عبدالهادي شلا فلسطيني بلا أطر وطنية جاهزة

يعيش الفنان، أي فنان، غريبا في مجتمعه وبين ناسه وعلى أرضه. أما حين يكون ذلك الفنان مقتلعا من أرضه ومجتمعه وتاريخه فإن غربته تكون مركبة وذات طبقات لا يمكن تصفحها بيسر. وهو ما ينطبق تماما على الفنان الفلسطيني الذي يجمع بين غربة الانتماء وغربة الهوية وغربة شخصية هي من صفاته باعتباره فنانا.
فن عبدالهادي شلا نموذج مثالي في التعبير عن تلك الغربة التي أخذت أبعادا مختلفة. وهي أبعاد تتداخل فيها الأزمنة فيما يظل الإنسان مسافرا بين الأمكنة التي لن يمس واحد منها عاطفته وخياله. يحمل شلا فلسطينه معه أينما حل فهي بالنسبة إليه أشبه بتعويذة سحرية تحفظ له وجوده الاستثنائي وتعِده بالسلامة.
فنه مغامرة حياته
ليست فلسطين بالنسبة إليه كيانًا متخيلاً، بل هي وجود شمولي يتحقق من خلال مفردات صغيرة مستمدة من تطريز الثياب النسائية والسجاد البدوي وسواهما من مفردات الحياة اليومية.
لم يشعر أنه في حاجة إلى رسم لوحات هي أشبه بالملصقات الثورية من أجل أن يكون قريبا إلى قضيته. لقد ترك ذلك لأنواع أخرى من التعبير الفني كالكاريكاتير الذي مارسه الفنان مهنة له في غير مرحلة من مراحل حياته.
ذاكرة شلا تتسع لتكون ملاذا آمنا لماضيه الشخصي وماضي شعبه وكل الحكايات التي يود أن يرويها، إضافة إلى ما لا يتوقعه الآخرون من حكايات
أما الرسم فإنه بالنسبة إلى شلا مجال تعبيري لا يقبل المساومة السطحية، وهو مستقل وحر بشخصيته. لذلك لم يجد الفنان نفسه مضطرا إلى الرسم بواقعية من أجل أن يخاطب جمهورا سبق له أن تعرّف عليه.
بين الرمزية والتجريدية هناك مناطق كثيرة مكث فيها شلا وهو يسعى إلى التعبير عن هويته التي جمع عناصرها عنصرا بعد آخر بطرق تجريبية، فيستعمل ما كان جاهزا منها بأسلوب يهبه حيوية جديدة.
وإذا ما كان الفنان قد استعمل الحرف العربي في لوحاته فليس ذلك من أجل أن يكون حروفيا وليستلهم الحرف جماليا بل لأن الحرفَ عنصرٌ من عناصر الهوية، وهو في لوحات شلا ليس فقط الحرف المرسوم بل الحرف المنطوق أيضا. لقد حاول الفنان أن يرسمه كما لو أنه يحاول نطقه بطرق مختلفة فيلعب بإيقاعاته وتلهمه حركته في الفضاء.
ما من شيء مباشر في ما يظهر على سطوح لوحات شلا. غير أن العين لا تخطئ هويتها الفلسطينية. ربما عن طريق الرمز استطاع الفنان أن يصل إلى هدفه.
ولد شلا عام 1948 في غزة بحي الشجاعية. درس الرسم في القاهرة وتخرّج من كلية الفنون الجميلة، وأقام معرضه الشخصي الأول عام 1973 في ليبيا بطرابلس. بعده أقام أكثر من عشرين معرضا شخصيا في الكويت وبغداد والدوحة ولندن وكندا حيث انتقل للعيش والعمل هناك، وأخيرا في عمان حيث أقام في متحف هندية معرضا استعاديا.
درس الرسم وعمل في الصحف والمجلات رسام كاريكاتير ومخرجا فنيا. وأسس مركز شلا للفنون في كندا عام 2004 وعن ذلك المركز تصدر صحيفة “الصراحة” التي يشرف عليها الفنان بنفسه.
كانت تجربته في العمل مع الفنانين الكويتيين العائدين من البعثات مهمة. فبعد أن انتقل للعيش في الكويت عام 1964 والعودة من القاهرة إلى الكويت وجد الفنان نفسه منغمسا في حياة فنية كانت جديدة عليه وعلى الكويت. تلك كانت واحدة من أهم مراحل مسيرته الفنية وأغناها.
وبالرغم من أن الكويت قد احتضنته بحنان فإنه كان يبحث عن المنفى كاملا. ذلك ما تحقق له حين انتقل للعيش في كندا عام 1995. هناك بدأ شلا في الكتابة الأدبية شعرًا وقَصًّا وفي الكتابة السياسية والفنية.
لقد رسم شلا خارج التقليد الفني المتعارف عليه، فكان عليه أن يبحث عن حياة تقع خارج قوسي اللاجئ التقليدي. ولأنه كان تجريبيا في الفن فقد سعى إلى أن يكون تجريبيا في الحياة أيضا. تعلم من فنه أن تكون حياته مغامرة؛ مغامرة في قول ما لا يتوقعه الآخرون ومغامرة في أن تصدمه تلك الحياة بالمفاجآت في مختلف مستوياتها.
الفلسطيني بروح شرقية
سيكون من الصعب النظر إلى لوحات شلا على أساس ما تحمله من مسحة نضالية وطنية؛ فالرسم بالنسبة إلى شلا يقاتل بمزاج مختلف وفي مكان بعيد عن التصنيفات الجاهزة.
“أهازيج شرقية” كان عنوان معرضه السادس والعشرين الذي أقامه عام 2019 بالكويت. كان الفنان في ذلك المعرض تجريديا خالصا غير أنها التجريدية التي تمد بصرها كما يُقال لتغطي التراث بعنايتها وسمو أحوالها وغموض مفرداتها.
كان لديه الشرق كله وكانت الأبواب مفتوحة بين فضاء وآخر. فالشرق يبدو أحيانا هوية واحدة حين تتم مقارنته بالغرب. ولأن شلا يرغب في توسيع هويته الإنسانية فقد سعى إلى أن يحتفي بشرقيته.
وفي معارض سابقة كان شلا فلسطينيا لكن ليس بطريقة ضاغطة وممنهجة تخضع لما هو سائد من مفاهيم. ذلك هو الفلسطيني الرقيق العاشق الذي يحضر ويغادر بخفة تسبقه رموزه غير المستهلكة وترافقه الإيقاعات التي تكشف عن شعرية عالمه.
لا يجاهر شلا باختلافه عن الفن الوطني الفلسطيني شكلا وأفكارا. فذلك أمر قد يزعجه كثيرا ولا يسرّه. لذلك فإنه يُظهر في كتاباته الفنية تقديره واحترامه لكل لحظة إبداع فلسطينية بغض النظر عن شكلها والمضامين التي اِنطوت عليها.
يقول “إن الفنان بشكل عام يجب أن يتمتع بمصداقية عالية في طرح فكره الذاتي لا فكر المجتمع”. لا يُخفي شلا أنه يفكر في الفن بطريقته الخاصة؛ تلك الطريقة التي تكشف عن اختلافه.
وطنيته المرتجاة من قبل الآخرين يحققها من خلال لغة عالمية صار من خلالها يخاطب جمهورا بعيدا وواسعا لا يقع في متناول يديه. ذلك الجمهور الذي صار يحبه باعتباره فلسطينيا برسالة عالمية؛ الفلسطيني الذي يحضر بخطاب غير متوقع.
الأبيض الذي ينسى
“يرسم لأنه يتذكر” ذلك ما يفكر فيه الآخرون الذين يحاولون الربط في كل لحظة بين شلا وفلسطينيته. الأمر ليس كذلك دائما. وهو ما ينفيه الرسام بنفسه؛ فهو يرسم لأنه يريد أن يعيش. حاضره بكل تحولاته أهم بكثير من ماضيه الذي لا يملك القدرة على تغييره أو التلاعب به. إنه رسام حيوي يعيش لحظة تحوله. يتفاعل مع متغيرات العالم من حوله وينسب الأشياء إلى أصولها في الحياة.
كان في وقت ما قد لجأ إلى اللون الأبيض ليمحو به كل الألوان الأخرى. فالرسام كائن بشري في حاجة إلى أن ينسى. لن يحارب ذاكرته الجماعية بالنسيان، غير أنه سيستعين بالنسيان لكي يكون متأكدا من حاضره. فهو يعيش لكي يرسم ويرسم لكي يستمر في التنفس. تلك هي ضالة الفن
الحي، الفن الذي يبقي خالقه على قيد الحياة.
اتسعت ذاكرة شلا لتكون ملاذا آمنا لماضيه الشخصي وماضي شعبه وكل الحكايات التي يود أن يرويها إضافة إلى ما لا يتوقعه الآخرون من حكايات شخصية لم يكن لها محل في السياق العام القديم.
الفلسطيني يروي حكايته الشخصية التي لا يعرفها أحد. لمَ لا؟ ليست لتلك الحكاية علاقة بالمعاني الكبيرة التي ينتظرها الآخرون أو يفكرون من خلالها. فهي حكاية فرد عاش حياته في غربة تعددت وجوهها وتراكمت طبقاتها وصار عليه أن يخلع أنيابها. سيثبت أن الرسم قادر على أن يهزم الوحش.