رقم مليوني لفتاوى تؤكد أمراضا اجتماعية

في المجتمعات المريضة تتناسل السجون وتضيق بالظالمين والأبرياء، ولا تجدي كثرة الفتاوى التي تحاصر المسلم في كافة وسائل الإعلام.
الأربعاء 2021/01/27
كثرة الفتاوى لا تصلح حال البلاد والعباد

وثّق فيلم تسجيلي أذيع في مؤتمر حافل لدار الإفتاء المصرية، الاثنين 28 ديسمبر 2020، “نجاحات الدار” في نموّ الفتاوى خلال السنة الكورونية الكبيسة، لتزيد على مليون و300 ألف فتوى، “بزيادة تقدّر بمئتي ألف فتوى عن العام الماضي”.

وبالطبع لم يشمل هذا الرقم القياسي فتاوى الأيام الأربعة المتبقية من عام 2020، وبهذا يبلغ نصيب اليوم الواحد 3590 فتوى، بمعدل 150 فتوى في الساعة، وأكثر من خمس فتاوى كل دقيقتين لفريق يتناوب على ضخّ الفتاوى، طوال 24 ساعة.

ولم يلفت هذا الرقم متخصصين في علوم النفس والاجتماع مهمتهم تقصّي الأسباب الاقتصادية والسياسية والنفسية المؤدية إلى أمراض عضوية، يستعصي علاجها على الأطباء وحدهم.

لم أجد مفتيا في وسائل الإعلام، ومنها الإفتاء المباشر في وسائل الاتصال الإلكتروني، يعتذر عن عدم الإجابة عن أي سؤال، حتى يراجع ويبحث

يمكن النظر إلى هذا الرقم الإفتائي القياسي كأحد الغرائب المصرية التي يفضل عدم الإعلان عنها، بدلا من اعتباره دليلا على الإنجاز، ومصدرا للفخر بزيادة رصيد “كشف الإنتاج” لموظف مخزنجي يهوى مراكمة الأدوية وتصنيفها، ولا يعي أنها تجليات لأمراض عامة يحتاج الشفاء منها إلى كفاءات بشرية تمتلك مهارات تتجاوز الزهو باقتناء أدوية لا تعالج أصل الداء، وتمنح المرضى تخديرا مؤقتا للجراح.

تماما مثلما يجادل الشيوخ بأن كثرة عدد أنبياء بني إسرائيل إدانة لأولئك “الضالّين”، ودليل حاجتهم إلى منقذين يهدونهم سبيل الرشاد. وبعيدا عن العدد غير المعلن لجيش الفتوى وميزانيته، يمكن لمواطن أن يسأل: ما حاجتنا إلى هذا السيل من “الإنتاج” المليوني؟

لست مضطرا، لكي أفوّت على المرضى فرصة التربص، أن أقول إن ما أكتبه ليس خوضا في شأن ديني، ولا يمس العقيدة أو أحكام الشريعة والعبادات وأركان الإسلام الخمسة. وإنما هو نظرة إلى بيئة اجتماعية ونفسية تشجّع على الشعور بالمرض، ثم تغري المرضى باللجوء إلى الفتوى في شؤون تستحق وقد لا تستحق، بما يوحي لمن لا يعرف الإسلام أنه دين شديد الإلغاز، ويلزم استيعابَ تعقيداته الكهنوتية أكثر من مليون و300 ألف فتوى سنويا في مصر وحدها. ولكن الدين يُسر، وقد ردّ الرسول على من سأله: قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك، فقال “قل آمنت بالله ثم استقم”.

توالت الأسئلة عن رأي الدين في الحاكم الظالم، وتستفتي في حكم بناء الكباري وإهمال الصحة، وأيهما أولى بمقاصد الشرع: بناء مستشفيات ومدارس أمْ عاصمة جديدة؟ ولم تردّ دار الإفتاء بإجابات شرعية على الجمهور، واكتفت بحذف المنشور والصورة والأسئلة

عاشت أجيال من المسلمين وصحّ إسلامها، قبل جمع الحديث النبوي، وقبل المئات من السنين من تأسيس دور للإفتاء تباهي بغزارة “كشف الإنتاج”. في المجتمعات السوية يتضاءل عدد السجون، ويختفي تشنّج “المواطنين” بتديّن شكلي يؤكد النفاق الاجتماعي، ويدفع الإنسان إلى مراقبة منسوب إيمان الآخرين.

وفي المجتمعات المريضة تزدحم المحاكم بطالبي العدل، وتتناسل السجون وتضيق بالظالمين والأبرياء، ولا تجدي كثرة الفتاوى التي تحاصر المسلم في كافة وسائل الإعلام، وتقتحم نوافذ بيته قافزة من ميكروفون الجامع.

أتوقف أمام الرقم المليوني الحالي للفتاوى، وأتذكر أن فتاوى الإمام محمد عبده، مفتي مصر، بلغت في نحو ست سنوات 944 فتوى. شُغلٌ يتم “إنجازه” الآن في وردية واحدة.

يتعلم طلاب كلية الطب صون كبرياء المهنة، وألا يعرّضوا هيبة العلم للابتذال، فتتشوه الصورة الذهنية بوقوف أحدهم في شارع، ليلتقط ورقة ويكتب علاجا لكل من يقابله شاكيا ألما، فهذا الاستسهال هو أحد صور الابتذال. وعلى المريض أن يتحمل مشقة الذهاب إلى طبيب ربما لا يجده في احتياج إلى علاج، وكثرة الأدوية أحيانا تشكك أحيانا في كفاءة الطبيب.

 ولم أجد مفتيا في وسائل الإعلام، ومنها الإفتاء المباشر في وسائل الاتصال الإلكتروني، يعتذر عن عدم الإجابة عن أي سؤال، حتى يراجع ويبحث. دائما توجد إجابات جاهزة، وهذا يعيدنا إلى أولى فتاوى الإمام محمد عبده بعد توليه منصب المفتي في 3 يونيو 1899.

أرسلت إليه محكمة الاستئناف الأهلية 75 ورقة تتضمن اتهام مواطن بقتل آخر عمدا مع سبق الإصرار. وحددت المحكمة جلسة 15 يونيو 1899 لصدور الحكم. والمفتي عادة يصدّق على أحكام الإعدام، ورأيه استشاري. ولكن الإمام كتب إلى المحكمة أنه وجد على المتهم “كثيرا من القرائن التي تدل على ارتكابه جريمة القتل، لكنها مع كثرتها لا تكفي الحكم عليه بعقوبة الإعدام، لأن اليقين لا يبلغ بها إلى الحد الذي يسوّغ الحكم بعقوبة لا يمكن تدارك الخطأ فيها لو ظهر بعد ذلك بسبب ما من الأسباب، خصوصا ودلائل سبق الإصرار غير متوفرة، لجواز أن يكون خاطر الجناية ورد بذهن القاتل عند امتناع المقتول عن إعطائه النقود التي طلبها منه، ولا يسهل القطع بأنه كان عازما على قتله عند الامتناع”.

في المجتمعات السوية يتضاءل عدد السجون، ويختفي تشنّج “المواطنين” بتديّن شكلي يؤكد النفاق الاجتماعي، ويدفع الإنسان إلى مراقبة منسوب إيمان الآخرين

أشفقت على دار الإفتاء حين عرفت من هذا الفيلم التسجيلي أنها أنشأت وحدة للفتاوى القصيرة، مصحوبة بالرسوم المتحركة، وتم إنتاج 156 من أفلام الرسوم المتحركة؛ للرد على أفكار “جماعات الظلام ودحضها بطريقة ميسرة”. ألا يقلل هذا العمل من هيبة الفتوى، ويقترب من حدود الدعاية السياسية؟

أرجو أن يجانبني الصواب في هذا الإشفاق، ولكن الفيلم عدّد إنجازات الدار ومنها إصدار “المؤشر العالمي للفتوى”، وهو خارطة تحليلية لخطاب الفتوى في العالم عام 2020، ومن أبرزها فايروس كورونا والتنظيمات المتطرفة والإلحاد والإسلاموفوبيا. ولم تتضمن خارطة هذا المؤشر قضية الاستبداد السياسي وآثارها في إزهاق الأرواح اعتقالا وقتلا وإهمالا. فما المسافة هنا بين الديني والسياسي؟

أتمنى اقتصار الفتوى على أمور لا يستقيم إسلام المسلم إلا بمعرفتها، لا إلى لغْو القول. ويكفي قراءة فتاوى في مواقع الفتوى الكثيرة لمعرفة طبيعة هذا اللغْو. وإشفاقي على دار الإفتاء يشمل المفتي الدكتور شوقي علام الذي فرح في المؤتمر بكثافة الإقبال الجماهيري على دار الإفتاء خلال عام 2020، ورآه دليل ثقة الشعب “في المؤسسات الدينية، وعدم استجابته للشائعات والفتاوى المغرضة التي تروجها الجماعات الإرهابية”.

أشفق على المفتي من وعي تأسس في 25 يناير 2011، ومن علاماته ردود الفعل على نشر دار الإفتاء، الأحد 3 يناير 2021، في صفحتها الرسمية صورة لممرضة مذعورة لموت أربعة مصابين بفايروس كورونا، بسبب نفاد الأكسجين.

عاشت أجيال من المسلمين وصحّ إسلامها، قبل جمع الحديث النبوي، وقبل المئات من السنين من تأسيس دور للإفتاء تباهي بغزارة "كشف الإنتاج"

أصبحت صورة الممرضة أيقونة تشبه لوحة “الصرخة” للنرويجي إدوارد مونك، وتناقلتها وسائل التواصل الاجتماعي، ضمن مقطع فيديو مدته 45 ثانية، من داخل قسم العناية المركزة بمستشفى الحسينية بمحافظة الشرقية، في 2 يناير 2021، مع صرخة “كل الناس ماتوا، كل من هو في العناية توفي”. وكتبت دار الإفتاء تحت صورة الممرضة توعية بأهمية الوقاية من الفايروس، لتفادي الإصابة، وإشادة بتضحيات أعضاء الفرق الطبية.

وتوالت الأسئلة عن رأي الدين في الحاكم الظالم، وتستفتي في حكم بناء الكباري وإهمال الصحة، وأيهما أولى بمقاصد الشرع: بناء مستشفيات ومدارس أمْ عاصمة جديدة؟ ولم تردّ دار الإفتاء بإجابات شرعية على الجمهور، واكتفت بحذف المنشور والصورة والأسئلة.

13