احتفاء عربي بذكرى ميلاد أميرة مطربة

أسمهان.. المرأة التي ظلمها الذكور سيرة وفنا ونقدا تلفزيونيا.
الاثنين 2020/12/14
صوت قدم من السماء وعاد إليها سريعا

ظلت المطربة السورية أسمهان رغم رحيلها المبكّر أيقونة لن تتكرّر، بصوتها السوبرانو الرخيم، وجمالها الأرستقراطي الساحر، وهي الأميرة سليلة الأمراء، وخاصة برحيلها الغامض، الذي جعل المخرج التونسي شوقي الماجري يوثّق سيرتها ومسيرتها عبر مسلسل حمل اسمها. أسمهان الصوت والمسلسل استعادهما عشاق الفنانة الراحلة في ذكرى ميلادها الـ108 الذي تم الاحتفاء به على نطاق واسع في الأيام القليلة الماضية.

منذ أيام قليلة، احتفلت العديد من الجمعيات الأهلية بالقاهرة ودمشق وبيروت وغيرها من العواصم العربية بذكرى ميلاد المطربة السورية أسمهان (25 نوفمبر 1912/14 يوليو 1944)، والتي عرفت ولادتها الثانية حين دخلت في العام 1931 عالم الغناء من أوسع أبوابه مع تسجيلها قصيدة “أين الليالي” من تأليف إسماعيل صبري وألحان محمد القصبجي، وطقطوقة “يا نار فؤادي” من تأليف يوسف بدروس وألحان فريد غصن، وبحلول السنة التالية اختفى اسمها آمال الأطرش من الصحافة والفن لتخلّد باسمها الفني الذي اختاره الملحن داود حسني.

أسمهان صوت قدم من السماء وسكن حنجرة أميرة ثمّ عاد إلى السماء بعد رحلة حياة تشبه المنام.. هكذا تصنع الأقدار “دراماها” الخاصة، وتقول للكتّاب في سخرية واضحة: آتوني بمثلها إن كنتم من الصادقين.

أعترف أنّ التلفزيون هزمني هذه المرّة وجعلني أجالسه وأتابع مسلسلا عن أسمهان لا لأنّ الأخيرة معشوقتي الأبديّة فحسب، بل لأنّ ما شاهدته يرتقي إلى الأناقة في كلّ شيء: نصّا وأداءً وتصويرا وألوانا وإضاءة ولغة إخراجية تنظّف العين من كلّ ما يمكن أن يلحق بها من تلوّث بصريّ طيلة هذا الكرنفال التلفزيوني.

أتحدّث عن واحد من أروع ما قدّم المخرج التونسي الراحل شوقي الماجري، وهو مسلسل “أسمهان”، وكان من بطولة سولاف فواخرجى، فراس إبراهيم، أحمد شاكر، عابد فهد، فتوح أحمد وأحمد سلامة، ومن تأليف قمر الزمان علوش.

نقد هلامي

الأميرة المنكسرة رحلت بعد أن تركت روائع شارك في صنعها رجال حقيقيون، ليسوا مدمرين كالذين عرفتهم في حياتها
الأميرة المنكسرة رحلت بعد أن تركت روائع شارك في صنعها رجال حقيقيون، ليسوا مدمرين كالذين عرفتهم في حياتها

دار المسلسل حول قصة حياة المطربة أسمهان الحقيقية وانتقالها من بيروت إلى القاهرة للعمل كمطربة وممثلة، ليلمع اسمها بجوار شقيقها فريد الأطرش وتطرّق المسلسل إلى علاقتها ببعض الفنانين الذين عاصروها وحتى وفاتها الغامضة.

للجمال فئة قليلة من الحرّاس والسّدنة والمريدين، ولكن للقبح فئة كثيرة من الغوغاء والانكشاريين والمرتزقة

كنت ولا زلت أعتقد أنّ قدر الأعمال الرفيعة في غالب الأزمان هو الجحود والنكران، وأنّ مجمل صنّاعها لا يسلمون من الأذى حتّى يُراق على جوانبهم الانتقاد اللاّذع والتهجّم المجاني.

دع عنك التشاؤم – قلت لنفسي – وتخلّص من هذا الحكم الجائر في حقّ المنشغلين بالمتابعات النقديّة والقراءات الفنيّة، فلقد تطوّرت الذائقة وأصبح المبدع يستمع ويستمتع بكلمة “أحسنت” قبل أن توضع القطنتان في أذنيه ويرحل إلى الأبد.

لم أكد أنهي هذا التقريع الذاتي في حقّ نفسي حتّى فتحت جريدة وقرأت المانشيت التالية بخطّ نافر وعريض “مسلسل أسمهان سقطة موجعة للدراما السورية”.. وطفق الناقد العتيد يعدّد “عيوبا” في العمل مستخدما “الحواضر” والكليشيهات من تلك المصطلحات والعبارات التي يأتي بها من النمليّة النقديّة من نوع: حركة الكاميرا سيئة، الإيقاع بطيء، الأداء نمطي ومترهّل، النص مفكّك، الإخراج ضعيف.. وهلمّ جرّا من توصيفات هلاميّة، شبه نقديّة، عديمة الممسك والتي تمنّيت لو قالها على أحد المنابر أمام متخصّص، فيطلب منه شرح ذلك علنا والبرهنة على ما كتبه بالتفصيل الدقيق والممنهج والمملّ.. يعني هات، اشرح لي لو سمحت.

لماذا هذه الاستباحة؟!.. هل ينبغي التذكير بأنّ النقد أمانة أخلاقيّة ومعرفيّة وإبداع واحتراف وتخصّص، بأيّ حقّ يجرأ الواحد على التعرّض لعمل من الواضح أنّ كلّ مشهد فيه درس بتأنّ وعناية فائقين، بأيّ حقّ تصادر آراء المشاهدين من غير الذين أخذتهم العزّة بالتخلّف؟!

أقلّ ما يقال في مسلسل “أسمهان” بأنّه عمل مسؤول وقد كتبت عنه وكالة الأنباء الفرنسية في القاهرة بأنّه قفزة نوعيّة في صناعة الدراما السورية والعربية عموما.

لست منتجا لهذا المسلسل ولا طرفا في صناعته كي أدافع عنه متحمّسا أمام نقد جارح، ولكنّي أعتبر نفسي معنيّا بأيّ ضوء يهزم ظلام القبح ويتصدّى لزحف التفاهة والتغزّل بالأوهام.

قد يكون كاتب هذا المقال النقدي – الذي لا أعرفه شخصيّا ولا يحضرني اسمه – ضحيّة لذائقة كرّستها أعمال رديئة فباتت مقياسا لقراءة ما شذّ من أعمال تحاول الاختلاف وتسعى لاحترام المتلقّي دون ثرثرة بصرية وحركية ولفظية، دون تشويق بدائي يحاكي الحكواتي في سير لم توجد إلاّ في مخيّلاتنا المهزومة، ربّما فات بعض ممتهني النقد الفنّي أنّ العمل الناجح هو ذاك الذي لا تنتبه فيه لعنصر فنّي يعلو صوته دون غيره على بقية العناصر كأن تبدي إعجابك بحركة الكاميرا وحدها أو بالألوان وحدها أو بالنص وحده.. الخ.

حرّاس الجمال

مسلسل "أسمهان" أنصف الراحلة ولم ينصفه النقاد
مسلسل {أسمهان} أنصف الراحلة ولم ينصفه النقاد

للجمال فئة قليلة من الحرّاس والسّدنة والمريدين، ولكن للقبح فئة كثيرة من الغوغاء والانكشاريين والقنّاصة والمرتزقة، أمّا المعركة بين الطرفين فكرّ وفرّ وهي حامية الوطيس منذ بدء الخليقة، ولن تحطّ أوزارها حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

شريفة زهور كشفت في كتابها أن أسمهان خضعت لتدخلات الرجال في حياتها، وأنها لم تتمكّن من التخلّص من إملاءاتهم

الحديث عن أسمهان يحيلنا إلى التوقف عند ثقافة الإلغاء القسري أو التثبيت القسري التي تتمتّع بها الذهنيّة السائدة منذ زمن ضارب في القدم، والتي عانت منها أسمهان نفسها قبل أن يبلّلنا صوتها في مواسم الجفاف والتصحّر وقبل أن تغرّد الطيور حبّا واحتفاء بمعجزة اسمها الحياة، ففي مقارنة ذكية بين شخصيتها وبين شخصية أم كلثوم، ترى شريفة زهور في كتابها “أسرار أسمهان.. المرأة، الحرب، الغناء”، أن صاحبة أغنية “يا حبيبي تعال الحقني” خضعت لإملاءات الرجال من أشقاء ومقرّبين في حياتها، وأنها لم تتخلّص من تدخلاتهم، خلافا لأم كلثوم التي فرضت نفسها على عائلتها ومنعتها من الاقتراب من شؤونها الشخصية.

شكرا لـ”أسمهان” صوتا وسيرة ومسلسلا، رغم قولهم بأنّ الأميرات والأمراء ينطربون ولا يطربون.. شكرا لعائلتها الكريمة التي أنهت كلّ لغط قد يثار حول خصوصياتها وقبلت بـ”آمال” ملكا لكلّ عشّاق الجمال والنّقاء وموضوعا راقيا من مواضيع الدراما الراقية نحارب بها أزمنة التسطيح والتهريج والفجاجة.

رحلت الأميرة المنكسرة وتركت روائع شارك في صنعها “رجال حقيقيون” (وليسوا مدمرين كأولئك الذين عرفتهم في حياتها)، وذلك عبر أغنيات لن تنسى، مثل “عذابي في هواك” و”عاهدني يا قلبي” من ألحان زكريا أحمد، و”مجنون ليلى” من ألحان محمد عبدالوهاب، و”يا لعينيك” من ألحان رياض السنباطي، و”فرّق ما بينا الزمان” من ألحان محمد القصبجي، و”ياللي هواك” و”كان لي أمل” من ألحان فريد الأطرش.

17