على الأدباء العرب إعادة الاعتبار إلى الرواية الكوميدية

الكتابة الساخرة ليست أقل شأنا من التراجيديا وهي أسلوب إبداعي يتفوق على غيره من القوالب الأخرى.
الأحد 2021/01/17
السخرية تمنح الشخصيات أبعادا أخرى (لوحة للفنان غسان العويس)

من الأخطاء الشائعة الاعتقاد بأن الكوميديا أقل درجة من التراجيديا، وهذا ما تفطن له الكثير من الكتّاب وخاصة الروائيين، الذين استغلوا قدرات الكوميديا الكبيرة إمّا للكتابة فيها والتحايل على الكسل العقلي لدى جمهور القراء، وإمّا لضيق الموارد في الساحة الفكرية حتى يطرحوا أفكارهم في ثوب مقبول فيدفعوا القارئ دفعا على التفكير فيها، وإمّا لترصيع أعمالهم بمقاطع ساخرة، كسبا للقراء ومقاومة الملل لديهم. إذن السخرية كما سنرى لها عمق تاريخي ضارب في القدم، كما أنها أسلوب إبداعي يضاهي بل ويتفوق على غيره من القوالب الأخرى.

لماذا تكثر الكتابات الساخرة في المكتبة العربية، فيما تتوارى الرواية الكوميدية حتى لتكاد تتلاشى تماما من المشهد؟ هل علينا أن نُعيد النظر في تقييمنا للأدب الساخر، وفهْمنا لفلسفة الإضحاك والتهكّم، ولقدرة الكوميديا على التأثير النفسي والاجتماعي، وحتى السياسي؟ ألا نُعيد الاعتبار إلى التجارب الروائية التي تنحاز إلى السخرية والهزل في تقديم رؤاها وشخصياتها؟

فن السخرية والإضحاك، من بين أقدم الفنون التي عرفها البشر منذ فجر الحضارة؛ فالإنسان كائن اجتماعي، اعتمد في بقائه ورفاهه على الروابط الاجتماعية، وعلى كسب التعاطف والتأييد من الأقران، ولذلك تطوَّرَت قدرات البشر العقلية على حساب إمكاناتهم الجسمانية، وصاروا يعتمدون في الحصول على الزعامة والمكانة على عقولهم وذكائهم الاجتماعي، بدرجة تفوق اعتمادهم على القوة والكفاءة البدنية.

السخرية هي من أهم مظاهر الذكاء البشري ونِتاجه، إذ تعتمد على المفارقة والملاحظة وبلاغة الصياغة، وتُسهِم في حصول الفرد على المكانة والقبول بداخل الجماعة، كما تُعَدُّ من أهم الأسلحة الاجتماعية في الهجوم على الخصوم، بما تحويه من تقليل لشأنهم وقدْح في مكانتهم.

لذا تطوَّرت هذه القدرة مع نشوء المجتمعات الأكثر تعقيدا، ثم صارت فنّا له قواعد وأصول راسخة، حين تحوَّلَت الأعياد الدينية البهيجة إلى شكل احتفاليّ وكرنفاليّ، حيث يُقدِّم المتخصصون عروضا مضحكة لجمهور المحتفِلين.

مصريون وإغريق

ربما يكون المصريون القدامى أول من فكَّر ونظَّر في مسألة السخرية، وما يرتبط بها من نوازع نفسية ودوافع عميقة، وقد تجسَّدَت نظريتهم هذه في ابتكار “الإله بِس”، الذي كان يُصوَّر في العديد من النماذج والمنحوتات على هيئة قزمٍ ضاحك منتفخ الوجنتين، ما يشير إلى كونه إلها للضحك واللذّة، وفي نماذج أخرى كحامٍ للأطفال الصغار والنساء الحوامل أثناء الولادة، وللنائمين حتى يستيقظوا. وربط المصري القديم بين الإضحاك والكوميديا، والحماية من الضعف والألم والأحلام المفزعة.

رواية تعالج صراعات السلطة والعشق والمال
رواية تعالج صراعات السلطة والعشق والمال

ثم جاء الإغريق بنظريتهم حول الضحك والسخرية، تلك التي توَّجها أرسطو في مؤلَّفه الذي تناول فيه مسائل الكتابة الدرامية، “فن الشعر”، حيث فسَّر الضحك أثناء العروض الكوميدية بأنه نوعٌ من تطهير الذات، إذ يضحك المتلقّي من نفسه ومن خيباته ونقائصه، وليس من الممثِّل المشارك في العرض الكوميدي، حيث يتوحَّد المتفرِّج مع الممثل ويشعر بإمكانية وجوده في مكانه.

لنا أن نرى امتداد النظرية الأرسطية الإغريقية في مؤلَّفات فرويد وغيره من رواد نظرية التحليل النفسي، إذ يرون أن الضحك تنفيسٌ عن المشاعر السلبية المكبوتة في النفس البشرية، والناجمة عن المخاوف والتجارب المؤلمة.

بتطبيق هذه النظرية على الدراما الكوميدية، نَخلُص إلى كون الضحك على المواقف الكوميدية هو تعبير عن ارتياح نتيجة تجنُّب هذه المواقف المؤلمة والمخجلة، أو بسبب المرور بمثلها في السابق دون خسائر دائمة.

مع كل الأهمية التي تنطوي عليها الكوميديا والكتابة الساخرة، من حيث التنفيس عن مخاوف وآلام المتفرّجين والترويح عن نفوسهم، فإنها عادة ما توضَع في مكانة أقل، حين تُقارَن بالدراما التراجيدية.

فمنذ زمن الإغريق، الذين هم أول مَن أسس الدراما المسرحية ووظَّفها في توجيه الجموع، كان كُتّاب الكوميديا يتموضعون في مكانة أدنى من كُتّاب التراجيديا، وهذا ما أظنه لا يزال ساريا إلى اليوم.

ومهما كان للكوميديا والسخرية من تأثير وجاذبية، فإن قدرة التراجيديا على إثارة المشاعر الإنسانية وتحريك النوازع النفسية، تجعلها الأكثر تأثيرا على المتلَقّين والأهمّ تشكيلا لسلوكياتهم.

لذلك انحصرَت أعلام الكتابة الروائية الكوميدية، أوالساخرة، في عدد محدود من الكُتّاب المشاهير عبر التاريخ، من أمثال هنري فيلدنج ومارك توين، فيما اتَّسعت دائرة الروائيين الجادين لتشمل المئات من الأسماء الهامة في شتى بقاع الأرض. وقلَّما نسمع عن اعتراف عالمي بموهبة أديب ساخر، يصوغ رؤيته للعالم في مشاهد تهكّمية ساخرة.

الساخرون العرب

الكوميديا مستقبل الأدب
الكوميديا مستقبل الأدب 

الكُتّاب العرب ليسوا استثناء في هذا الصدد، على الرغم من جذور الكتابة الساخرة الممتدة في ماضيهم البعيد، الذي حفَل بمؤلَّفات تصطبغ بالنكهة الكوميدية، مثل كتاب البخلاء للجاحظ ونوادر جحا وأشعب ملك الطفيليين.

ورغم هذا التاريخ، فقد حُرِمَت الكتابة الساخرة من الحصول على مكانة مساوية لصنوف الأدب الجاد والأكثر رقيّا، ما جعل الكُتّاب العرب من أصحاب النزعة الساخرة الأصيلة، باستثناءات لا تنفي القاعدة، يبحثون عن أُطُر وأشكال نثرية مُغايِرة للرواية، يصوغون من خلالها تجاربهم ويُعبِّرون عن مواهبهم.

اختار البعض فنَّ المقال الساخر وأجاد توظيفه، مثل الكاتب المصري محمد عفيفي، والأردني محمد طملية، فيما عالج البعض الآخر من أمثال الصحافي والساخر المصري محمود السعدني، تنويعات شتى من الكتابة النثرية بطريقة كوميدية وساخرة، مثل أدب المذكرات والرحلات، وأيضا الرواية والمقال وغيرها.

مثله فعل الكاتب المصري أحمد رجب، الذي ابتكر أشكالا وتنويعات شتى من الكتابة الساخرة، منها الرسائل التهكّمية القصيرة، والشخصيات الكاريكاتيرية التي قدّمها بالتعاون مع الفنان التشكيلي مصطفى حسين، وكذلك الكتب المتنوعة التي عالج فيها القضايا الإنسانية والاجتماعية في أُطُر تهكّمية ساخرة.

مع ذلك، فإن جمهور المتلقّين ظل يتعامل معها على أنها أعمال هزلية خفيفة ومُسلِّية، لا مجال فيها لطرح الأفكار الجادة والرؤى العميقة والتأملات الملهِمة.

واحدة من أشهر الروايات الساخرة في المكتبة العربية
واحدة من أشهر الروايات الساخرة في المكتبة العربية

عادة ما ترتبط الكتابة الكوميدية في أذهاننا بالعروض المسرحية؛ إذ إن كلمة “مسرحية” تستدعي للذاكرة الجمعية قناعَ المسرح الضاحكَ أكثر من توأمه الباكي، كما تُحيلنا إلى المسرحيات الشهيرة لنجوم الكوميديا، منذ بداية أرشيف المسرح المصوَّر، وينسحب ذلك أيضا على الأفلام الكوميدية، لكونها تنويعة أخرى من تنويعات الدراما الكوميدية المكتوبة بغرَض العرض أمام الجمهور.

ثمة شكل آخر لكتابة الكوميديا هو الرواية الساخرة، أو الكوميدية، أي النصوص التخييلية الطويلة التي يغلب عليها الطابع الساخر أو الفكاهي، على مستوى الحبكة الدرامية أو النبرة السردية.

نغفل هذا النوع من الروايات، ولا نتذكّره إلا بصعوبة نسبية حين نستعرض تاريخ الأعمال الروائية، وقد لا نتذكّر منها إلا عددا محدودا من الروايات، أسعده الحظ في التحوُّل إلى أعمال مسرحية أو أفلام كوميدية.

قدّم الأدب العربي تجاربَ قليلة نسبيّا في كتابة الرواية الساخرة أو الكوميدية، ربما بسبب المكانة غير المكافئة التي تُلصَق عادة بالأدب الساخر، حين تُعقَد المقارنةُ بينه وبين الأدب الجادّ، ما جعل عددا قليلا فقط من الروائيين العرب أصحاب الحسِّ الساخر والجرأة النسبية، يُقبلون على كتابة الرواية الساخرة.

بين هؤلاء أسماء كبيرة ولامعة، على غرار الشاعر والأديب والدبلوماسي السعودي غازي القصيبي، الذي قدّم واحدة من أشهر الروايات الساخرة في المكتبة العربية، رواية “العصفورية”، فاستطاع أن يحتلَّ بها مكانة معتبرة في تاريخ الرواية العربية.

وتدور أحداث الرواية في إطار حِواريَّة مطوَّلة بين المريض المُحتجَز في مصحة للعلاج النفسي، والبروفيسور والطبيب المُعالج الذي يُنصت إليه في أغلب الأحوال، وهو يَخرج من حكاية ليدخل في أخرى، بحيث يرتسم مع توالي الحوار مشهد بانوراميّ للعالم العربي، بشخصياته وتحولاته ومآسيه.

ثمة تجارب أخرى نالت شهرتها من تحويلها إلى أعمال سينمائية، مثل رواية “أم العروسة” للكاتب المصري عبدالحميد جودة السحار، وهي رواية اجتماعية ساخرة تتناول حياة أسرة من الطبقة المتوسطة، ترتبك أحوالها حين يُقبل الأب والأم على تزويج كبرى البنات، وقد تم تحويلها إلى فيلم سينمائي بنفس العنوان، من إخراج عاطف سالم، وقام بدور البطولة فيه عماد حمدي وتحية كاريوكا.

كما قدّم الروائي المصري يوسف السباعي روايته الساخرة الشهيرة “أرض النفاق”، وهي رواية فانتازية تفضح مثالب المجتمع السياسية والأخلاقية عبر العديد من المواقف الساخرة، حيث يقع البطل مصادفة على دكان أشبه بمحلات العطارة، يبيع الأخلاق في صورة مساحيق يمكن تناولها، فتوقِعه الأخلاق الحميدة في مشاكل لا أول لها ولا آخر، فيما تساعده الأخلاق المذمومة في الحصول على مبتغاه.

وقام الكاتب سعدالدين وهبة بتحويل الرواية إلى فيلم سينمائي بنفس العنوان، من إخراج فطين عبدالوهاب، وبطولة فؤاد المهندس وشويكار وسميحة أيوب، إثر تجربة أسبق وأقل نجاحا في فيلم بعنوان “أخلاق للبيع”، للمخرج محمود ذوالفقار.

عقد قران جديد

شخصيات كاريكاتيرية تمثِّل شرائح مختلفة من المجتمع المصري
شخصيات كاريكاتيرية تمثِّل شرائح مختلفة من المجتمع المصري

بطبيعة الحال، أدلى عدد من كُتاب الأدب الساخر بدلائهم في مسألة الرواية الكوميدية، فقدّم الساخر الكبير محمد عفيفي رواية “التفاحة والجمجمة”، التي عالج من خلالها صراعات السلطة والعشق والمال، عبر قصة مجموعة من غرقى سفينة محطَّمة، يلجأون إلى جزيرة نائية ويسعون إلى تنظيم شؤونهم حتى يجدوا وسيلة للعودة.

أما الكاتب أحمد بهجت، فقدّم رواية فانتازية ساخرة بعنوان “تحتمس 400 بشَرطة”، وقد نُشِرت في تسعينات القرن الماضي، وفيها يُصوِّر مصر عام 2020، وهي تستعد لإطلاق صاروخ ينقل عددا من المصريين إلى كوكب المريخ، فتنتقل معهم البيروقراطية والروتين المعطِّل إلى حياة الناس في المجتمع المريخي.

وانضم إلى الأديبين السابقين الساخرُ الكبير محمود السعدني بكتابه “حكايات قهوة كتكوت”، وهو عمل أشبه بالألبوم الاجتماعي منه للرواية الساخرة، يُقدِّم الكاتب من خلاله عددا من الشخصيات الكاريكاتيرية التي تمثِّل شرائح مختلفة من المجتمع المصري، مصوِّرا مواقفها شديدة الطرافة والتناقض حين تجتمع في قهوة كتكوت.

قد يكون جديرا بالتفكير أن تُخصِّص الأمانات العامة للجوائز الأدبية المرموقة في الوطن العربي، فروعا مخصَّصة للأدب الساخر والروايات الكوميدية، أو جوائز خاصة من لجان التحكيم، ما من شأنه أن يدعم هذا الفن ويكرِّسه لدى الروائيين وجمهور القراء.

وبإعادة الاعتبار إلى الرواية الكوميدية، قد يُعقَد القران من جديد بين الرواية والسينما الكوميدية، فيجد صُنّاع الأفلام والمسلسلات قصصا كوميدية محبوكة بأساليب جيدة، تعكس همومنا ومخاوفنا ومشاكلنا في أُطُر فكاهية تُشبهنا وتُناسب أذواقنا، فلا تكون ثمة حاجة إلى اقتباس الأفكار من أفلام كوميدية أميركية، كما تجري به العادة، وهو ما جعل أفلامنا الكوميدية مجرد نسخ ممسوخة من أفلام شهيرة، دون أن تُقدِّم جديدا يُذكَر.

13