حسان بورقية فنان مغربي يشيّد متاهة بورخيسية

بورقية يعيد تنظيم الخراب وتشكيل الذاكرة من الرماد.
الأحد 2021/01/24
الإبداع لا حدود له

لم يعد رهان الفن التشكيلي المعاصر إبلاغ رسالة ما أو تخليد جمالية ما، أو حتى الاكتفاء بذات فنانه ورؤاه. بل انفتح على مجاهل جديدة أعادت نثر أجزائه، وجعلت منه الفضاء الكوني لكل المتلقين، الذين يمكنهم إعادة تشكيله وفق رؤاهم بدورهم، وإعادة إنتاجه من جديد. فالفن المعاصر خلق متجدد لا يطمح إلى الخلود فحسب، بل إلى الفاعلية كذلك، ومن بعدها يمكنه الاندثار كأثر مادي ليصبح فكرة.

قد يكون من العصيّ والصعب التطرق إلى تجربة إبداعية متعددة المشارب وكثيرة الروافد، تستقي من منابع عدة ما يغذيها وينعشها، أي ما يمنحها كينونة مفتوحة على كل الاحتمالات والإمكانيات، إن ابتغينا تحرّي لغة أكثر دقة.

التعدّد، أو لنقل التشظّي، ارتباطا باصطلاحات ومفاهيم ما بعد الحداثة والمعاصرة، يمنح لصاحبه القدرة على رؤية العالم من زوايا وأوجه مختلفة تعزز بحثه وتغني أساليبه التعبيرية، التي تصير “مرايا محدبة” تعكس العالم ليس كما نراه أو كما ينبغي له أن يُرى مثلما يذهب إليه البعض، لكن كما يُعلن عن نفسه في صيغ التأويل المتعدّد والمفرط، في ذهن المتلقي. أي انطلاقا من تعاطي المتلقي للعمل الفني، باعتباره مرآة تأويلية للعالم بكل تجلياته وتعدّده وتشظّيه، عبر تلك الدهشة وتلك الصدمة المتولدتين عن فعل “تلقي” الأثر.

من هذا المعطى بالتحديد يحق لنا أن نعبر إلى متاهات أعمال الفنان التشكيلي المغربي حسان بورقية، هذا الفنان الذي لا تتوقف يده عند حدّ الرسم أو التشكيل، بصيغة عامة، بل تتعداهما إلى الإبداع عبر أشكال متعددة داخل عوالم هذا الهلامي المسمى “إبداعا”، من خلال الكتابة السردية ومن خلال عوالم الفلسفة كتابة أو ترجمة. وهو ما يلقي بأنواره على أعمال بورقية وما يجعلها مكثفة بالدلالات وغنية بإمكانات التأويل.

كل عمل فني غير قابل للتأويل وإعادة التأويل بشكل مضاعف، يكاد لا يعدّ عملا فنيا. وكأن العمل يعيد بناء نفسه من “أنقاض” خرابه داخل مخيلة وتفكير كل متلق، فيغدو الفنان مشكّلا أعماله بأياد متعددة في كل محطة تأويل ممكنة.

الخراب والصفح

مكتبة الذاكرة بتفاصيلٍ رمادية
مكتبة الذاكرة بتفاصيلٍ رمادية

“باسمي” أو “بفعلي” أو”بيدي”، “ما اقترفته” إن أردنا القول، هذا ما يطالعنا ونحن نقرأ عنوان هذا المعرض الذي اختاره حسان بورقية بالفرنسية “au nom des miens”، في دار العرض “كـونـتـوار ديمين غاليري” (Comptoir des mines galerie)، بمدينة مراكش، المستمر إلى غاية 28 فبراير 2021؛ ويا له من عنوان “مدوٍّ” يشدّ الأسماع والأذهان إليه.

 وإنك لَتشعر وأنت إزاء هذا المعرض أن شيئا من الألم مرتبط بفعل أو حدث “صادم”، ينبع من الأعمال، نوع من استحضار الذاكرة بكل تشظياتها وكل ما ترسّخ فيها من تفاصيل واضحة وأخرى ضبابية، غاية الطلب بـ”الصفح” عن أمر ما، لم يكن بالهين على الفنان؛ فأعماله نابعة من الداخل من ذكرياته وخلاصة حياته الفكرية والمعيشية، وليست نابعة من تجارب “مخبرية” في ورشة ما بعيدة عن “ضجيج” الداخل والعالم الخارجي، كما يعمد البعض إلى فعله؛ فلأي سبب قد يطالب الفنان بالصفح؟

 قبل أن نحاول تفكيك وتحليل هذا السؤال وهذا المفهوم، علينا أن نقول إن بورقية يضعنا في هذا المعرض أمام ذكرياته ولقاءاته ومقرؤيته وأفكاره ورؤيته للعالم… إزاء عالمه كما تطوّر وكبُر عبر السنوات والتجارب والخبرات، ليُشاطرنا شخصيته وإبداعاته.

هو نوع من التقاسم الحر الذي يحاول عبره الفنان أن يتخلص من “ثقل ما”، لا يهمنا ما هو، بقدر ما يهمنا مفهوم الصفح، هذا الشائك والمعقد الذي نقرأه من خلال التطلع إلى “الآثار/ الخرائب” التي يعرضها كمشاهد سينمائية تتحرى الاستحضار والتذكر لا النسيان.

أو كما يقول الزعيم الراحل نيلسون مانديلا “نعم للصفح، لا للنسيان”؛ وإن الصفح تحقيق للمستحيل مع عدم إمكانية إقامة النسيان، كما يذهب فيلسوف التفكيك جاك دريدا، إذ لا بد من أثر دائم وخالد، أثر ينعش الذاكرة ويبقيها قيد “التذكر” الدائم، حتى نستطيع الصفح وتحقيق هذا اللا-ممكن (im-possible).

يحررنا فعل الصفح ويجعلنا قادرين على التحليق من جديد في سماوات هذا العالم، دونما انتظار لغفران ما في عالم آخر. فعكس الغفران والهبة يأتي الصفح باعتباره فعلا دنيويا متعلقا بـ”الهُنا والآن”، بالإنساني في علاقاته “الإنسانية المفرطة”. إن الصفح تحقيق لما لا يقبل الصفح، بتعبير دريدا، من حيث إنه تحقيق للمستحيل لما يستحيل جبر ضرره، وما لا يُحمى، العضال، ما لا رجعة فيه، وما لا ينسى وما لا يُلغه، وما لا يقبل التكفير.

الفنان يشيّد أعماله تبعا لفكر مخرّب لتصير اللوحة فيه طريقا إلى اللاّلوحة، وتسافر من اللارسم إلى رسم آخر

 إنه نفي لكل تلك الـ”لاءات”، إنه إحياء لماض فينا، والتصالح معه ومع الذات، مع ما اقترفناه ولا رجعة فيه، فما وقع قد وقع، وقد بات “آثارا” وخرابا – وكم هذا المعرض عامر به! – علينا التعايش معه. ولأن العالم منذور إلى السيرورة والصيرورة معا، فلا بد من العيش والاستمرار في الحياة، والبقاء قيدها ما استطعنا، رغما عن كل ما اقترفته “أيادي القدر” من خراب، يصير أنقاضا وآثارا كما يعرضها على طول جدران المعرض حسان بورقية.

هذا ما نقرأه ونحن نطالع الأعمال التي ترسم معالم الـ”ذاكرة” الفنية، الخاصة بصاحب المعرض، ومعالم المعرض ككل، من حيث إنه حدث فني متكامل بالمعنى الفني المعاصر.

عن هذا الخراب، يقول الفنان في رسالة “منه إليه”، “اخترتَ مادتك كطريقة في الثناء، ردمتَ الوجود في الخرابات، ليس حبا فيها، كما يقول والتر بنيامين، بل حبا في الطريق التي تفتحها هذه الأخيرة. لقد كان استنطاقُ عيّنات من التراب واحدا من أهداف عملك في البداية، سنوات خلت، لم يكن ذلك مسألة تقنية فحسب، إنما كان عملا من صميم بحثك وموضوعه… خصوصا أن التراب متعددُ المعاني والدلالات والهويات، من المسكون بالتاريخ، بآثار الناس، بأحلامهم المتمنعة، بعرقهم، بدمهم، برغائبهم المعلقة”.

صيغة المخاطبة، في هذه الرسالة السير ذاتية، تحمل من الدلالات العميقة الكثير، كأن الفنان يحاول أن يخرج “أناه”، ويضعها إزاء كل ذلك “الحطام” الدفين، وأن يحاول مساءلتها، لا محاسبتها.

 لا نحاول هنا استقراء الأعمال والمعرض/ الحدث من ناحية سيكولوجية، بقدر ما نحاول مطالعته بما تقدمه هي نفسها إلينا من إمكانيات تأويلية. ما يقودنا من عالم إلى عالم، ومن باب إلى باب، ومن مشهد إلى آخر، ومن عمل إلى عمل ثان… كأننا في متاهة بورخيسية يستحيل الخروج منها.

وكأني به هذا ما يذهب إليه الفنان وهو يقول “تبعا لفكر «مخرِّب» تصير اللوحة فيه طريقا إلى اللاّلوحة، وتسافر من اللارسم إلى رسم آخر”. وتصير الصورة مسلكا بصريا إلى الماضي، وخاصة ونحن ننظر إلى عمله التنصيبي (ذاكرة اللامرغوب فيهم) الذي يحضر كتنصيب/ نُصب لمكتبة الذاكرة بتفاصيل رمادية من صور لمشاهير فكرية أثرت على مسار الفنان، وصور العائلة وغيرها من المفردات الأخرى.

ذاكرة من رماد والصدأ

حسان بورقية ينثر رماده على كل آثاره التي تتجاوز حدود المألوف، وكأني به يحاول أن يعيد إحياء شيء ما دفين فيه
حسان بورقية ينثر رماده على كل آثاره التي تتجاوز حدود المألوف، وكأني به يحاول أن يعيد إحياء شيء ما دفين فيه

ليَعذرني القارئ والفنان، عن حديثي المطول عن مفهوم الصفح ونحن إزاء هذه الأعمال البصرية التي تدعونا إلى قراءات سميائية أو تحليل وتفكيك بصري لها، لكن للعمل الفني قوته الخفية التي تُجبرك على الخوض في ما هو يريد أحيانا، فشرط التأويل ليس رهينا بالمتلقي فحسب، صاحب المقال في الحالة هذه، بل بالعمل أساسا من حيث إن قراءته رهينة بما يفرضه عليك وأنت تقف إزاءه متأملا.

هكذا وجدتني وأنا أقرأ بصريا هذه الأعمال، وكأن صوتا ما يهمس في أذني ويقول هذا هو مفتاح تلقيها. لكن دعونا نرجع إلى العمل ونحاول أن نقرأ شظاياه في وسط كل ذلك الخراب المنتشر على طول الجدران وعلى أرض المعرض.

 ينثر حسان بورقية رماده على كل آثاره، وكأني به يحاول أن يعيد إحياء شيء ما دفين فيه، في محاولة تعرج بنا إلى أسطورة العنقاء، ذلك الطائر الذي يعود إلى الحياة من رماد احتراقه. احتراق الذاكرة في هذه الحالة، إن أسعفنا التحليل، ذاكرة الفنان الذي يمدّ شريطها على مدى الأعمال المعروضة.

رماد وصدأ وورق وأقفاص ورسائل ومتلاشيات ومِزَقٌ وألواح نوافذ وأبواب ولُقى وصُور ومروحة وأشياء أخرى… متناثرة في خراب “الحدث – المعرض”، ترسم لنا كرطوغرافيا وسيمياء لكون آثاره/ ذاكرته، حيث تتخطى اللوحة حضورها المعتاد إلى مسمى جديد: ميتا – لوحة. لوحة ما ورائية ومتجاوزة، لوحة بعدية بتعبير آهل الفن المعاصر؛ تخترق وتتجاوز الجدار لتغدو تنصيبات مصغرة (mini-installations) معلقة.

 لهذا أجدني أصنف الفنان في خانة المغامرة أيضا، لا المعاصرة فحسب، لا أعني أن هذه الأعمال لا تلامس ما بعد الحداثة، بل إنها تنبع منها وتنتعش فيها، غير أنها لا تقف عند تيار واحد وتستكين إليه، بل إنها تُبحر في خضم الصعب والعصي، فبورقية يشتغل على أعماله كبحار المحيطات حيث “لا يركب من لا يغامر”.

ببب

سمة هذه الأعمال المغامرة إذن، لكن عنوانها البارز هو الذاكرة، فلم يكن من باب الصدفة أن نجد أعمالا تحمل عناوين ذات صلة بالأم والأب والذاكرة والطفولة… “أثر أمي”، “قهوة مع أمي”، “قلعة أبي”، “ذكريات عيد ميلاد”، “اللعب”، “السرك”، “رغبة الذاكرة”، “الزمن”.

 بالإضافة إلى ذلك توجد عناوين أخرى لا نراها مختارة من باب العبث، بل إنها تأتي من البعيد في الذاكرة، ذلك الدفين، المتعلق بكل ما ذكرناه سلفا؛ كالمستشفى والسفر والارتحال والكرسي… وكلها مفاهيم يمكن ربطها بالبعد النفسي الذي أشرنا إليه، والذي يرتبط بالدفين الذي نرغب في الإفصاح عنه وتذكره. فالفنان هنا يحاول أن يرتب الخراب، في عمارة معرضه هذه، أو لنقل “فيلمه السير ذاتي”، حيث إن كل لوحة – تنصيبة (إن صح هذا التعبير) هي متوالية سينمائية شذرية (fragment)، تنعم باستقلاليتها الذاتية وتعمل على إكمال تفاصيل السرد، في الوقت عينه.

يتقاطع في جل الأعمال المعروضة الصدأ مع الرماد، تآكل الذاكرة مع إعادة إحيائها (لنعد إلى أسطورة العنقاء)، نوع من الاضمحلال مع الانبعاث، الرحيل مع العودة، وإقامة في الباقي لكن عبر إعماره وإحيائه. فالفنان لا يهرب من الماضي ولا يجعله حاضرا، فالماضي يظل ماضيا لا رجعة فيه، بل إنه يحاول أن يعيد ترتيب تفاصيله/ خرابه، بما استطاع من “محبة الحياة”، ولو اضطرّ إلى أن يقيم “حدادا جديدا” (عنوان إحدى أعماله)، لهذا يضعنا إزاء أقفاص صدئة ومخربة خالية من عصافيرها، فالحرية تقع هناك خارج كل هذا “الأثر” الذي لا يحضر إلا باعتباره “علامة” لما كان.

 وإننا لا نستطيع قراءة الكون إلا من خلال علاماته/ آثاره التي يتركها لنا بفعل “الزمن”، بل إن كل ما نراه هو “ماض” فلا وجود إلا لما مضى وما سيأتي، أمّا الحاضر فعابر ومنفلت، وهذا العبور والانفلات هو ما تعبّر عنه هشاشة الورق والصور الملصقة (marouflé) فوق سند العمل، وحضور الصدأ وطغيان الرماد على مدى هذا الحدث/ الفيلم/ المعرض / الذاكرة.

14