مفيدة تلاتلي سيّدة المونتاج وسينما الأنثوية الحبيسة

تراكم خبرة المخرجة التونسية الراحلة في المونتاج جعلها يقظة جدا في القطع بين اللقطات والانتقال بين المشاهد.
الأحد 2021/02/21
واقعية بطلاتها نساء

رحلت عن عالمنا مؤخرا المخرجة التونسية مفيدة تلاتلي بعد رحلة سينمائية متميزة تركت أثرها في هذا الميدان، على الرغم من قلة منجزها على صعيد الإخراج السينمائي الذي لم يتعدّ الثلاثة أفلام، نال الحظّ الأكبر من الشهرة والتناول النقدي الفيلم الأول “صمت القصور” من إنتاج سنة 1994.

وإذا أردنا التوقف عند منجز هذه السينمائية المتميزة فلا يمكن لنا إلا أن نتوقف عند تلاتلي المتخصصة بالمونتاج قبل الإخراج، وهو ما انعكس جليا على المنظومة البصرية التي حرصت على التركيز عليها.

تلك الرحلة لامرأة المونتاج كانت قد نضجت على مراحل، تمثلت المرحلة الأولى إبّان دراستها وإقامتها وعملها في فرنسا، ثم كانت المرحلة الثانية والأهم وهي تقديم خلاصة خبرتها ورؤيتها في مجال المونتاج من خلال أفلام لمخرجين مرموقين تعاونت معهم في مونتاج أفلامهم، ومنهم المخرجون مرزاق علواش وفيلمه الشهير “عمر قتلته الرجولة” والطيب وحيشي وفيلمه “ظل الأرض” وميشيل خليفي وفيلمه “الذاكرة الخصبة” ومحمود بن محمود وفيلمه “عبور” وناصر خمير وفيلمه “الهائمون”، وفريد بوغدير وفيلمه “حلفاوين”.

امرأة المونتاج وهي تقدّم فيلمها الروائي الطويل الأول، “صمت القصور”، قيل إنها سوف تتأثر بالمدرسة الفرنسية وبالموجة الجديدة وما إلى ذلك، لكن تلاتلي فاجأت الجميع بما هو خارج عن توقّعاتهم، إنها سينما تلاتلي الخاصة، فهي أولا ذهبت عميقا في البحث الواقعي واليومي، ومنهما استخرجت تلك الشخصيات التي يعصف بها الواقع وتتآكل من الداخل في ما هو يومي.

واقعية خاصة ومميزة أمعنت امرأة المونتاج في تكريسها من خلال الإشباع البصري للمشاهد، فهي منشغلة بالمراقبة وكاميراها راصدة، وهي غير معنية بالإيقاع المتسارع والتحوّلات الدرامية الحادة، ما عدا تلك الشخصيات الذكورية التي تلاحق الأنثوية الحبيسة.

امرأة المونتاج كرست أفلامها لثيمات أنثوية معتمدة على الإشباع البصري للمشاهد عبر المراقبة بكاميرا راصدة
امرأة المونتاج كرست أفلامها لثيمات أنثوية معتمدة على الإشباع البصري للمشاهد عبر المراقبة بكاميرا راصدة

والحاصل أن تراكم خبرة تلاتلي في المونتاج جعلها يقظة جدا في القطع بين اللقطات والانتقال بين المشاهد، فهي تترك للعين المشبعة بما يجري لكي تنتقل إلى ما هو آت.

في “صمت القصور” يتم البناء على ثيمة الأنثوية الحبيسة. القصر والحاشية الأرستقراطية في مقابل الهامش الممثل بالأنثوية الحبيسة، لكل أولئك النسوة العاملات خدما لسادة القصر همومهن العميقة والقاسية التي سوف تشغل الجميع عن إدراك ما هو قائم في الخارج، فهناك صراع مع الفرنسيين في تونس أواخر الخمسينات ومطلع الستينات، لكن ذلك الصراع بكل ما فيه من صخب لا يتناهى إلى النسوة إلا سماعا أو من خلال ما تعكسه تلاتلي من حوار بين الشخصيات الأرستقراطية الخائفة على مصيرها مما هو آت.

تقول تلاتلي في إحدى المقابلات الصحافية معها، أنا مؤمنة جدا بسينما الذات وأعتبر أن نجاح العمل الفني يتوقف أولا وبالذات على صدق صاحبه ومدى تورطه فيه. وعندما أكون بصدد كتابة فيلم تحصل لي تساؤلات في حياتي. في “صمت القصور” تعلق سؤالي بوالدتي، وفي “موسم الرجال” قادتني ابنتي إلى الاطلاع على مشاكل فتيات الجيل الجديد. ومن عادتي أني بعد الكتابة أتفطن إلى أني كتبت أشياء حصلت لي أو تعرض لها فرد من أفراد المحيط الذي أنتمي إليه.

وأضافت شخصية مريم في الفيلم تشبهني كثيرا بل هي أنا وكل ما تعرضت له في الفيلم تعرضت له شخصيا في حياتي وكل ما أثر في حياتي أستعيده سينمائيا وعلاقتي بأمي ساهمت في استفزاز داخلي كثيرا خاصة وأنها قبل وفاتها قد دخلت في فترة صمت دامت سبع سنوات، وهذا الصمت جعلني أتساءل عن مدى تمتعها بحقها في الحياة. ولكني لم أتفطن إلى صمتها إلا متأخرة لذلك ففيلم “صمت القصور” قمت به كي أطلب العفو من أمي.

على وفق تلك الأرضية الواقعية تبني تلاتلي الأحداث وكذلك ترسم ملامح الشخصيات التي تتساوى أو تتقارب في أزماتها، لاسيما وأنها تعيش في الدوامة ذاتها، أنثوية حبيسة الآخر، السيطرة الذكورية المطلقة التي تدعمها سلطوية بالغة الشراسة وفي ذلك الواقع يتم إنعاش التمايز الطبقي الذي لم تكن الفتاة الشابة عالية تدرك أبعاده ولا تفاصليه المرتبطة بالهيمنة البطريركية.

الأنثوية الحبيسة مرة أخرى سوف تحضر وتتكامل أمامنا وهي تبحث لنفسها عن مدارها الخاص وبدائل تمنحها قوة للحياة والاستمرار بعيدا عن المصادرة الذكورية الصارمة.

على أن تجربة مفيدة تلاتلي حتى في فيلمها اللاحق، “موسم الرجال”، لم تتعدّ تلك الأنثوية الحبيسة، ولكن في هذه المرة من خلال مقاربة مختلفة، من خلال أولئك النسوة المنتظرات قدوم الأزواج بعد غياب، إنه الغياب القائم على فيض من الأسئلة التي لا تنتهي والتي ترتبط بالذات والآخر. وتاليا لم تخرج تلاتلي في هذه المرة أيضا عن ذلك الشرط الواقعي الضاغط الذي عنيت به ببلاغة تقترب من اليوميات الوثائقية إلى درجة واقعيته بل الإغراق في الواقعية الذي أرادت من خلاله منح الفيلم وسائر التجربة السينمائية صلة عميقة ومتجذرة مع الحياة.

15