الكتابة المشتركة: تعدد في الطباخين أم قيمة مضافة

ورشات الكتابة المشتركة ليست بدعة غريبة عن المشهد الدرامي العربي لكنها بدأت تفرض نفسها في السنوات الأخيرة كأمر واقع لضرورات أملتها أسباب وعوامل عديدة.
الخميس 2021/04/22
أعمال ناجحة ولدت من رحم الكتابة المشتركة

بدأت الكتابة المشتركة وورشات تأليف السيناريو تنتشر عربيا في السنوات الأخيرة، وقد ظهرت جلية في هذا الموسم الرمضاني بشكل لافت، ما يدفعنا إلى التساؤل: هل تعكس هذه الظاهرة أزمة في توفر الكاتب ذي النفس الطويل أم هي حل ينقذ الدراما العربية من الرتابة وتكريس اللون الواحد والمزاج الواحد؟

لم يعد مستغربا أنّ بعض شارات (تيترات) مسلسلات رمضان 2021 صارت تتسع لأكثر من اسم في التأليف أو تُشير إلى ورشة كتابة جماعية يقودها أحد المؤلفين المعروفين.

وثمة من يقول إن الكتابة الجماعية التي انتشرت مؤخرا في شتى الأقطار العربية هي السبيل الوحيد لتطوير الدراماتورجيا التي ظلت الحلقة الأضعف في الصناعة التلفزيونية.

كتلة متجانسة

أمثلة عديدة نسوقها في مسلسلات هذا العام، ومن مختلف الجهات الإنتاجية في العالم العربي مثل “الطاووس” الذي كتبه كل من كريم الدليل ومحمد ناير، ويطرح موضوع الاغتصاب في بطولة لجمال سليمان وسميحة أيوب وسهر الصايغ، وكذلك مسلسل “كله بالحب” الذي جاء من إنجاز ورشة أحمد الشخيبي، وقام بدور البطولة فيه زينة وصابرين وهالة فاخر ومحسن منصور وسامر المصري وأخرجه عصام عبدالحميد.

في المسلسل السوري "سوق الحرير2" انضم الكاتب سيف رضا حامد إلى ورشة الكتابة

وفي المسلسل السوري “سوق الحرير2” انضم الكاتب سيف رضا حامد إلى ورشة الكتابة، وتسلّم المثنى صبح دفة الإخراج في عمل من تمثيل بسام كوسا وسلوم حداد وكاريس بشار.

خليجيا تعود حياة الفهد في “مارغريت” من تأليف الأخوين علي ومحمد شمس، أما العمل الكوميدي اللبناني السوري المشترك، والذي حمل عنوان “زوج تحت الإقامة الجبرية” من تمثيل زياد برجي ونادين الراسي وهبة نور وغيرهم  فجاء من كتابة زهير قنّوع وفؤاد يمّين.

وفي الإطار الكوميدي نفسه تتحدث أوساط النقد الفني في تونس بإسهاب عن “كان يا ما كانش”، وهي سلسلة كوميدية تستلهم الفانتازيا التاريخية من تأليف حاتم بلحاج وعبدالحميد بوشناق وعزيز الجبالي.

ورشات الكتابة المشتركة ليست بدعة غريبة عن المشهد الدرامي العربي في الإنتاج التلفزيوني، وكذلك السينمائي والمسرحي بل وحتى الروائي من خلال تجربة جبرا إبراهيم جبرا وعبدالرحمن منيف، في “عالم بلا خرائط”، لكنها بدأت تطل برأسها في السنوات الأخيرة وتفرض نفسها كأمر واقع لضرورات أملتها أسباب وعوامل عديدة ومتفرقة.

تكرست هذه الظاهرة في الدراما التلفزيونية أكثر عام 2018 وانتشرت خلال الماراثون الرمضاني أو حتى خارجه، ومن أبرز تلك التجارب مسلسل “سابع جار” الذي شاركت في كتابة حلقاته خمس مؤلفات هن هبة يسري وآيتن أمين ومنة إكرام وسما أحمد ومنة فوزي. وهو يعتبر عدداً كبيراً بالنسبة إلى تأليف مسلسل تلفزيوني كما اعتادت الشاشة الصغيرة في العالم العربي.

السيناريست المصري تامر حبيب لفت الأنظار إلى هذا النوع من الكتابة في أعماله الدرامية، مثل “حلاوة الدنيا، لا تطفئ الشمس، غراند أوتيل، طريقي”، كما لفتت الكتابة المشتركة أنظار نجوم من أمثال عادل إمام ويسرا وغيرهما، فبدأ كل منهم في التفكير والعمل على السيناريو مع مجموعة من الكتاب الشباب المتعاونين.

مسلسل "الطاووس" كتبه كل من كريم الدليل ومحمد ناير

لطالما يعرّف العمل الإبداعي عن نفسه بأنه حالة فردية بحتة، ولا يمكن أن يوزع على اثنين أو أكثر، رغم أن النموذج الرحباني يكاد يكون من النوع الذي يُحفظ ولا يقاس عليه بحسب العديد من النقاد الفنيين، ذلك أن غيره من التجارب القليلة لم يرتق إلى سوية عاصي ومنصور.

دائما نتحدث هنا عن الكتابة الدرامية وليس متمماتها أو ما يأتي بعدها من “روتشة” وإضافات كتشذيب ووضع الحوار والأغاني وغير ذلك.

نتائج التأليف المشترك جاءت في معظمها مقبولة بل جيدة في التجارب التي عرضت في السنوات القليلة الماضية، وذلك لأسباب خارجية ساهمت في إنجاحها كتولي المخرج دفة القيادة بعد الانتهاء من ورشة الكتابة، خصوصا إذا كان من نوع المخرج المؤلف الذي يقترح ويضيف إلى المتن الحكائي ويختار المقترح الأفضل الذي يخدم العمل.

أول شروط نجاح التأليف المشترك هو تقارب سوية الموهبة بين الكاتبين أو أكثر، واجتماع صناع العمل على ماهية الهدف بعد إشباعه درسا وتمحيصا ونقاشا. كما أن على المرجعية أن تكون متقاربة إن لم تكن واحدة فمن غير المعقول أن يشترك كاتب ذو ميولات يسارية مثلا مع شريك ذي توجه يميني محافظ.

وقد يقول قائل في هذا المجال: يمكن للنقيضين أن يلتقيا في حالة الكتابة المشتركة وهو أمر من شأنه أن يدفع بالتصعيد الدرامي المبني أساسا على جملة صراعات وتناقضات تغني العمل وتحرره من النمطية واللون الواحد.

نعم، هذا مهم وضروري بالتأكيد، ولكن ليس على تلك الشاكلة من الفصل الميكانيكي والتكلم بازدواجية ناشزة فنحن هنا إزاء عمل درامي انسيابي ذي نزعة إنسانية ولسنا في سجال فكري ينتمي إلى تلك النقاشات التي يعلو فيها الصراخ، وتعرف باسم “الرأي والرأي الآخر”.

"زوج تحت الإقامة الجبرية" من كتابة زهير قنّوع وفؤاد يمّين

نحن هنا إزاء عمل درامي على الشخصيات أن تتحرك وتتطور فيه دون مفاضلة أو تفاوت، ذلك أنه يُستقبل بالأحاسيس وليس بالعقل المحض، مثل كتاب نقدي أو فكري كماركس وأنجلز في ألمانيا أو الأخوين غونكور في فرنسا أو العقاد والمازني في بدايات القرن الماضي بمصر، أو حتى القصيدة التي تناوب عليها ثلاثة شعراء أردنيون هم يوسف عبدالعزيز وزهير أبوشايب وطاهر رياض.

مهمة الكتابة الدرامية المشتركة أن يجعل أصحابها من النص الذي بين أيديهم كتلة واحدة ومتجانسة حتى يشعر المتلقي أنه أمام صوت واحد لكثرة التناغم والانسجام وهذا أمر غاية في الصعوبة يندر وجوده لطبيعة الذات البشرية التواقة إلى التفرد والاختلاف أولا ثم لتلك الخوارزمية الهائلة في تعددية مصائر الشخصيات، حتى أن هناك تطبيقات جديدة من “الكتابة الذكية” أو “الصناعية” خرجت للعالم، وتتناول نهايات متعددة تقترحها على الشخصية الواحدة والمتلقي الواحد.

الأيادي الأربع

مهما يكن من أمر، فإنه ينبغي الاعتراف بأن الكتابة الدرامية المشتركة ليست تقليدا في عالمنا العربي ولا حتى ظاهرة في العالم بأسره الذي يميل إلى نظام الورشة في تقسيم المهام، فهذا يهتم بالحوار، وذاك بالأشعار أو الأغاني إن وجدت، وذاك بتقنيات التقسيم بين الأزمنة والأمكنة وكيفية توزيعها ضمن منحى تصاعدي.

الأيادي الأربع إن عزفت على البيانو أو كتبت نصا دراميا فإنها تعطي الإضافة، أما إذا زاد عددها فأمر في غاية الصعوبة ما لم تقدها عصا مايسترو عبقري الموهبة ودقيق الاختيار.

الأعمال التلفزيونية العربية التي تقدم في الموسم الحالي متفاوتة الجودة حسب ما يستشف من حلقاتها الأولى، لكنها ليست سيئة عموما، ويمكن للتجربة أن تتطور بما يغني الخزانة الدرامية ويخلصها من تلك النزعة النرجسية المنطوية على نفسها فيزيدها طزاجة وانفتاحا، خصوصا إذا كانت تحوي فئات عمرية مختلفة، وذلك لضمانة عدم السقوط في “المونوتون” والرأي الواحد والمزاج الواحد.

الأيادي الأربع تصنع لحنا جيدا والتانغو لا يرقصه إلا اثنان فلماذا نستثني ونستبعد الكتابة الدرامية المشتركة

الكتابة المشتركة -بحسب دارسين ونقاد- ليست جديدة على الدراما العربية الحديثة، لكن قلما كان يشار إليها في شارة العمل، وخصوصا في الأعمال الضخمة التي تمسح حقبة وتحولات كبرى مثل رائعة أسامة أنور عكاشة “ليالي الحلمية” الذي كان، ولا شك، يستأنس لأقلام ومقترحات بعض الكتاب الشبان ضمن ورشة يقودها ويوجهها.

نحتاج في العالم العربي ليس إلى ورشة كتابة من داخل البيئة الواحدة فحسب بل إلى تنوع قادم من جميع الأقطار كي تعم الفائدة أكثر.

يبدو أن الكتابة المشتركة ضرورة لا غنى عنها في المستقبل وذلك لما توفره من ربح في الوقت إذ يمكن إنجازها في فترة قصيرة مقارنة بالمنفردة لأن الجهــــود تتوزع على الكتّاب كما أنها تمكن من أن يكمل أحد الكاتبين الآخرَ مهما كانت موهبته، الكتابة المشـتركة تمهد لرعاية التخصص والخبرة والتجربة فمن النادر أن يتمكن الفرد من التخصص في جميع المجالات، ناهيك عن إمكانية كسـبه للخبرة والتجربة في كل المجالات ثم أنه لا ضير من توسيع الدائرة وتشريك متخصصين وخبراء وآخرين عايشوا التجربة.

ولا بد من أن نقر بأن الدراماتورجيا هي الحلقة الأضعف في الصناعة التلفزيونية العربية، ولا يمكن تقويتها إلا عبر ورش العمل وتجربة التأليف المشترك.

الأيادي الأربع تصنع لحنا جيدا والتانغو لا يرقصه إلا اثنان فلماذا نستثني ونستبعد الكتابة الدرامية؟

15