الشعر الروسي ابن الطبيعة والتحولات

مختارات تحرّر قصائد أهم الشعراء من ضباب التاريخ.
السبت 2021/03/06
ما حال الشعر الروسي بعد آنا أخماتوفا

تميزت حركة الشعر الروسي مطلع القرن العشرين بزخم كبير وتنوع واسع تجلى في انتشار التجمعات الأدبية الفنية، مع تباين في توجهاتها الإبداعية، ما أسس لمشهد شعري ثري له خصوصيته التي أثرت في الكثير من الشعريات العالمية. لكن في أواخر القرن العشرين تغير حال الشعر الروسي، وابتعد شعراؤه عن الأضواء، فيما ما زالت الشعرية الروسية تقدم الكثير للأدب العالمي.

يسعى المترجم والشاعر عبدالله عيسى في مختاراته للشعر الروسي إلى تقديم مشهد كامل للتجربة الشعرية في روسيا، انطلاقا من أبرز شعرائها: إيفان بونين وآنا أخماتوفا وسيرجي يسينين، الذين جسدوا في إبداعاتهم انزياحات جمالية خصوصية شكلت تراجيدياتهم، لاسيما ما خص تناقضها مع الأيديولوجيا السوفيتية.

كما تقدم المختارات أجيالا شعرية لاحقة، من مواليد الستينات والسبعينات خاصة، والتي تتواصل إبداعاتها الآن مثل سفيتا كريلوفا وأندرانيك نازارتيان وإيلينا إيسايفا وأسيل عمر وإيرينا يرماكوفا وإيغور يمليانوف وناتاليا روجكوفا ونتاليا توتشيلنيكوفا وأرسيني كونيتسكي وآيدار حسينوف وليديا كيتايفا ويلينا سوليما وسفيتلانا كورتشيفينا وليف بولدوف. ما يمثل كشفا لوجوه من الشعرية الروسية المعاصرة غير مكرسة.

آباء شعريون

الشعر الروسي ديوان مجمل التغييرات والثورات والأحلام وخيبات الآمال والمنعطفات التي شهدها التاريخ والإنسان

يتوسع عيسى في مختاراته المعنونة بـ”مختارات من الشعر الروسي”، الصادرة أخيرا عن دار خطوط وظلال الأردنية، في ترجمته لنماذج الشعراء الثلاثة الكبار بونين وأخماتوفا ويسينين، كما يقدم لكل منهم بقراءة كاشفة للتجربة وتجلياتها فنيا وجماليا وإنسانيا.

بدأ الكتاب ببونين، معنونا مقدمته بـ”بونين: روح الأثر الإسلامي وظل جسد الشرق في شعره”، وافتتحها عيسى بقول بونين “أشعر في الفترة الأخيرة، وبشكل مرعب، أنني شاعر مغتبط وحزين في آن. إن هذا يملأ روحي، ويمنحها موسيقى شعر غير محدود. أحس أن قوة إبداعية تخلق فيّ شيئا ما حقيقيا”.

مضيفا أن بونين الشاب الذي ولد في عام 1870 يعترف بهذا، بينما كانت دور النشر تحتفي بنتاجاته، فيما لم تمر بضع سنوات، حتى تطأ ثورات ثلاث روح روسيا، فيضطر للهرب إلى فرنسا حيث يبقى حتى مماته في 8 ديسمبر 1953.

ويضيف عيسى “فقيرا كسنبلة ظل بونين الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1933 طيلة عمره الممتد 83 عاما في منفاه، لقد صرخ يوما: إنني فقير حد أني لا أجرؤ على التفكير بهذا”. لكن بونين الذي قضى 43 عاما في منفاه القسري ظل مطاردا بتفاصيل مكانه الأول/ الوطن، وممتلكاته في الذاكرة. يكتب “حتى أقصى خلاياي أحسّ بجذوري مغروسة في روسيا، أحسني رجع أسلافي. وأكثر من هذا أحس بعلاقة استثنائية مع حيواناتها الوحشية ولهذا أحب الحياة بوحشية”.

نصوص من: إيفان بونين

ـ منتصف الليل، أنسلّ وحدي من البيت، وحدي
جليدية خطواتي تدق على الأرض،
منغمر بالنجوم الشهيات روض السواد ِ
وعلى الأسقف القشّ أبيض، أبيض
ومنتصفات الليالي راقدة بحداد.

ـ أنتِ وحدكِ؟
لستِ معي؟
في السنين البعيدات عن عمرنا
حيث كنت سوايَ؟
وفي عالم الأرض، في العالم الدائريّ
النهارات هذي الفتية، هذه الأصلية والغابرة.
من زمان
أنا لم أعد….!

ـ في الأقاصي تطوفين أنتِ،
وأنت تحبين، أنتِ وتغبطين،
الآن، أينكِ؟ مأخوذة
بأمواج خليج البسكايا الأخضر
بين الأبيض من أثوابك، والملك.
ليس من عبث ينساب فيك دم القرى
أيتها الجذلى، البسيطة، والطليقة..

ويرى عيسى أنه تكاد تصعب مقارنة عالم بونين الشعري بآخر، ففي خلقه للأشياء والرؤى ظل قابضا على حركية الكثافة والعمق الشفاف، والإمعان في الكشف عن مدارات شعرية باكتشاف لغة جديدة باستعارات طازجة مفتوحة على صفاتها الخصوصية.

وفي تقديمه لآنا أخماتوفا يقول عيسى “لم تكن حياة أخماتوفا في ضيعة تسارسكوي حتى ربيعها السادس عشر طارئة على ذاكرتها المبدعة، فهناك تلمست روحها مكامن الجمال الذي أصبح في ما بعد متن طاقتها الإبداعية البكر. ففي ذلك المكان الذي ظل موحيا وقصيا في ملكاتها الإبداعية، تفتحت مدارك أخماتوفا على عبقرية الطبيعة بأسمائها وألوانها ومفرداتها المتعددة على الأوصاف”.

ويلفت المترجم إلى أن الشاعرة عكفت لسبب لم تجد دونه سبيلا على تعلم القراءة متهجية، كما تذكر، ما تيسر من أعمال الكاتب الروسي الكبير تولستوي، وشرع لسانها آنذاك يتلمس قليلا من اللغة الفرنسية. وإذ تتجول في سيرتها تذكر أنها صاغت بواكير أشعارها في الحادية عشرة من عمرها، لكنها تعترف “لم يبدأ الشعر بالنسبة إليّ مع بوشكين وليرمنتوف، بل مع ديرجافين ونيكراسوف اللذين كانت أمي تحفظ جلّ شعرهما عن ظهر قلب”.

ويؤكد عيسى أن “أخماتوفا أخلصت لعملية تطوير أدواتها الفنية وطرح أسئلة إبداعية مع كل مجموعة شعرية جديدة لها، ومع أنها ارتبطت بجماعة الأكميزيين بروابط إبداعية وشجية، إلا أن حدود عوالمها ظلت تتحرك في مناخات أكثر اتساعا وقابلية، فالتقديس الجليل للطبيعة، وللذات الإنسانية، ولروحها التي اتخذها الأكميزيون مذهبا، ارتبط بلغة طيعة ابتعدت عن التعددية التعبيرية التي اعتمدها الرمزيون الروس. فاللغة التي هي مادة الصنعة الإبداعية هي أساس الشعر، وينبغي أن تتحرر من ضبابيتها، وتداعياتها التجريدية وهذا ما تميزت به أعمال أخماتوفا المتأخرة”.

ويكتب عيسى عن سيرجي يسينين، المولود في قرية كونستانتينوفا في ضواحي مدينة ريزان في 3 أكتوبر 1895، في أسرة فلاحية بسيطة، مشيرا إلى أنه حاز على مجد شعري أطبق الآفاق. ولعل البهاء الأخاذ الذي أبدعته طبيعة الريف الروسي قد عمقت حس يسينين بالجمال، وتركت روحه مفتوحة للأزهار والحرية، إذ غالبا ما كان يتهرب من وطأة الدوام المدرسي ليذهب مستسلما بحواسه الطفلية لمفردات وتفاصيل عالم نهائي من السحر والانعتاق.

ويضيف أنه مع اندلاع ثورة البلاشفة، التي تزامنت مع سطوع نجمه الشعري، تهيمن على ذات الشاعر مساحة ممتدة من الارتياب بأن تجد الأفكار البراقة التي اتكأت عليها لتحطيم العهد القيصري وكسر صورة عالمه وتصوراته مكانا لها في مرايا الواقع الذي يمضي إلى مجهول مؤرق، ومن التأثر بتصورات جماعة الأماجينيزم التي تستند في جوهرها على الشكل، متجاهلة المضامين في خلق عالم إبداعي يتقدم العالم الواقعي ليغدو معادلا له.

 وتحت وطأة تحولات عاصفة بذاته وعالمه المحيط يصدر يسينين باقة مجموعات شعرية بين عامي 1921 و1924 أسست لمشروع شعري خصوصي شكل انزياحا جماليا في حركة الشعر الروسي، أهمها “اعترافات متذمر”، “أشعار مشاغب”، و”موسكو الحانات”.

ويشير عيسى إلى أن طغيان شهرة يسينين وما أثير حول حياته من جدل أقلقت المشهد السوفيتي برمته، الأمر الذي دفع كريستيان راكوفسكي، رئيس الهيئة التنفيذية والإدارية العليا للسلطة السوفيتية، بإبراق رسالة لرئيس جهاز الاستخبارات والأمن السوفيتي فيليكس ديرجينسكي بتاريخ 25 أكتوبر 1925 يطلب فيها “إنقاذ حياة الشاعر الشهير سيرجي يسينين، الشاعر الأشهر في اتحادنا السوفيتي”، مقترحا فيها على ديرجينسكي أن يقوم بدعوته إلى مكتبه والتحدث معه، و”إرساله مع مرافقة من جهاز الأمن إلى أحد أماكن الراحة والاستجمام ومنعه من تعاطي الكحول”.

لكن الرد على إيعاز ديرجينسكي باتخاذ اللازم يأتي عبر السكرتير التنفيذي “لقد اتصلت أكثر من مرة به، ولم أستطع العثور على أثر له”. لكن صديقه أوستينوف يعثر على جثّته في فندق في لينينغراد في الخامس والعشرين من ديسمبر لعام 1925، وقد كتب على أوراق وضعت بعناية فائقة “وداعا، صديقي. صديقي وداعا..”. ووفق شهادة فولف إيرليخ فإن يسينين “كان يشكو من فقدانه للحبر في الفندق، فاضطر للكتابة بدمه”.

ما بعد الكبار

نصوص من: آنا أخماتوفا

ـ خلوة:
مرمية فيّ، هكذا، أحجار لا تحد،
ومهملة
حتى لم يعد يمسسني خوف عليّ من سواها.
والبرج المشاد، عاليا، بين البروج العاليات
صار شركا. شكرا لبانيه
دع اكتئاباتها، وانكساراتها تمر
من قبل، من هناك، كنت أرى مطلع الفجر
وهنا يحتفل الشعاع الأخير
وعادة تهب من شبابيك غرفتي، نسائم البحار الشمالية،
وتأكل الحمامات من بين يديّ حبوب القمح.
فيما، هناك صفحة لم تكتمل بعد
سوف تكتبها، بطمأنية وبساطة إلهية،
يد الوحي السمراء.

ـ موت:
على حافة شيء ما كنت،
شيء ليس له اسم حقا..
سلطان النوم الغلاب
الهارب منك.

في تقديمه لأنطولوجيا الشعر الروسي ما بعد هؤلاء الكبار، يلفت عيسى إلى أن ملاحقة تحولات القصيدة الروسية بفاعليتها جمالية كانت أم اجتماعية، تحت وطأة أزمات عميقة هزت أواصر الروح والمجتمع الروسيين برمتيهما، لا بد ستؤرخ للانزياحات الروحية والحياتية معا لهذه الفترة العاصفة انطلاقا من تسعينات القرن الماضي.

طالما كان الشعر الروسي ـ كما عهدناه ـ ديوان مجمل التغييرات والثورات والانكسارات والأحلام وخيبات الآمال والمنعطفات التي شهدها التاريخ والإنسان الروسيان، متقدما بهذا على سواه من ضروب الإبداعات الروسية الخلاقة.

وفي الآونة التي تسيدت فيها التصورات وأنماط التفكير الليبرالية، وتسلطت الأساليب النفعية على أنماط التفكير وفق مقتضيات الحال التي فرضتها السوق، الأمر الذي قاد بعض الأقلام إلى صناعة أدب يستجيب لمزاج ينحاز للقادم من الغرب بتصدير الفكر الفوضوي والفن الغريب عن القيم الروسية العريقة، إلا أن الشعراء الروس الجدد في غالبيتهم واجهوا إعلان “صناع الأدب الجدد” ممن كانوا يمولون “الثقافة الاستهلاكية الهابطة”.

لم يكن بمقدور هذه العقود من الزمن أن يشهد “موت الشعر الروسي القديم” أو إعلان القطيعة مع صورته المجسدة في إبداعات عظمائه مثل بوشكين وليرمنتوف وبلوك ويسينين وأخماتوفا وتسفيتايفا وباسترناك وسواهم، كما أنه لم يشهد أيضا أي شكل يذكر من أشكال فوضى تقليد الشعر الغربي عبر كسر بنى وأدوات التعبير الشعري الروسي العريقة، وظلت أشكال التجديد الشعري تتحرك في دورة العوالم الشعرية الروسية المنفتحة في كافة الأزمنة على التجريب والتعدد والتطوير.

ويرى عيسى أنه تأسيسا على ذلك، فإن “قراءة متأنية لشعر تلك المرحلة ستنحاز للاعتقاد بأن الشعر الروسي الجديد هذا حصن ذاته بذاته، بما تم التأصيل له بإنجازات إبداعية خلاقة سابقة من أشكال أدوات تعبيرية وتصورات وتنظيرات، وقاد حركته في خلق أنماط وأشكال شعرية تلامس ما وراء الحداثة وما تقترحه من انزياحات، وتسبر روح التحولات التي مست الزمان والمكان الروسيين، غير منعزل عن حركة الحداثات الشعرية الإنسانية برمتها”.

13