتقنيات معاصرة لكل الأنشطة البشرية، في عصر يسميه جيرمي رفكين بـ”عصر الوصول”، حيث تم استبدال اليد البشرية بيد أكثر فاعلية وقوة وسرعة، يد الماكينة.

إننا نشهد اليوم ظهور مُزارع أكثر عصرنة وأكثر تقانة، مُزارع لا يكل ولا يمل ولا يغفو ولا يتعب، إنه عبارة عن برمجيات معقدة وتزداد تعقيدا، تتكفل بكل الأنشطة الفلاحية في المزارع والحقول، إذ تعوض القائمين على شؤون الزراعة ومسائل الحيوانات من تغذيتها ونظافتها وشربها ونومها ورعيها… حيث تكفي إمكانية “الوصول” إلى تطبيقات تُبَرمَج وتوضَع على الألواح أو الهواتف الذكية، حتى يتمكن صاحب المزرعة وهو جالس في مقعده قرب المدفئة في أستراليا من التحكم في سير أعمال مزرعته في غينيا (مثلا). بل إن جامعة مينيسوتا اخترعت برمجية خاصة بتشخيص التهاب الضرع البقري (عدوى الثدي).

هذا كله يحدث وإن كان الأمر بالنسبة إلى معظم الناس أن التكنولوجيا المتقدمة لا تتناغم عادة مع الزراعة. فحسب رفكين، هذه الرؤى ترتكز على آثار المحاكاة التكنولوجية في القطاعات الصناعية والخدمات. لكن ثورة تكنولوجية أكثر عمقا تحدث وتقوم بقلب كبير في الفلاحة الحديثة، وتثير أسئلة خطيرة بخصوص مستقبل الشعوب الزراعية في أرياف العالم بأسره.

الحديث عن أن الاهتمام بموضوع التكنولوجيا الفلاحية في البلدان النامية أصبح حاضرا بقوة لدى أطراف متعددة. ويأتي هذا الاهتمام في خضم الانتشار المتنامي لأنواع من التكنولوجيا الفلاحية المستوردة التي تستعمل في المجال الفلاحي بهذه البلدان؛ دون الاكتراث بالأبعاد الاجتماعية وبالتوازنات البيئية عند الأقطار المستورِدة، مما أفضى إلى حدوث تحولات عميقة على صعيد البنيات الفلاحية الموروثة وعلى عدة جوانب من حياة المجتمعات الريفية، فضلا عن الانعكاسات السلبية على المنظومات البيئية بهذه الأقطار. فإذا كان استخدام التكنولوجيا الفلاحية المستوردة يمكنه أن يحقق النمو الاقتصادي ضمن ظروف إنتاج محددة، فإن الأمر ليس دائما كذلك عندما يتعلق الأمر بالتوازنات الاجتماعية والمجالية والبيئية بالبلدان النامية المستخدمة لهذه التكنولوجيا.

ما بعد الزراعة

◙ كتاب "نهاية العمل" يعالج الأفول المهول للوظائف بفعل التوسع غير المسبوق للتقنية والتكنولوجيا في كل المجالات
◙ كتاب "نهاية العمل" يعالج الأفول المهول للوظائف بفعل التوسع غير المسبوق للتقنية والتكنولوجيا في كل المجالات

نحن بالتالي أمام ما حذر منه رفكين بكون نهاية العمل قد تعني اختفاء الحضارة التي عرفناها، أو على الأقل فهو يتنبأ ببداية تحول اجتماعي كبير وبالتالي ميلاد “روح إنسانية” جديدة. إذ في القسم الثالث المعنون بـ”الأفول العالمي للعمل” من كتابه المذكور، يضعنا هذا المفكر إزاء التغيرات التكنولوجية والتنظيمية الكبرى التي تتخذ مواضعها في قطاعات الزراعة والصناعة والخدمات، التي سيكون من شأنها خفض عدد العمال المطلوبين لإنتاج السلع والخدمات التي يحتاجها العالم إلى حد هائل.

حاليا (في أمريكا أنموذجا) فقط من 15 إلى 27 في المئة من المزارعين يستعملون أجهزة الكومبيوتر كوسيلة للتدبير. لكن العلماء يقدرون بأنه في أقل من 20 سنة ستكون كل مكونات الفلاحة خاضعة لإدارة الحواسيب من مراقبة وتحليل وتوزيع المهام في كل المجالات الممكن تخيلها في التدبير الزراعي.

 وبما أن التكنولوجيا الجديدة المعلوماتية والروبوتية تُحَوّل الزراعة في بيئتها ذاتها، فقد عوضت العمل الإنساني بالمَكْنَنَة فيما يقارب كل مجالات الأنشطة البشرية، حيث إن التكنولوجيا المعاصرة المختصة بالربط بين الجينات تُغيّر حتى أنواع الإنتاج النباتي والحيواني. مما يتولد عنه نوع جديد من البيولوجيا المعتمدة على التكنولوحيا، أي ما يسمى بالبيوتكنولوجيا، وما يسميه رفكين بـ"الفلاحة الجُزَيْئِيَة".

لكن ألا يحق لنا أن نتساءل عن عواقب كل هذا التحول والتغيّر الكبير على المستوى الزراعي والفلاحي، إذ إن انخفاض اليد العاملة في المزارع والحقول يؤدي إلى هجرات قروية تزيد من عدد سكان المدن، ومعه تزداد أعداد البشر المعدمين اليائسين ليتحول الكثير منهم إلى حياة الجريمة منتجين ثقافة فرعية جديدة وضخمة للجريمة. لكن أليس من الممكن أن يعيد المجتمع صياغة وعيه بذاته على أساس صورة الأدوات العلمية الجديدة؟ كما حدث للمجتمع الأمريكي مع التحول العلمي الكبير في القرن التاسع عشر.

النهاية هنا عند رفكين لا تعني الموت والزوال، بل إنها نهاية بالمعنى الهيغلي المرتبط بمرحلة الاضمحلال التي يتولد عنها ميلاد لبراديغم جديد لا يكاد يتعلق بسابقيه. لهذا فنهاية العمل تكاد تعني ميلاد نوع جديد من العمل المعتمد كليا على التكنولوجيا العلائقية، من حيث إنه تمتد هذه التكنولوجيا لتحيط بمجمل تجارب الشخص الحياتية. وقوتها تكمن في إمكانيتها لخلق بيئة شاملة لتنظيم حياة الفرد وإعادة هيكلة الخطاب الاجتماعي.

يحرك جيرمي رفكين كمية كبرى من المعلومات لهدم كل الإيديولوجيات الحاكمة، ويحاول أن يضع تصورا فكرياً من خلاله يوضح بأن "نهاية العمل" سيغدو نوعا من الترف بالنسبة للدول المتقدمة، بما أن تطور الجنوب يرتبط بوجود أياد عاملة، وما على دول الجنوب، بما فيها العربية، إلا الدخول قسريا إلى ما يسميه رفكين بـ"عصر ما بعد السوق"، أو "ما بعد العمل"، ومعه إلى عصر "ما بعد الزراعة، إذ إن عالمنا كما نعرفه اليوم هو منذور للتغيّر الكلي.

12