نصوص بصرية متعدّدة تسرد مأساة واحدة

المعارض الفنية الجماعية تتّخذ ملامح الفردية في لبنان الجريح.
الجمعة 2021/01/29
جرح لبناني مشترك رسّخته الأزمات

رغم ما يشهده لبنان من مآسٍ متعاقبة على مدار السنتين الماضيتين، إلاّ أن نبض الحياة الفنية لم ينقطع خاصة في مجال الفنون التشكيلية الذي تغيّرت مفرداته من الأمل الباذخ إلى الألم العميق. لكن الذي اختلف، هو شكل المعارض التي باتت جماعية أكثر منها فردية، ناطقة بهوس جماعي يسرد وجعا واحدا وإن اختلفت الأساليب والطروحات الفنية.

بيروت – عاش لبنان ولا يزال مراحل متقطعة من الإقفال العام بسبب انتشار وباء كوفيد – 19 ومحاولة الحد من انتشاره. وفي الفترات الفاصلة ما بين الإقفال وإعادة الفتح شهد البلد بشكل عام وعاصمته بيروت بشكل خاص عودة المعارض الفنية التشكيلية، ولكن بصيغة جديدة تعكس كيف يكتسب صوت الفن كلصيق بحياة البشر وحتى الأقل اعترافا به، نبرة عالية تعيد تنظيم الأولويات وتراتبية الاهتمامات البشرية بشكل يليق بالإنسانية وبهشاشة وجودها على قيد الحياة.

تعتبر الفترة السنوية المُمتدة من شهر أكتوبر إلى نهاية شهر مايو موسما صاخبا للمعارض التشكيلية الفنية في العالم، وليس فقط في لبنان. وتتبعها بعد ذلك فترة يطلق عليها بـ”الموسم الميّت”، حيث تنكفئ الحركة التشكيلية الفنية وصولا إلى انعدامها، إلاّ من بعض معارض جانبية غالبا ما تجمع مجموعة من الفنانين يقدّمون العديد من الأعمال التي ينتقيها أصحاب الصالات الفنية من سلسلة المعارض التي قُدمت في أرجائها أثناء السنة.

إضافة إلى ذلك فمن المعروف أن الكثير من  هذه الصالات تعرض خلال الصيف أعمالا لفنانين مبتدئين كنوع من تقديم خافت النبرة و”جسّ نبض” تلقّي الزائرين، وإن كانوا قلائل لتلك الأعمال سواء من ناحية الأسلوب الفني أو من ناحية المضمون.

منطق مختلف

المعارض الجماعية باتت تنمو وسط صمت إعلامي وغياب جماهيري، وفي كنف الوحشة التي فرضها الخوف من الوباء
المعارض الجماعية باتت تنمو وسط صمت إعلامي وغياب جماهيري، وفي كنف الوحشة التي فرضها الخوف من الوباء

هذه هي باختصار سيرة ومنطق العرض الفني الذي اعتمد منذ العشرات من السنين، لكن الأمر اختلف جذريا اليوم في لبنان بشكل عام وبيروت بشكل خاص.

فمن ناحية شهدت الفترات الفاصلة ما بين الإقفال وإعادة فتح البلد سلسلة من المعارض الجماعية التي كانت تحدث عادة خلال أواخر الربيع والعطلة الصيفية، بينما تنظّم الصالات الفنية المعارض الفردية في معظمها، وقبل عدة سنوات من تحقيقها، خلال موسم الذروة، أي خلال فصل الشتاء.

لكن هذا ليس أهم ما يميّز هذه السنة، فما ميّز هذه المعارض أنها حدثت في زمن تضخّم الأنا وتنامي الفردانية حتى بات البعض يعتمد الفضائحية التي تحوّلهم فجأة إلى نجوم؟

نمت المعارض الجماعية في شبه صمت إعلامي وغياب جماهيري وفي كنف الوحشة التي فرضها الخوف من الوباء، وفي مستنقعات الفقر المتعاظم في البلد، وتحت ظلال الحزن العميق الذي كرّس بنيانه انفجار مرفأ بيروت وطمس حقائق وحيثيات حدوثه عمدا لأسباب سياسية فائحة بالخذلان والفساد.

نمت المعارض الجماعية وكان نموها مميّزا وجامعا، لأنها استقطبت فنانين اختبروا ذات الظروف القاسية، كل بأسلوبه الخاص، مُفشين في أعمالهم عن قلق ورعب وحزن واحد تمثل في تباعد المواقف الفنية – الفكرية تجاهها.

تباعد واختلاف من ضمن أجواء المنظومة الواحدة ساهما في تشكيل قيمة العروض الجماعية وفي تكريس منطق الأجزاء التي تُشكل الكل وفي مبدأ أن الكُل، كالجسد البشري والنظام الكوني، لا يكون في أقصى شموليته في تظهير العذاب البشري إلاّ حين يكون منسوجا بخيوط مختلفة. خيوط  تبدو في معظمها متنافرة ولكنها في حقيقتها تجليات ثمينة لأبعاد جديدة تُساهم في تشكيل نظرة الإنسان إلى ذاته من جديد وإلى ما قد يعيد للحياة الفنية رونقها السابق.

هاجس وجودي

لا شيء تغيّر.. سوى استمرار الأحزان
لا شيء تغيّر.. سوى استمرار الأحزان

شهدت بيروت ومازالت تشهد كيف تصبح المعارض الجماعية، فردية. تنطق بالفرد وأحواله، لأنها تنطق بالجماعة ومخاوفها وآمالها.

يعود إلى الذاكرة، وبكل قوة، المعرض الذي قدّمته صالة “آرت لاب” البيروتية التي دُمرت قبل أن يُعاد بناؤها. معرض يلقي الضوء على قدرة المعرض الفني الجماعي على أن يكون فرديا، لأنه يتمحور حول هاجس وجودي واحد تبلور في زمن واحد، ويشير إلى أن اختلاف الأسلوب ليس إلاّ اختلاف وجهة نظر يغني التجربة الفنية والوجودية على السواء.

جمع المعرض الذي حدث سنة 2017 في “آرت لاب” زوجين إيرانيين خطّا نصين بصريين لمأساة واحدة، وهي وفاة شقيق الفنانة الذي قضى في ظروف لم يتطرّق إليها كلا الفنانين: فاطمة باشا وزوجها الفنان إحسان أرجمند.

وإلى جانب كونه معرضا حاكى مشاعر الفقد والحزن العميق المُترتّب على غياب شخص حبيب، فقد كان معرضا نموذجيا لناحية تقديمه لنصّين مغايرين تماما أمام مأساة واحدة ومشتركة.

ومن هذه المعارض أيضا، المعرض الذي أقامته صالة “آرت أون 56 ستريت” وأطلقت عليه عنوان “آرت أون 56 ستريت. العودة”، أي العودة بعد دمار الصالة إثر انفجار بيروت. وضم المعرض عدة أعمال مؤثرة لمجموعة من الفنانين.

ونذكر أيضا المعرض الجماعي الذي أقيم في “فيلا عودة” تحت عنوان “الفن الجريح” وضم أعمالا فنية غالبيتها تعود إلى فنانين لبنانيين. وجاء المعرض كنوع من الاستذكار والتخليد لشهداء وجرحى وضحايا تفجير بيروت.

ونذكر من المعارض الجماعية تلك التي نظمتها الفنانة لوما رباح مع الفنانين سمعان خوام وفادي شماعة، حيث أرادوا أن تجمعهم ورشة عمل واحدة على مرأى من بعضهم البعض لينشغل كل منهم بمنجزه الفني الخاص، ثم التقوا تحت معرض عنوانه “الأصحاب أولا”.

الداخل إلى تلك المعارض الجماعية هو مُحمّل بجراحه الخاصة، وسيرى بعض أو أحد مظاهرها متجليا في عمل فني يؤكّد له أن ما يعرفه أو ما عاشه ويعيشه هو حقيقة ضاربة جذورها في الوجدان اللبناني، لا بل الوجدان الإنساني عامة.

17