"جمال الحريم" مسلسل تراجيدي يتجاوز الحدود منغمس في الترويج للصوفية

يتجاوز مسلسل “جمال الحريم” المسارات المعتادة للتراجيديا ودراما الرعب في مصر، بالغوص في عالم الجن وتفاصيله، مع قدر كبير من الترويج للصوفية الحديثة التي خلعت البردة، واندمجت في الحياة بصورة كبيرة، وأوجدت لها مساحة في الأعمال الفنية، ولم تعد مقتصرة على حلقات الذكر التقليدية.
وجد البعض من العاملين في مجال الدراما المصرية، في الغيبيات والعوالم اللامرئية فرصة لتغيير جلدها، والتحرر من المضامين المعتادة، اعتمادا على تراث شعبي راسخ يؤمن بإمكانية التواصل المحسوس بين البشر والقوى الخفية، ويعزو إليها الكثير من تعقيدات الحياة والأزمات النفسية.
ينتمي مسلسل “جمال الحريم” الذي تعرضه فضائية “أون دراما” المصرية حاليا، إلى اتجاه بدأ يتشكل بقوة منذ سنوات قليلة، يقوم على تضمين عوالم الجن والدجل في السياق
الدرامي، استنادا على تراث متداول ومكتوب حول الجن والقرين، لكنه تعدّى ذلك إلى المزج بين جدليات العلم والدين، والصراع بين الشيطان والإنسان.
ويرتكز العمل، الذي كتبت قصته المؤلفة سوسن عامر، في أول تجاربها الفنية، على تراث مكتوب عن تخيلات عوالم الأرواح وطلاسمها ورموزها، ويبدو ظاهرا تأثرها بالكتاب المثير للجدل “شمس المعارف” لأحمد بن علي البوني، وترانيم تحضير الجن وتسخيرهم، مع تنقلات مستمرة بين عالمي الحقيقة، والخيال أو الأحلام.
وتجاوز المسلسل كثيرا الخطوط الحمراء التي رسمها التراث الدرامي المحلي للرعب، في ظهور مردة الجن العاشقين بصورة طبيعية لا يختلفون عن البشر أو صورة مشوهة شديدة التنفير، فجاؤوا كأشباح بيضاء ذات ملمس ناعم لا ينصرفون بآيات القرآن، وتمادى العمل في ذكر تفاصيل كثيرة عن عالم الجن ذاته، بأسماء ملوكه، ورغبتهم في السيطرة على الإنسان عبر الترغيب والترهيب.
تناقضات متفاوتة
يحكي المسلسل قصة نور، (الفنانة نور اللبنانية) مذيعة الراديو الشهيرة ذات التفكير العقلاني، الناشطة على مواقع التواصل الاجتماعي التي تعيش أحلاما متكررة غير مفهومة تكون حاضرة فيها بجسدها وروحها، تبدأ بشخص يموت وسط أسرته، ثم تنتقل إلى دهليز طويل في آخره رجال يجلسون بشكل دائري ويرددون ترانيم تتعلق بالعوالم السفلية وأسيادها.
وتعيش صديقتها حنان (الفنانة المصرية دينا فؤاد) واقعا مشابها؛ قوى شيطانية تطاردها باستمرار، تكتشف أنه أحد ملوك الجن الذي يعشقها ويعتني بها منذ صغرها حتى وصولها إلى مرحلة عمرية تجعله قادرا على الاقتران بها، ويتربص بها في كل مكان وخاصة دولاب ملابسها، ويحاول إغراءها بمعارفه عن الأمور الغيبية، وكشف كنوز العالم المخفية كي ترضى بوجوده.
لا يقدم “جمال الحريم” الرابطة المشتركة التي تجعل الصديقتين نور وحنان مستهدفتين من ملكي الجن، إلا لأسباب درامية بحتة تسمح للسيناريو بخلق مقارنة بين نمطين من البشر، أحدهما يقرر التسليم والانصياع للوعود السفلية والانغماس فيها، والآخر يظل عقله رافضا مهما كانت الأحداث والضغوط ليصل في النهاية إلى الانتصار.
"جمال الحريم” لا يقدم الرابطة المشتركة التي تجعل الصديقتين نور وحنان مستهدفتين من ملكي الجن، إلا لأسباب درامية تسمح للسيناريو بخلق مقارنة بين نمطين من البشر
ويحمل العمل تناقضات كثيرة في ما يتعلق بالدجالين، ففي البداية يصورهم كانتهازيين مخادعين تصل مطالبهم إلى درجة بيع سيدة لوحدة سكنية وفاء لطلب مشعوذ يعدها بتحريرها من المس، لكن يعود ليجعل تهديدات أحد المشعوذين لنور واقعا، حيث لن تجد طعم الراحة بعد إبلاغها عنه الشرطة، ما يجعله صادقا في حديثه وليس كاذبا.
يضمّ العمل في أحشائه ترويجا كبيرا للفكر الصوفي وتغيراته نحو التحديث، وحول الصورة النمطية عن مشايخه ومريديه، من زاهدين فقراء يرتدون البردة والخرقة إلى أشخاص في مهن حياتية متنوعة مرموقة، بينها معدو برامج إذاعية ومحاسبو شركات وطلاب بالجامعة، يرتدون أفضل الملابس ولدى بعضهم سيارات فاخرة.
ويقدم المسلسل الصوفية كحل أساسي لمواجهة التشدد والمغالاة اللذين تتسم بهما التيارات الإسلامية الأخرى، فالحب الصوفي ليس البحث عن الكرامات، لكن التنقيب في رمزية الحياة، فعبر طاقته تنتهي الأنانية وتقدير الذات، وينتقل العشق الإلهي إلى كل الموجودات، باعتبارها تحمل جميعا الأصل ذاته، وصولا إلى القلوب الصالحة التي تعيش على الاستغناء، وتملك عيون الحقيقة وتميز الصواب من الخطأ.
ويقدم العمل نموذجين للصوفية أحدهما من الماضي للشيخ حسن (الفنان صلاح عبدالله) الذي يحاضر في مريديه بأن النفس أصل الغرور، والغرور يفتح باب اللعنة على الشيطان، فشعور الإنسان بالاختلاف أكبر خدعة تحوّل نفسه إلى صحراء ليس فيها سوى الفراغ والصمت وتعميرها لا يأتي إلا بالمقاومة. ونموذج آخر للشيخ إبراهيم (الفنان إيهاب فهمي) الذي يشجع نجله على المشاركة في مبادرات تنظيف الميادين من القمامة ولا يعترض على مصادقته لفتاة غير محجبة.
انتصار الخرافات
جانب العمل الصواب بربط بداية الأحداث بشهر رمضان الذي تُغلّ فيه الشياطين دون سياق درامي يبرر ذلك التوقيت الزمني، باستثناء محاولة توضيح اهتمام المذيعة نور بالتراث الثقافي والمنشآت التراثية ورسم صورة مثالية لمعد برنامجها يوسف (الفنان خالد سليم)، الذي يواظب على حضور الحضرات الصوفية وهجر والده صاحب الملايين لشكه في مشروعية أمواله.
لم يمهد المسلسل كثيرا لشخصياته فيأخذنا معهم فجأة في صراعاتهم دون قاعدة نستند عليها حول أدوارهم وشخصياتهم، ما أثار التباسا في التمييز بين الواقع والخيال، خاصة في شخصية نور التي تقوم بدور مذيعة وفي الوقت ذاته حفيدة الشيخ حسن، وفي مشاهدها بات الجمهور غير متيقن ما إذا كانت الأحداث حقيقة أم حلما من أحلامها.
وجاء الحوار حاملا قدرا من التناقضات من المشاهد الأولى، كحديث نور مع والدتها حول ضرورة حضورها الإفطار مع شقيقتها وإعداد مشروبها الرمضاني المفضل، والذي يشي بعدم رؤية بعضهما منذ فترة طويلة، قبل أن يتبين في المشهد التالي أنهما يقيمان معا باستمرار، أو تبرير الكره لفريد نجل شقيقتها التي توفيت أثناء ولادته.
ويفتح المسلسل مسارات جانبية لإطالة الأحداث لا ترتبط بسياقه الأصلي مثل قصة بائعة الفلافل وابنتها اللتين تقيمان بحي شعبي فقير، أو صديق يوسف الذي لا يمل من الشكوى من ظروفه المالية بسبب مصاريف الأبناء، وعدم استماعه لنصيحة أصدقائه بتأجيل الإنجاب، والقصتان لا تقدمان أي إضافة إلى السياق الأصلي.

العمل يقدم الصوفية كحل أساسي لمواجهة التشدد والمغالاة اللذين تتسم بهما التيارات الإسلامية الأخرى
يلعب “جمال الحريم” على المقارنات بين أبناء يبرّون أسرهم ورجال يحافظون على ميثاق الزواج الغليظ، وفي المقابل رجل أعمال يتخلي عن شريكة العمر أثناء إجرائها عملية قلب مفتوح ويقترن بأخرى، وابن عاق يطرد أمه وشقيقته من بيت العائلة كي يتزوج فيه، رغم مساعدتهما له في شراء سيارة للنقل الجماعي يعمل عليها.
ويحافظ العمل على ثيمة تكاد تكون ثابتة في الأعمال الفنية تتمثل في انتقاء الجن شخصيات تتمتع بالعلم والثقافة لمسها أو محاولة الاقتران بها، خاصة شخصية نور المثقفة التي تتمتع بتفكير علمي نقدي ومستقلة ماليا، وتعتقد أن الأمور الغيبية سببها عوامل نفسية في المقام الأول، وتشبه كثيرا شخصية الباحثة فاطمة في فيلم “الإنس والجن” ليسرا وعادل إمام.
وحتى قضية الصراع بين الثقافة والرأسمالية الانتفاعية التي أثارها العمل من بوابة “بيت الفن” ملجأ الفنانين التشكيليين الذي يسعى أحد المقاولين إلى هدمه واستبداله بعقار سكني، ومحاولة مديره اللجوء إلى الإعلام لحشد الرأي العام، فقد جاءت بالطريقة ذاتها التي تم تقديمها في مسلسل “الراية البيضا” لجميل راتب وسناء جميل.
على المستوى الإخراجي، حافظت المخرجة منال الصيفي، على الطبخة الهوليوودية في الرعب بالتركيز على عنصر المفاجأة في المشاهد التي تدفع المُشاهد إلى الخوف، ومساحات الإضاءة الخافتة التي تتنافى كثيرا مع طبيعة المصريين في منازلهم، والتركيز على “نجمة داوود” كأحد العناصر الأساسية للدلالة على السحر في الطلاسم التي تراها بطلتاه، أو في انعكاسات الإضاءة على أعينهم.
ويقول الناقد الفني رامي عبدالرازق، إن “جمال الحريم” عمل تجاري بحت جاء انعكاسا لنجاح فيلم “الفيل الأزرق” لكريم عبدالعزيز، فتلك النوعية من الأعمال تحمل قدرا كبيرا من الجاذبية والإثارة وتخالف موجة تسيد الدراما الكوميدية والاجتماعية.
ويرفض عبدالرازق، في حديثه لـ“العرب”، القول إن الدراما المصرية تتسم بأنها تسير في موجات تأخذ قدرا من الوقت قبل أن تختفي، فحين نجحت أعمال الكوميديا نشأت مسلسلات “السيت كوم” حتى انزوت، وعندما وجدت أفلام الحركة نجاحا تبعتها سلسلة من أعمال درامية تحمل الثيمة ذاتها.
ووفقا للمركز القومي للبحوث الاجتماعية (جهة رسمية) ينفق المصريون على فك الأعمال والسحر نحو 1.1 مليار دولار، بينما ترفع بعض الدراسات المستقلة الرقم إلى 2.5 مليار دولار سنويا.
لكن الناقد الفني المصري، يؤكد أن نمط معالجاتها يؤيد الخرافة وليس محاربتها، ففي النهاية تنتصر القوى الغيبية على العلم أو يتم طردها لتجد وعاء تستضيفها، عكس الدراما العالمية التي ينتصر فيها الإنسان أو الدين أو العلم على القوى الظلامية.