محمد عبدالمطلب سلطان الأغنية الشعبية في مصر تعلّم الغناء من المئذنة

يتربع الفنان المصري محمد عبدالمطلب كأول مطرب شعبي على عرش الأغنية الشعبية المصرية العاطفية والوطنية والاجتماعية بجماليات لغتها وعمق تفاصيلها وشفافية مشاعرها وخفة روحها. لكن رحلة الفنان نحو الشهرة والتأثير المتواصلين إلى اليوم كان وراءه الكثير من التفاصيل المجهولة التي جمعها الباحث محب جميل في كتاب عن سيرة الفنان مؤرخا لفترة فنية مهمة في تاريخ مصر.
لا يزال المطرب محمد عبدالمطلب بإرثه الغنائي حاضرا في الوجدان الجمعي المصري والعربي، حيث ارتبطت فرادة صوته بأصالته وموضوعات أغانيه وقرب كلماتها وألحانها من مختلف الطبقات الاجتماعية.
ومن ثم يقف عبدالمطلب منافسا لكبار المطربين من مجايليه والأجيال التالية عليهم، وليس أدل على ذلك من استمرار تردد عدد كبير من أغنياته حتى اليوم ومنها “جميل وأسمر”، “إسأل مرة عليا”، “بتسأليني بحبك ليه”، “السبت فات”، و”الناس المغرمين”، “بياع الهوى راح فين”، “حبيتك وبحبك”، و”ساكن في حي السيدة”، “ما بيسألش عليا أبدا”، “يا حاسدين الناس مالكم ومال الناس”، وغيرها.
البدايات الفنية
يتتبع الباحث محب جميل في كتابه “محمد عبدالمطلب سلطان الغناء”، الصادر أخيرا عن دار آفاق، حياة عبدالمطلب انطلاقا من ميلاده وطفولته ونشأته وبدايته مع الغناء وسنوات مجده وعلاقاته مع الملحنين والمطربين، ثم يتوج عمله بمجموعة من الملاحق ضمت شهادات للشعراء صالح جودت وجمال بخيت والموسيقي إلياس سحاب والكتاب كمال النجمي وفرج العنتري وإبراهيم العريس وسحر طه وفادي العبدالله، وجدولا لأشهر أغنيات عبدالمطلب، وببليوغرافيا حصر فيها المقالات والحوارات التي تناولته.
في تقديمه للكتاب يصف الباحث الموسيقي فكتور سحاب المطرب محمد عبدالمطلب قائلا “لم نسمع في الكون، صوتا أجشّ وأَبَحّ، ومع ذلك يطربك طربا جارفا، يبلغ بالمستمع العربي أقصى درجات المتعة. إنه في هذا، أشبه بالشيخ زكريا أحمد الذي كان يملك، حين يغني، هذه السمة الغريبة، التي تجعل منهما قامتين باسقتين فريدتين في عصرنا، وربما في الكثير من العصور، ماضيها والمقبل منها”.
ولد عبدالمطلب عام 1910 في بلدة شبراخيت التابعة لمحافظة البحيرة في شمال مصر أثناء فترة حكم الخديوي عباس حلمي الثاني، وقد قضى طفولته وفقا للمؤلف “بين حقول القطن والقمح إلى جانب حفظ القرآن الكريم، وتعلم أساسيات القراءة والكتابة في كتاب الشيخ محمد السنباطي. وقد اعتاد أن يغني لرفاقه بين الحقول ما حفظه من طقاطيق المطرب عبداللطيف البنا، فكان يذهب كل خميس إلى سوق البلدة لشراء كتب الطقاطيق التي كان يغنيها البنا نظير قرش أو قرشين على الأكثر”.
ويضيف “جاء عام 1924 ليجد عبدالمطلب حاله واقفا وجها لوجه أمام البنا في أحد الأفراح، فما كان منه إلا أن اندفع ليسلّم عليه ويقبل جبينه بين الوصلتين اللتين غنى فيهما ‘يا حليلة يا حليلة’ و’حزر فزر راح أقولك إيه’، وعندما أدرك البنا حبه وشغفه بالغناء قام بضمه إلى بطانته التي تجوب أفراح القرى المحيطة”.
ويتابع جميل أن المرة الأولى التي يصل فيها عبدالمطلب إلى القاهرة كانت في 4 أكتوبر 1925 وأن أخاه الأكبر رأى انجذاب أخيه الأصغر للطرب والموسيقى، فأخذه في زيارة إلى منزل زعيم الأمة سعد زغلول، وهناك أنشد عبدالمطلب البعض من الأغنيات الوطنية في حضوره، فقبّله زغلول ومنحه جنيها قبل أن يقابل السيدة صفية زغلول ‘أم المصريين’ ويغني أمامها الأغنية الشهيرة ‘رنة خلخالي يامه’، بينما يمسك بعصا صغيرة في يده كأولاد البلد”.
ويضيف أن عبدالمطلب بعد ذلك قصد منزل الملحن داود حسني الذي كان ملحنا كبيرا وأحد ألمع العاملين في المسرح الغنائي، وبدأ في مرافقته في مشاويره الخاصة، وفي إحدى المرات ضبطه حسني يدندن بعض الطقاطيق فأعجب بصوته، ونظير بعض القروش بدأ تلقينه دروسا في الموسيقى والغناء بصرامة، فكان لا يتوانى في تعنيفه إذا أخطأ في بعض المقامات أو الأداء، لكن النصيحة الأغلى التي ظل عبدالمطلب يتذكرها حتى آخر أيامه، كانت في اقتراح حسني عليه بأن يصعد مئذنة مسجد البرديني في الداوودية بحي المغربلين ليؤذن الفجر حتى تستقيم أحباله الصوتية.
قبلها كان عبدالمطلب قد التحق بمعهد الموسيقى الشرقية، وكان من بين أساتذته مصطفى رضا ومنصور عوض ومحمد عبدالوهاب الذي كان يعلمه النوتة الموسيقية، ولكنه في النهاية لم يستمر في دروس المعهد، حيث قرر أن يواجه الحياة بمفرده، وكانت المرة الأولى التي يواجه من خلالها الجمهور في حفلة غنائية على مسرح الأزبكية بمرافقة تخت موسيقي بين أفراده عبدالحميد القضابي على القانون وسامي الشوا على الكمان، وغنى خلالها للموسيقار داود حسني.
وبحسب الكتالوج العمومي لشركة أوديون عام 1929 نجح عبدالمطلب في تسجيل مجموعة من الأسطوانات الحجرية من ألحان حسني بلغ عددها 9 وجميعها من قالب الطقطوقة: “أحلى وأحدق” و”وديني بلد المحبوب” و”حبيبك من حق وجد” و”ثلاث سنين” و”زيالقشطه اسم الله عليه” و”هيله هيله شيل هبيله” و”حرس مني” و”أبصر مدرك” و”البنت عايزة تتجوز”.
الفنان عرف حياة ثرية متنقلا بين الفرق والأماكن ومتعلما الأداء من كبار الموسيقيين ليصبح نجم الطرب بلا منازع
ويرى محب جميل أن عبدالوهاب كان المدرسة الثانية التي تعلق بها عبدالمطلب بعد التأسيس على يد داود حسني، ومع الوقت أصبح أكثر تمرسا وإدراكا لقدرته الصوتية وطبيعة الحياة الفنية العامة.
وعن لقاء فريد الأطرش وعبدالمطلب يشير إلى أن شارع عماد الدين في وسط القاهرة تلك الأيام كان أشبه بشارع برودواي الآن في نيويورك، سلسلة من الصالات الاستعراضية والمسارح الغنائية التي تقدم العروض الفنية يوميا، فكان يقصده عشاق الغناء والتمثيل من كل حدب وصوب. وكان عبدالمطلب قد تعرّف خلال هذه الفترة إلى الموسيقار فريد الأطرش في أحد المقاهي بشارع محمد علي، وتوطدت الصداقة بينهما، حيث كانا يقتسمان الطعام وأكواب الشاي. وفي أحد الأيام أشار عليهما أحد الزبائن بأن يذهبا إلى صالة بديعة مصابني.
وبالرغم من أننا لا نعرف على وجه التحديد العام الذي انضم خلاله إلى فرقة بديعة الاستعراضية، فإن اسمه يظهر للمرة الأولى في موسم 1934 ـ 1935 ضمن استعراض “شهيرات النساء” الذي عرض في 17 ديسمبر 1934 وكان دوره في الفرقة قائما على الغناء، وكثيرا ما كان يردد أغنيات عبدالوهاب المشهورة إلى أن غنى ذات ليلة قطعة صغيرة كتبها له أحدهم بعنوان “كان ليه خصامك ويايا، يا ناسية حبي وهوايا” وعندها بدأ الجمهور يمطره بالريالات الفضية والجنيهات الذهبية وارتفعت شهرته وذاع صيته يوما تلو الآخر.
ومن فرقة بديعة مصابني إلى فرقة ببا عزالدين حيث شارك في موسم 1936 ـ 1937 بالغناء في مسرحياتها، وسافر معها إلى تونس وعندما انتقلت للعمل في صالة بديعة في عماد الدين في موسم 1938 ـ 1939 انتقل معها.
مسيرة حياة
يشير الباحث في كتابه إلى بدء العلاقة بين عبدالمطلب ونجيب الريحاني فيقول “عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية عام 1939، كان لا مفر من أن يرسل أسرته إلى بلدته شبراخيت في البحيرة، خوفا من ويلات الغارات في القاهرة. وقد شهدت الصالات الترفيهية في تلك المرحلة رواجا كبيرا، حيث احتشد عدد كبير من جنود الحلفاء في صالات عماد الدين. وفي أحد الأيام كان عبدالمطلب يجلس نهارا في قهوة ‘فينكس’ في الشارع ذاته، والتقى بالكاتب المسرحي بديع خيري، الذي عرفه بدوره إلى نجم الكوميديا نجيب الريحاني. وتوطدت الصداقة بينهما مع الوقت، فكان الريحاني يترك له مسرحه في رأس البر في يوم الاثنين من كل أسبوع”.
ويتابع “في إحدى الليالي جاءت إليه عاملة التذاكر في المسرح وأخبرته بأن إيراد هذه الليلة وصل أربعمئة جنيه مع العلم أن الحصيلة الكلية للإيراد في الليلة الواحدة هو ثلاثمئة جنيه فقط. فقد أخبرته أن هناك سيدة دفعت مئة جنيه دفعة واحدة. وبعد انتهاء السهرة دخل الريحاني إلى غرفة عبدالمطلب ومعه تلك السيدة والتي اتضح في النهاية أنها المطربة أسمهان. وكان معهم في الليلة أيضا الكاتب الصحافي محمد التابعي الذي كافأه بمبلغ خمسين جنيها على أدائه المتفرد. في اليوم التالي قام عبدالمطلب بإرسال مبلغ أربعمئة جنيه عبر البريد المصرية إلى زوجته في شبراخيت، وبدأت حياته تأخذ منحى جديدا نحو آفاق الشهرة والنجاح”.
ويرصد جميل انطلاق عبدالمطلب إلى دنيا النجاح والشهرة حيث مرت بعدة مراحل مفصلية منذ البدايات أبرزها: 1929: المرة الأولى التي شارك خلالها عبدالمطلب مع فرقة سلطانة الطرب منيرة المهدية في أوبرا “توسكا” التي ألفها كمسرحية درامية فكتوريان ساردو، وقام بترجمتها إبراهيم المصري وحامد الصعيدي، ولحنها كامل الخلعي وأخرجها عبدالعزيز خليل.
ثم 1933 وهذه المرحلة شهدت غناءه “بتسأليني بحبك ليه” من كلمات محمد عثمان خليفة “ابن الليل” وألحان محمود الشريف، والتي كانت وراء نجاحه وشهرته. حيث خرجت على أسطوانة لشركة بيضافون وانطلقت في أرجاء القطر المصري وظل جمهور المستمعين يردّدها خلفه من مقهى لآخر ومن صالة إلى أخرى، فاندفع المنتجون وأصحاب الصالات للتعاقد معه.
وفي سنة 1936 التي كانت المرة الأولى التي يقف خلالها عبدالمطلب أمام ميكروفون الإذاعة اللاسلكية الحكومية المصرية. وذلك من خلال حفلة غنائية تكونت من وصلتين الأولى غنى خلالها دورا من ألحان زكريا أحمد بعنوان “الفؤاد ليله نهاره، لم يوف شكر لحظك”. والثانية غنى خلالها مونولوجا من ألحان رياض السنباطي بعنوان “رسمك في قلبي واسمك دايما على لساني”.
محمد عبدالمطلب كان يملك صوتا أجشّ وأَبحّ، ومع ذلك يطرب المستمعين ويبلغ بهم أقصى درجات المتعة
أما سنة 1937 فشهدت سفره إلى فلسطين للغناء لمدة شهر في دار الإذاعة الفلسطينية، بعد أن تعاقد معه مدير القسم الموسيقي يحيى اللبابيدي. وعرفت سنة 1945 البطولة السينمائية الأولى له في فيلم “تاكسي حنطور” من إخراج أحمد بدرخان وبطولة سامية جمال.
ويقول جميل عن زيجات عبدالمطلب وسفره إلى العراق وزواجه من المطربة نرجس شوقي “عاش عبدالمطلب حياة بسيطة في كنف أسرته بعد زيجات متعددة. كان أولها زواجه من شوشو عزالدين شقيقة الراقصة الشهيرة في فرقة ببا عزالدين، وذلك في عام 1938 بعد قصة حب نشأت بينهما ليتوَّج هذا الزواج بإنجاب ولدين توأم هما نور وبهاء عام 1940. ودام الزواج بينهما بضع سنوات حتى سافر عبدالمطلب مع شريكه سعيد مجاهد عام 1947 إلى العراق بعد تدهور الأحوال الاقتصادية في مصر عقب الحرب العالمية الثانية، وهناك تعرّف إلى المطربة نرجس شوقي التي تقيم بالعراق فقد كان يتردد على الكازينو الذي تغني فيه خلال السهرة ليتم الزواج بينهما ويؤسسا شركة إنتاج مشتركة لإنتاج فيلم بعنوان ‘الصيت ولا الغنى’ عام 1948 من إخراج حسن الإمام، والذي فشل تماما ليخسرا كل أموالهما”.
ويضيف “كانت تلك هي القشة التي قصمت ظهر البعير، فوقع الطلاق بينهما. أما زوجته الأولى فكانت قد طلبت الطلاق رسميًّا بعد أن علمت بخبر زواجه من نرجس شوقي. وبالرغم من وقوع الطلاق بينهما فإن زوجته الأولى شوشو عزالدين لم تتزوج مرة أخرى، وظلَّت تحتفظ بأسطواناته في شقتها، وكذلك لم ينقطع عبدالمطلب في السؤال عنها، لكن التوأمين نور وبهاء قد أقاما لفترة عند عمهما زكريا وجدتهما لأبيهما الحاجة خدوجة، وكانا يترددان على زيارة والدتهمـا طوال الوقت”.
وخصص محب جميل فصلا ضم اختيارات من حوارات أجريت مع عبدالمطلب منها حوار لمجلة “المصور” نشر في 24 أكتوبر 1958 ورد فيه على سؤال: كيف تصف الطربوش؟ وردّ “إن الطربوش هو سرّ نجاحي في ما أعتقد، فقد أصبح بمرور الأيام جزءا من شخصيتي، وجمهوري يحب طربوشي كما يحبني. ولو تخليت عن طربوشي في أي حفلة غنائية لضيّعت نصف تصفيق الجمهور على الأقل”.
وردّا على سؤال عن علاقته بأم كلثوم قال “كانت أم كلثوم ست الكل، فقد سمعتها وأنا لا أزال طفلا صغيرا في المدرسة، وذات مرة هجمت إلى وراء الكواليس بمسرح حديقة الأزبكية بعد أن انتهت من إحدى حفلاتها لكي أقبّل يدها. وبعد ذلك بسنوات عندما أصبحت مطربا مشهورا، كنت أغني في بيت أحد أعيان حي بولاق اسمه صالح جرجس، وكانت هي مدعوة إلى الحفلة، وعندما انتهيت من وصلتي الغنائية قامت لكي تهنّئني وتذكّرني بحكاية مسرح الأزبكية. لقد كانت الراحلة أم كلثوم سيدة عظيمة. وقد تعودت أن أزورها في العيد الصغير والعيد الكبير وكنت أذهب إلى بيتها في الساعة 12 ظهرا، ولا يكاد جرس الباب يرنّ عندها في تلك الساعة حتى تقول “الساعة 12.. عبدالمطلب.. جه“.