تجربة السكن الفردي تتزايد في تونس رغم رفض الأسر لها

الاستقلالية عن الأهل تجنّب الأبناء الوقوع في توترات معيشية.
الثلاثاء 2021/03/09
البعد عن الأهل يقوي الإحساس بالمسؤولية لكنه لا يمنع الشوق

يعمد الكثير من الشباب إلى خوض تجربة السكن الفردي رغم  رفض الأسر لها. وتجنب تلك التجربة الشباب الوقوع في توترات معيشية مع أهلهم كما يتعلمون منها الكثير من الخبرات الحياتية مثل التعويل على النفس وتحمل مسؤوليات الحياة المستقلة. ولا تقتصر تجربة السكن الفردي في تونس على الشبان فقط، فحتى الفتيات أصبحن يعشن تلك التجربة ويتحملن نظرة المجتمع الرافضة لها وقد استطعن التغلب على الوحدة والعيش بمفردهن.

كشفت دراسة حول تغير الأنماط الاستهلاكية في تونس أنجزها المعهد الوطني للاستهلاك تداخل العديد من العوامل في تغير النمط الاستهلاكي للتونسي منها الديموغرافي ومنها تطوّر التمدن وتنامي استعمال التكنولوجيا ووسائل الاتصال الحديثة وتطور طريقة العيش.

وبينت الدراسة تأثير العوامل الديموغرافية في نمط الاستهلاك، حيث تراجع معدل أفراد الأسرة من 4.41 أفراد للأسرة الواحدة سنة 2006 إلى 4.03 أفراد للأسرة سنة 2010 في حين مرت نسبة النمو السكاني من 2.9 في المئة سنة 1966 إلى 1.29 في المئة سنة 2010.

وأثبت البحث الميداني الذي أنجزه المعهد الوطني للاستهلاك في إطار هذه الدراسة في مرحلتها الثانية تمظهرات التغيّر في طريقة عيش المستهلك التونسي وتطوّر رغباته ونسق عيشه. وقد شمل البحث 1022 أسرة بالمناطق الحضرية بولايات تونس وعدد من المحافظات الداخلية.

ورافقت التغيرات في طريقة العيش تغيرات في عقلية بعض الأسر التونسية التي لم تعد تتعامل مع تجربة السكن الفردي لأبنائها قبل الزواج كأمر مخجل يعكس التشتت والتفرقة رغم أن البعض مازال يحافظ على نفس هذه الأفكار. وقالت ألفة الرياحي شابة أربعينية أصيلة منطقة الشمال الغربي تعيش بمفردها في مدينة جربة التابعة لمحافظة مدنين بالجنوب التونسي لأكثر من 15 سنة أنها تعوّدت على العيش بمفردها رغم قلق عائلتها عليها خلال الأعوام الأولى.

أحمد الأبيض: من لديه القدرة على العيش وحيدا يخوض تجربة السكن الفردي
أحمد الأبيض: من لديه القدرة على العيش وحيدا يخوض تجربة السكن الفردي

وأضافت أنها بحكم عملها فضلت أن تسكن بمفردها بعد أن كانت برفقة صديقة لها تزوجت بعد أن سكنت معها لمدة لم تتجاوز العام.

وتحدثت الرياحي لـ”العرب” عن تجربتها الخاصة مشيرة إلى أنها تتحمل مسؤوليتها بمفردها فهي تعمل وتنفق على نفسها وتهتم بالبيت كما لو كان على ملكها، ولا تشعر أبدا أنها وحيدة فلديها رفيقات يزرنها وتزورهن وكذلك جيران طيبون يتقاسمون الأفراح والأحزان.

وأكدت الرياحي أنها تفضل تجربة العيش بمفردها على الزواج لأنها لن تنعم بالراحة والاستقلالية وفق قولها إذا تزوجت خصوصا وأنها عاشت دون رفيق لمدة طويلة.

بدورها تشير نزيهة الجويني فتاة من محافظة تطاوين التابعة للجنوب التونسي أنها تسكن بمفردها منذ 5 سنوات مؤكدة أنها تجربة ممتعة.

وقالت إنها كانت تتقاسم العيش مع فتاة لكنها لم تتفق معها لاختلاف الطبائع بينهما.

وأكدت نزيهة أن عائلتها ترددت في البداية ثم وافقت بحكم أن مقر عملها في منطقة تبعد عن مسكن والديها بمسافة تقدر بحوالي 70 كليومترا. وأشارت إلى أنها تعلمت من تجربة السكن الفردي تحمل المسؤولية والتحكم في الإنفاق وكيفية تخصيص موازنة للعيش.

وقالت نزيهة “الوحدة ليست سيئة كما يعتقد البعض”.

أما حسن الدريدي البالغ من العمر 50 سنة فلم تفرض عليه ظروف عمله أن ينتقل للسكن بعيدا عن منزل والديه بل كان اختياره لذلك القرار تجنبا للمشاحنات مع أفراد أسرته، خاصة وأنه يملك منزلا خاصا ما يعني أنه لن يكون مجبرا على دفع معلوم الكراء.

وقال الدريدي إنه قرر بعد تفكير طويل أن يستقل بالسكن ويبعد عن عائلته حتى يعيش نوعا من الاستقلالية لكن ذلك لم يمنعه من أن يزور والديه في كل مناسبة وأن يقضي معهما شهر رمضان من كل عام.

وأكد الدريدي أن والدته رفضت أن يغادر المنزل في أول الأمر حتى أنها هددت هي أيضا بمغادرته لكنها اقتنعت في نهاية المطاف بقراره.

ويشير إلى أن والدته كانت تخشى عليه من الوحدة والشعور بالاكتئاب والعزلة.

وكشفت دراسة لباحثين من جامعة فرنسية أن من يعيشون وحدهم أكثر تعرضا من غيرهم بواقع مرة ونصف إلى مرتين ونصف لأمراض نفسية، ومن هذه الأمراض الاكتئاب واضطرابات الخوف والوسواس القهري.

وأظهرت الدراسة ما إذا كان العيش منفردا سببا في هذه الأمراض، حيث تبين وجود علاقة إحصائية بين العيش وحيدا والإصابة بالأمراض، خاصة لدى الناس الذين يشعرون بالوحدة.

ويرى علماء النفس أن عيش الإنسان منفرداً يؤدي إلى عدم إقامة علاقات اجتماعية مع آخرين، ما من شأنه أن يساعد على الإصابة بأمراض بعينها من ناحية ومن ناحية أخرى فإن تفضيل الإنسان للعزلة ربما كان دليلاً على إصابته بالاكتئاب.

وأكد أحمد الأبيض المختص التونسي في علم النفس أن تجربة السكن الفردي لا يخوضها إلا من لديه القدرة على العيش وحيدا ومن يقدر على دفع معلوم الكراء. وقال لـ”العرب” “إنها تجربة فيها بعض الإيجابيات، فهي عنوان للرفاه في بعض الأحيان”.

لكن في أحيان أخرى تكون علامة على صراع الأجيال ونزعة شاذة لدى البعض للخروج على القيم التي تربت عليها الأسرة، مشيرا إلى أن العائلة يمكن أن تدفع إلى هذا الاتجاه.

وأضاف الأبيض أن تجربة العيش الفردي ليست دائما علامة على السعادة مستشهدا بما يحدث في الغرب، فآخر الإحصائيات تشير إلى أن 70 في المئة من سكان الحوض الباريسي يعيشون فرادى وهو ما يفسر خروج الناس بكثافة للمقاهي والملاهي لإحساسهم بالملل من مشاهدة الجدران وفق قوله.

ويؤكد علماء الاجتماع على أن الإنسان كائن اجتماعي بطبيعته، أي أنه يحب العيش في جماعات ومجتمع ووسط عادات وتقاليد وموروث ثقافي، ويلفتون إلى أن الجماعات هي من تشيّد الحضارات وليس الأفراد وينتج عنها ثقافتها وعاداتها الخاصة بها، منها ما هي عادات إيجابية ومنها ما هي عادات سلبية.

ولا يشجع علماء النفس وعلماء الاجتماع على عيش الإنسان منفردا مهما كانت دوافعه.

21