نيفين القباج قائدة الإسعاف المجتمعي المصري وتغيير مفاهيم حقوق الإنسان

وزيرة لا تستهويها المكاتب تقطع طريق عودة المتطرفين.
السبت 2021/03/13
باب مفتوح للبسطاء

أصبح ظهور نيفين القباج وزيرة التضامن الاجتماعي بمصر مشهدا مقررا على الجمهور في غالبية الاجتماعات التي يعقدها الرئيس عبدالفتاح السيسي مع الحكومة، واستطاعت أن تصنع لنفسها مكانة لدى فئات عديدة خلال عام ونصف العام من شغلها حقيبتها الوزارية الصعبة.

عندما استدعى مجلس النواب وزراء الحكومة مؤخرا للتعرف على خطة كل منهم والإنجازات التي تحققت والإخفاقات التي حدثت ولم يستطع إيجاد حلول لها، حازت القباج على إشادة أعضاء البرلمان، ولم تهتز أمام محاسبة أي نفر منهم لها، بل نجحت في إقناعهم بجهودها في التغلب على التحديات التي تشتبك مع منصبها كمسؤولة عن قطاعات مجتمعية كثيرة، مثل الفقراء والمسنين والأيتام وذوي الاحتياجات والمدمنين وكل ما يخص المرأة.

أسندت إليها مهمة ثقيلة أخيرا تتعلق بتحسين أحوال الريف المصري الذي يضم شريحة كبيرة من المواطنين ضمن المشروع القومي الذي أطلقه السيسي لتطوير القرى الريفية على المستويات التعليمية والصحية والمعيشية والخدمية، وخفض منسوب الفقر إلى الحد الأدنى والقضاء على التسرب من التعليم والتصدي للموروثات القديمة، مثل زواج القاصرات وختان الإناث عبر رفع مستوى الوعي بين الأهالي.

شجاعة في المصارحة

ميزة القباج أنها من القلائل في الحكومة الذين لديهم شجاعة على مصارحة رئيس الدولة بحجم المشكلات الموجودة، ولا تحاول تجميل الصورة وترفض رفع تقارير توحي بسهولة المهمة، بل تتحدث بأريحية وتصف كل مشكلة من جميع جوانبها حتى يتسنى للحكومة والرئيس أن يضعا الحلول المناسبة والواقعية قبل الاصطدام بالحقيقة.

في ذروة دفاع بعض الأصوات الإعلامية والشخصيات السياسية المعروف عنها التقرب من السلطة عن الحكومة بأنها نجحت بنسبة كبيرة في القضاء على الفقر، غردت خارج السرب، وأعلنت أن هناك مخاطر كثيرة جراء استمرار زيادة الفقر، مثل التسرب من التعليم والزواج والمبكر وانخفاض مستوى الوعي، إلى درجة أن بعض الأهالي كانوا يتخلون عن تربية أبنائهم ويضعونهم في مراكز اجتماعية.

نجحت في أن تحظى بثقة شريحة كبيرة من المواطنين بسبب مصداقيتها وعدم تغطيتها على أي مشكلة، ورغم امتعاض البعض من أداء الحكومة وقراراتها، لكن سياستها في وزارة التضامن جاءت مناسبة لرغبات وتطلعات الشارع، واخترقت كل الملفات في توقيت ضيق، ووضعت يديها على نقاط القوة والضعف، واستطاعت أن تتعامل بحكمة وحنكة مع أي طارئ لأنها معنية بشكل أكبر بمواجهة الكوارث الاجتماعية.

ميزة القباج أنها من القلائل في الحكومة الذين لديهم شجاعة على مصارحة رئيس الدولة بحجم المشكلات الموجودة، فهي لا تحاول تجميل الصورة وترفض رفع تقارير توهم بسهولة العمل

تصنف القباج بأنها الوزيرة التي تسعى لتغيير مفاهيم حقوق الإنسان، لأنها تعتقد أن إحراز أي تقدم في هذا الملف يفترض أن يلامس المتطلبات الملحة للناس، مثل الحق في التعليم والسكن والصحة والآدمية والكرامة الإنسانية، لا أن تكون حقوق الإنسان فقط مرتبطة بنواح سياسية أو مدنية.

لم تبعدها قناعاتها الشخصية تجاه حقوق الإنسان عن التقرب من الجمعيات الحقوقية والمنظمات الأهلية المحلية والأجنبية، والحوار بشأن الطريقة الجيدة التي يجب أن يتم من خلالها العمل الأهلي، بشكل يخدم الإنسانية ويحقق الأهداف التي تسعى إليها هذه المؤسسات دون صدام مع الحكومة، حيث تكون هناك أرضية خصبة للتعاون والتكامل، لا التشابك والتباعد في الرؤى والتوجهات.

مع تصاعد الهجوم على الحكومة جراء النصوص التي تضمنها قانون العمل الأهلي واتهام النظام بأنه يضيّق الخناق على الحقوقيين والجمعيات، استطاعت القباج أن تنزع فتيل الأزمة، وتتحرك سريعا نحو الاجتماع مع المسؤولين عن الجمعيات الأهلية للنقاش حول القانون والوصول إلى نقطة تلاق بشأن ما يمكن تعديله أو البقاء عليه، وما يمكن أن يحقق مصالح الدولة والمنظمات معا.

شرق وغرب

كانت رسالتها في الدكتوراة بجامعة كارتلون بكندا عن “إشكاليات المجتمع المدني”، ونجحت في التعامل مع هذا الملف. دخلت في نقاشات واسعة مع مسؤولي المنظمات الحقوقية، حيث تدرك كيفية تنظيم العمل الأهلي وفق القانون بسبب خبراتها المتراكمة واقترابها من قوانين دول أجنبية استطاعت التوفيق بين متناقضات عديدة.

ساعدها احتكاكها بمحدودي الدخل في مسيرتها التي امتدت لسنوات في مجال العمل الأهلي والخيري والاجتماعي في أن تتقرب من فكر الطرفين، المنظمات والبسطاء، حتى استطاعت الوقوف بشكل واقعي على أهداف الاثنين، فلم تكن منفصلة عن الطبقة الكادحة ولا معزولة عن الجمعيات التي تريد الوصول إلى هؤلاء.

الأزمة التي لم تستطع القباج فك شفرتها هي تلك المرتبطة بنظرة الحكومة أو دوائر صناعة القرار للمنظمات الأهلية، فهي كوزيرة استطاعت التوفيق القانوني بين الدولة والجمعيات الأهلية، لكن طريقة التفعيل على الأرض ليست مسؤوليتها، بل مسؤولية جهات أخرى في مقدمتها الأمن ومراقبة التمويلات الخارجية وحدود المسموح بتمريره وأي التنظيمات خالفت القانون ولديها علاقات مشبوهة.

قناعاتها الشخصية تجاه حقوق الإنسان لم تبعد القباج عن التقرب من الجمعيات الحقوقية والمنظمات الأهلية المحلية والأجنبية، والحوار معها بشأن الطرق الجيدة التي يجب أن يتم العمل الأهلي من خلالها

القباج من أكثر المسؤوليين المؤيدين لحتمية إزالة الحواجز أمام المنظمات الأهلية وعدم النظر إليها في المجمل باعتبارها مشبوهة، فهي التي شغلت من قبل منصب نائب مدير المؤسسة الأميركية للتنمية، بمعنى أنها تدرك أهمية وجود شراكة تنموية بين الجمعيات والحكومات، وضرورة أن تكون علاقاتها قائمة على الخدمة الاجتماعية وتعزيز المفاهيم الإنسانية بغض النظر عن الاختلاف في أوجه الدعم والإنفاق.

والخط الأحمر الوحيد الذي وضعته القباج أمام الجمعيات الأهلية أن تكون بوابة لدعم التطرف والإرهاب في المجتمع مثلما كانت تفعل المؤسسات التابعة لجماعة الإخوان قبل السيطرة عليها، أو التيار السلفي الذي يسعى للتسلل إلى المجتمع مرة أخرى من خلال العمل الأهلي تحت غطاء المساعدات.

تتملّكها قناعة بأنه لا يجوز وضع كل المنظمات الأهلية في خانة دعم الإرهاب، لأن هذا توصيف خاطئ وغير حقيقي، لكنها متشددة للغاية تجاه الجمعيات التي لديها سجلات حافلة بالانحراف المالي والفكري واعتادت السعي إلى التخفي وراء العمل الإنساني لتحقيق مآرب سياسية مشبوهة مثل الجمعيات الشرعية الملحقة بالمساجد.

تعامل معها مناصرون للإخوان والسلفيين عقب تكليفها بمنصب وزيرة التضامن باعتبارها سيدة متديّنة ترتدي الحجاب وقد تكون بادرة خير لعودة نشاط الجمعيات الإسلامية التي أغلقتها الوزيرة السابقة غادة والي، لكن القباج صدمت هؤلاء، واستمرت على نفس النهج، وأظهرت شدة ضد اللعب على وتر البسطاء وسوء أحوالهم المعيشية تحت أي مسمى ديني.

رغم كونها امرأة تنقلت بين مجتمعات غربية متحررة ومتحضرة وتنتمي لأسرة ميسورة، لكنها نجحت بسهولة في حجز مكانة عند الطبقة البسيطة في مصر. وصعوبة التعامل مع هذه الفئة تحديدا بالنسبة إلى أي مسؤول أنها تنظر إلى الحكومة بريبة وتتخذ منها موقفا مناوئا بحكم القرارات الاقتصادية التي ضاعفت معاناتها، أي أنه من السهل نيل رضاها أو إحساسها بقيمة أي مشروع يستهدف تحسين المستوى المعيشي.

تكافل وكرامة

Thumbnail

لم تبن القباج علاقتها مع بسطاء مصر بكلمات وشعارات زائفة، لكنها بدأت معهم من نقطة الصفر، وتأسس الانسجام بين الطرفين من خلال إطلاق برامج حماية اجتماعية مثل مشروع “تكافل وكرامة” الذي يستهدف صرف مبالغ مالية شهريا للأسر الفقيرة التي ليس لديها دخل ثابت، وفتحت الباب لكل من يثبت أنه يحتاج إلى دعم.

كانت وقتها مسؤولة عن المشروع ومساعدة لوزيرة التضامن لشؤون الحماية الاجتماعية قبل أن تحل في منصب الوزيرة، ولأنها صارت متحكمة في كل القرارات وبإمكانها العرض على الحكومة والرئيس مباشرة، لم تبخل عن وضع خطة متكاملة تستهدف الفئات المهمشة وفتح أغلب الملفات التي تثير امتعاضها.

أقنعت الحكومة بحتمية إطلاق حزمة من المشروعات الاجتماعية التي تخفف الأعباء عن الفقراء لتعويض غياب المجتمع المدني، ونجحت في اقتناص الموافقة على أغلبها، وصارت هناك مساكن بديلة بمبالغ رمزية، ومساعدات للمقبلين على الزواج من غير المقتدرين، وأخرى لأبناء المطلقات، والتكفل بتعليم ذوي الأسر البسيطة، وإطلاق حملة لجمع المشردين بالشوارع، أطفالا أو مسنين أو نساء، وإيداعهم بدور الرعاية الاجتماعية، وإطلاق حملات للإفراج عن الغارمات كي يعدن إلى أحضان أبنائهن.

براعة القباج تكمن في أنها وزيرة لا يستهويها العمل المكتبي، وتفضل أن تكون موجودة بين الناس، فلا تقع أزمة لها علاقة بالشريحة البسيطة إلا وتكون في مقدمة الحاضرين بالمكان لمتابعة الموقف ومساعدة المتضررين ماديا ومعنويا، ورفع تقارير واقعية لرئيسي الجمهورية والحكومة، ووصفت بالوزيرة المكوكية.

عندما غرقت إحدى المناطق الواقعة جنوب القاهرة بمياه الأمطار، وانجرفت منازل العشرات من الأسر، صممت أن تزور المكان الذي لم يكن يستطيع سكانه التحرك أو الخروج من منازلهم خوفا من السيول، وجالست الأهالي واستمعت إلى مطالبهم ورفعتها إلى رئيس الدولة الذي وجه بسرعة صرف التعويضات وتوفير أماكن بديلة للمتضررين وتذليل أي عقبات تحول دون عودتهم إلى حياتهم الطبيعية.

تناغم سياسي

مهمة القباج الجديدة ثقيلة، وتتعلق بتحسين أحوال الريف المصري الذي يضم شريحة كبيرة من المواطنين ضمن المشروع القومي الذي أطلقه السيسي بتطوير القرى الريفية على المستويات التعليمية والصحية والمعيشية والخدمية وخفض منسوب الفقر إلى الحد الأدنى
مهمة القباج الجديدة ثقيلة، وتتعلق بتحسين أحوال الريف المصري الذي يضم شريحة كبيرة من المواطنين ضمن المشروع القومي الذي أطلقه السيسي بتطوير القرى الريفية على المستويات التعليمية والصحية والمعيشية والخدمية وخفض منسوب الفقر إلى الحد الأدنى

يفضل السيسي التعامل مع المسؤول الذي يخرج عن دائرة العمل التقليدي ولا يلتزم مكتبه، لذلك أصبح هناك تناغم مع القباج، ففي الكثير من جولاته يتعمد التحدث مع بسطاء وبائعين في الشارع، ويسمع منهم ما يحتاجون إليه، وعندما تكون مطالبهم متوافقة مع ما تعرضه وزيرة التضامن الاجتماعي يدرك مدى نجاحها في مهمتها لأنها نقلت احتياجات الناس إليه بصدق وواقعية.

ترتبط النظرة الإيجابية لها من جانب الكثير من فئات المجتمع بطريقة تعاملها مع البسطاء، فهي تتصرف بروح الأمومة، ففي لقاءاتها المتكررة مع الأطفال مجهولي النسب والأيتام والمشردين تحتضنهم وتقبل أياديهم وجباههم، وتجلسهم معها وتبادلهم الضحكات.

قد يعتقد البعض أنها تقوم بمثل هذه التصرفات بدافع “الشو” الإعلامي أو البحث عن كلمات ثناء وإشادة، لكن الكثير من الذين تعاملوا معها عن قرب، وتحدثت “العرب” مع بعضهم للوقوف على طبيعة شخصيتها، أكدوا أن مواقفها الإنسانية تلقائية بحكم شخصيتها الهادئة وميولها نحو مساعدة أي شخص طالما أنها تستطيع فعل ذلك، ولا تمانع في استقبال بسطاء في مكتبها والاستماع إلى مطالبهم وتنفيذها.

تعكس الفكرة الأخيرة التي طرحتها على الرئيس السيسي بإطلاق مشروع “الإسعاف الاجتماعي” أنها تبحث عن إرضاء الطبقة البسيطة بكل السبل، حيث تقوم الفكرة على تقديم يد العون ماديا ونفسيا واجتماعيا للحالات الطارئة داخل الأسر، مثل الكوارث الإنسانية وفقدان العائل الوحيد ورعاية الفتيات اللاتي يتعرضن للتحرش والعنف، والعائلات التي لديها أفراد مصابون بأمراض مزمنة ولا يجدون العلاج، مع إطلاق سيارات إسعاف طارئة في المناطق المحرومة محملة بكل المستلزمات الطبية.

الخط الأحمر الوحيد الذي وضعته القباج أمام الجمعيات الأهلية أن تكون بوابة لدعم التطرف والإرهاب في المجتمع، مثلما كانت تفعل المؤسسات التابعة لجماعة الإخوان قبل السيطرة عليها، أو التيار السلفي الذي يسعى للتسلل إلى المجتمع مرة أخرى

وتدرك جيدا حجم الصعوبات الاقتصادية التي تعرقلها عن الاستجابة لمطالب البسطاء، لكنها اعتادت التفكير خارج الصندوق، لذلك لجأت إلى سياسة الدعم النفسي لهذه الفئة من خلال مبادرات إنسانية تشعرهم بأن لهم حقوقا على الحكومة يجب أن يحصلوا عليها، وهو الفكر الذي غاب عن الدولة لسنوات، بأن تستمع على الأقل لصرخات هؤلاء، وتجعلهم على قناعة بأن مطالبهم شرعية حتى لا يتسرب إليهم الإحساس بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية.

الطبقات الأكثر فقرا واحتياجا من وجهة نظرها هي فئات لها أحلام بسيطة، ولا تميل سلوكياتها إلى الجشع أو الطمع، بل يبحث أفرادها عن الحد الأدنى من الحياة الكريمة، لذلك يستهويها التقرب منهم، وتلبي طموحاتهم التي لا تتخطى المعيشة الآدمية والسلام النفسي وتخفيف المعاناة، وتراهم من الشرائح النادرة التي لم تتلوث نفوسهم بالحقد والكراهية، ودائما ما تقول عنهم “شرف لأي إنسان أن تكون جذوره من أسرة بسيطة”.

والآن تقوم بمهمة بالغة الصعوبة، فهي مطالبة بامتصاص غضب البسطاء وتلبية مطالبهم قبل أن يتحولوا إلى قنبلة يصعب السيطرة عليها، ففاتورة وصول الفقراء إلى مرحلة الانفجار سوف تهدّد الأمن والاستقرار في الدولة دون شك.

12