مهرجان قرطاج السينمائي ينتصر للحياة ويقارع الموت

ما من مهرجان يشبه جمهوره كما هو مهرجان قرطاج السينمائي. وليس عبثا أن يستعير مؤسسه اسم مدينة قاومت الدمار والموت على مدى قرون ثلاثة، منذ أن أسستها الأميرة الفينيقية عليسة، ليكون اسما لمهرجان سينمائي في بلد صغير كتب له أن يكون مهدا لأول مشاهد حية صورها مخترعا الكاميرا السينمائية الأخوان الفرنسيان لوميير لأحياء العاصمة تونس عام 1896، وتبعته إقامة أول عرض سينمائي عام 1897. اليوم يتحدى التونسيون الموت القادم مرتديا قناع كورونا ليقدموا لعشاق السينما 120 شريطا تعرض في 16 قاعة.. فقط، لا تنس كمامتك.
أعلن المدير العام لمهرجان قرطاج السينمائي، المخرج رضا الباهي، أن الدورة الـ31 هي دورة الاحتفاء بالسينما التونسية وبذاكرة المهرجان، مبيّنا أن المهرجان سيتيح للجمهور مشاهدة أهم الأفلام السينمائية التي عرضت منذ الدورة الأولى سنة 1966.
هذه الدورة التي ستنطلق يوم 18 من الشهر الحالي وتختتم في الـ23 منه، تؤكد إصرار القائمين على أعرق مهرجان سينمائي في أفريقيا والعالم العربي، على تأدية الرسالة والحفاظ على صون الأمانة التي أودعها مؤسسه الطاهر شريعة العاشق الأزلي للسينما مع رفاقه منذ عام 1966، حين كانت السينما أمرا لا يخص إلا النخبة.. والآن صارت خبزا يوميا، تتزاحم العامة على شبابيكها في جوع مزمن لكل ما “يسد الرمق” من جمال وسحر وإدهاش.
‘لا تنس كمامتك وتوخّ كل أساليب الاحتياط والتباعد والوقاية وأنت تقتني تذكرتك للمثول أمام تلك الشاشة الساحرة التي لا تغني عنها كل الشاشات الرقمية والندوات واللقاءات الافتراضية’.. نصيحة لم تغفل إدارة المهرجان عن إسدائها في ظلّ صعوبة الوضع السياسي والصحّي الذي تشهده البلاد خاصة مع تفشّي وباء كورونا الذي فرض بروتوكولا صحّيا استثنائيا.
عشق مزمن
مع ذلك، ولأن السينما انتصار للحياة ومقارعة للموت، فسيعرض المهرجان 120 فيلما قديما لمخرجين تونسيين وأجانب، وسيتم تكريم عدد من المخرجين. وتقام هذه الدورة في 16 قاعة وتحت بروتوكول صحي استثنائي حيث تغلق كل القاعات يوميا في حدود الساعة السابعة مساء مع تعقيم القاعات بعد عرض كل فيلم. هذا التحدي أكده المدير التنفيذي للمهرجان في دورته الحالية، اقتداء ومشيا على خطوات مهرجان البندقية الدولي الذي لم يتخلف عن موعده رغم الوباء الذي يحصد يوميا آلاف الأرواح من الإيطاليين.. نعم لا يصبح الكبار كبارا إلا إذا اقتدوا بالكبار ولم يستصغروا من أنفسهم.
ترى، من أين جاء هذا العشق المزمن للسينما في بلد ضعيف اقتصاديا ومحدود الموارد المالية؟ كيف “تفشى وباء الإدمان على الصورة السينمائية” في دولة لا تكاد تنهض من تخلفها غداة الاستقلال، وهي، بالكاد، توفر الرغيف والصحة والتعليم لأبنائها بعد أن جثم الاستعمار الفرنسي على صدرها زهاء قرن إلا ربع من الزمن؟ كيف يفكر شبابها المستنير آنذاك في إنشاء مهرجان بحجم قرطاج الحالي، وليس في رصيدهم أفلام متأصلة تسمح بهذا “التطاول”؟
الحقيقة أن السينما التونسية وبداياتها لم تكن “تونسية جدا”، ذلك أن روادها الأوائل لم يكونوا جميعهم من “أبناء البلد” بالمفهوم المصري للكلمة بل من “الخواجات”، إذ كانت البداية عام 1896، حينما صوّر مخترعا الكاميرا الأخوان لوميير مشاهد حيّة للعديد من أحياء العاصمة تونس، تبعه قيام التونسي اليهودي ألبير شمامة شيكلي بإقامة أول عرض سينمائي بتونس عام 1897.
وفي عام 1908 افتتحت قاعة أمينة بارتي، وهي أول قاعة عرض سينمائي في البلاد، ولم تعرف تونس الإنتاج السينمائي إلا حينما صور شيكلي أول فيلم تونسي قصير عام 1922 وحمل اسم “زٌهرة”، أما أول فيلم تونسي طويل فقد تم إنتاجه عام 1937، وحمل اسم “مجنون القيروان” من تأليف بول هيف وحسن رشيف وإخراج كروزي وبطولة عبدالمجيد الشابي ومحيي الدين مراد وفليفلة الشامية وسلمى رضا وعلي حسن.
وكان على التونسيين القائلين بـ”وطنية الإنتاج السينمائي” لحما ودما، أن ينتظروا 10 سنوات بعد الاستقلال أي إلى سنة 1966، كي يُنتج فيلم “الفجر” وهو أول فيلم تونسي طويل عقب تخلصها من الاحتلال الفرنسي، وهو للمخرج عمار الخليفي، وبطولة أحمد حمزة والطاهر حواص والحبيب الشعري وحطاب الذيب وجميلة العرابي وعبدالرزاق عبيريقة والمنجي يعيش وتوفيق العبدلي.
ومثل جميع الأفلام التاريخية التي توثق روائيا لحقبة مفصلية من الزمن، يسرد فيلم “الفجر” قصة ثلاثة شبان من طبقات اجتماعية مختلفة؛ مصطفى، عامل ينتمي إلى الطبقة الشعبية، وهادي، شاب برجوازي احتضن القضية الثورية امتثالا لقيمه ومبادئه، وحسن، الملتزم بالقضية الوطنية.
ثقل اليسار الثقافي
انتمى الثلاثة إلى خليّة لمقاومة المحتل الفرنسي وأفرجوا عن معتقلين تونسيين وهاجموا مخزنا للأسلحة وقتلوا متواطئا في هذه المعركة، غير أن المواجهة غير المتكافئة خلفت مقتل هادي وحسن أثناء تلك العمليات، والتحق مصطفى بالثوار إلى أن تم القبض عليه وأعدمته السلطات الفرنسية المحتلة.
ويذكر أن أهم أدوار هذا الشريط أسندت إلى كل من أحمد حمزة (مطرب تونسي)، والطاهر حواص، والحبيب الشعري (ممثل مسرحي)، وحطّاب الذيب، وجميلة العرابي، وعبد الرزاق عبيريقة، والمنجي يعيش وتوفيق العبدلي.
وما يحسب للسينما الناشئة في تونس أنها دخلت، ومنذ بداياتها، في سجالات سياسية ومطارحات فكرية لم تصنفها كسينما دعائية كما هو الحال في مصر الخمسينات والستينات، فلقد صدحت بالرأي المخالف للخطاب الرسمي، على الرغم من كونها ممولة من طرف القطاع العام والجهات الحكومية الرسمية. وهو ما يدلل على ثقل اليسار الثقافي التونسي آنذاك، وامتلاكه زمام المبادرة قبل انتكاسته في أواخر سبعينات القرن الماضي، وإتاحة الفرصة للتيارات الإسلامية بالبروز، وذلك تخوفا من “تغول” اليسار التونسي المتأثر بنظيره الفرنسي عقب حركة مايو 1968.
وفي هذا الصدد، يذكر أن شيخ المخرجين التونسيين عمار خليفي، وخلافا لعدة مخرجين تونسيين، فإنه اهتم بالتاريخ التونسي، وألف عدة كتب في هذا المجال؛ من بينها “المنصف باي” (أهم الملوك الوطنيين في الثلاثينات) و”بنزرت.. معركة بورقيبة”، كما ألف كتابا عن السيرة النضالية للزعيم التونسي صالح بن يوسف، الذي عارض توجه بورقيبة بعد استقلال تونس سنة 1956، وتعرض لأول عملية اغتيال سياسي في ألمانيا في بداية عقد الستينات من القرن الماضي.
ترى من أين جاء هذا العشق المزمن للسينما في بلد محدود الموارد وكيف تفشى وباء الإدمان على الصورة السينمائية؟
كبر المهرجان الذي أسسه الطاهر شريعة في منتصف ستينات القرن الماضي بعد أن كان ينتقده المتوجسون ويعتبرونه قفزة في الفراغ، كان يحبو مناشدا سينما بديلة في العالمين العربي والأفريقي. احتفى في دورته الأولى بالسينما الطموحة والحالمة بأفلام تشبه شعبها فمنح جائزته الأولى للمخرج السنغالي عصمان صامبي على شريطه “السوداء” ثم، وفي الدورة التي تلته عام 1968 حجب المهرجان جائزته الأولى لعدم توفر الجودة الكافية، وذلك في تحد واضح يبرز مدى مصداقية المهرجان وحفاظه على ما بعث من أجله.
ويعود الفضل لمهرجان قرطاج في التعريف بشاب سينمائي واعد، قادم من مصر واسمه يوسف شاهين، وذلك عن فيلم “الاختيار” عام 1970. كما عرّفت هذه التظاهرة السينمائية الأعرق في البلاد العربية بأسماء من قبيل اللبناني برهان علوية، الموريتاني محمد هندو والمصري توفيق صالح، عبر منحها التانيت الذهبي لأعمالهم الروائية الطويلة.
وكان على التونسيين أن ينتظروا عشرية كاملة بعد تأسيس مهرجانهم الواعد للفوز بالجائزة الأولى من خلال شريط “السفراء” للمخرج التونسي الناصر القطاري.
فرسان الكاميرا
توالت الدورات التي كانت تعقد كل سنتين بالتناوب مع مهرجان دمشق السينمائي، وكذلك مع أيام قرطاج المسرحية منذ الثمانينات، إلى أن اشتد عوده وصار ينتظم كل عام منذ 2015 في إشارة واضحة إلى وفرة الإنتاج وجودته إلى الدرجة التي يتجرأ فيها القائمون على قرطاج على عقد دوراته، وبانتظام كل عام. ولم يتغيب المهرجان إبان أحداث تاريخية هزت البلاد كثورة 14 يناير 2011 إذ انتظمت الدورة عند موعدها وفي قاعة الكوليزي الشهيرة.
وحتى عند الهجوم الذي استهدف حافلة الأمن الرئاسي في شارع محمد الخامس، أحد أكبر شوارع العاصمة عام 2015، أقيم المؤتمر الصحافي داخل خيمة نصبت خصيصا لهذه المناسبة في ذات الموقع. ورغم أن الهجوم تزامن مع فعاليات المهرجان في دورته السابقة إلا أن المنظمين حرصوا على مواصلة العروض السينمائية كما أصر ضيوف المهرجان على البقاء ومتابعة الأفلام رغم إعلان حظر التجول آنذاك.
وفي يوبيله الذهبي، احتفى مهرجان أيام قرطاج السينمائية الذي تأسس للتعريف بالسينما العربية والأفريقية بنجوم تركوا بصمة في عالم الفن السابع على المستويين العربي والأفريقي كما كان لسينما العالم حضورها أيضا من خلال الأفلام الآسيوية والروسية.
ولم ينس قرطاج، في عيده الذهبي، فرسان الكاميرا الذين اعتلوا منصة تتويجه من الأفارقة والعرب، فكرم منهم الأحياء كمحمد ملص وميشال خليفي ونوري بوزيد وفريد بوغدير، والأموات مثل يوسف شاهين والطيب الوحيشي ومحمد هندو، وغيرهم، وذلك عبر عرض أعمالهم التي شكلت ذاكرة للمهرجان وزادت من ثقله كواحد من أهم وأعرق التظاهرات الفنية في ما بات يعرف بسينما الجنوب.
لم ينس القائمون على المهرجان والغيورون عليه التفكير في إحداث منتديات وورشات عمل للنظر في هيكلته وضمان استمراره بنفس جديد، دون التفريط في مبادئه وأسسه التي قام عليها فعملوا على إدماج الجيل الجديد في البرمجة واقتراح آفاق جديدة من شأنها أن تضخ دماء شابة لهذا المكسب الثقافي والفني الذي تفتخر به البلاد، وتعتبره أمانة وطنية يتوارثها جيل بعد جيل.
مهرجان قرطاج في عيده الذهبي لم ينس فرسان الكاميرا الذين اعتلوا منصته من أفارقة وعرب فكرّم الأحياء منهم والأموات
وتأكيدا لهذا المسعى الذي يربط الماضي والحاضر عبر إنعاش الذاكرة، فإنه ولأول مرة منذ تأسيسها، تُفتتح الدورة الحادية والثلاثون لأيام قرطاج السينمائية يوم 18 ديسمبر الحالي، بعرض 6 أفلام قصيرة تتراوح مدّة عرض كل فيلم منها بين 10 و15 دقيقة.
وهذه الأفلام هي “المصباح المظلم في بلاد الطرنني” لطارق خلادي، وهو اقتباس حر عن “المصباح المظلم ” أحد أقسام فيلم “في بلاد الطرنني” إنتاج سنة 1973.
ويستوحي الفيلم الثاني “الوقت الذي يمر” لسنية الشامخي، أجواءه من فيلم “شمس الضباع” للمخرج رضا الباهي الذي شارك في مهرجان كان السينمائي سنة 1977، وتحصّل على العديد من الجوائز الأخرى من بينها الجائزة الكبرى في مهرجان دمشق السينمائي.
ويتابع الجمهور أيضا فيلم “على عتبات السيدة” لفوزي الشلي، وينطلق من فيلم “السيدة”. وتكمن طرافة هذا الفيلم في أن البطولة اسندت لصاحب الفيلم الأصلي محمد الزرن رفقة الممثل هشام رستم.
ويُعرض أيضا للحاضرين في حفل الافتتاح فيلم “الماندا” لهيفل بن يوسف، وهو عمل مستوحى من فيلم يحمل نفس العنوان للمخرج السنغالي عصمان صمبان.
ويحمل الفيلم الخامس عنوان “سوداء 2” للمخرج حبيب المستيري، عمل مستوحى من فيلم عصمان صمبان الحائز على أول تانيت ذهبي لأيام قرطاج السينمائية سنة 1966.
وفي الشريط الأخير المخصّص لحفل الافتتاح، يُعيد المخرج علاءالدين بوطالب في فيلم “السابع” صياغة محاكية لفيلم “العرس” للمسرح الجديد، الذي أسسه الفاضل الجزيري والفاضل الجعايبي ومحمد إدريس. ويُعدّ عرض أفلام قصيرة في افتتاح أيام قرطاج السينمائية سابقة في تاريخ هذه التظاهرة السينمائية العربية والأفريقية العريقة.
ذاكرة جيل

هذه الرغبة في التجديد والخروج من الرتابة والجمود أكسبت المهرجان حيوية تفتقدها مهرجانات عربية مرادفة كالقاهرة ودمشق، وجعلته دائم التجدد ومنفتحا على الجيل الجديد الذي تولت عناصر شبابية منه زمام الأمور في اللجان التنظيمية والإعلامية، وورشات العمل القائمة على كيفية صيانة وترميم الأشرطة القديمة حفاظا على هوية المهرجان ومخزونه دون اللجوء إلى خبرات أجنبية.
الدورة الواحدة والثلاثون لمهرجان قرطاج السينمائي 2020 هي بالفعل “دورة التحدي” كما أطلق عليها منظموها هذا العام، إذ وإلى جانب جائحة كورونا وما تقتضيه من بروتوكولات صحية تستلزم المزيد من الحيطة والحذر دون استسلام، سيتعرف جمهور المهرجان إلى أفلام ينجزها أصحابها أول مرة، وهي “الرجل الذي باع ظهره” لكوثر بن هنية، “المدسطنسي” لحمزة العوني، و”الهربة” لغازي الزغباني، أما الأفلام الوافدة فهي “200 متر” للفلسطيني أمين نايفة، و”ليلة الملوك” لفيليب لاكوت من الكوت ديفوار.
ويفتح المهرجان هذا العام ذاكرته للجيل الجديد عبر باقة من الأفلام التي سبق أن أدهشت جمهورها وكللت بالجوائز والتقديرات في السنوات التي كانت تعتبر فيها صناعة فيلم سينمائي بمثابة نضال حقيقي. ولا يزال مهرجان قرطاج يحتفظ في أرشيفه بنوادر وطرائف وأحداث تستحق أن ينجز حولها فيلم وثائقي طويل بل أفلام تخلد تلك اللحظات المفعمة بالوجدان، والتي لا يمكن أن توجد إلا في السينما.
لم ينس قرطاج في عيده الذهبي فرسان الكاميرا الذين اعتلوا منصته من أفارقة وعرب فكرم منهم الأحياء والأموات
أيام قرطاج السينمائية ربت وثقفت أجيالا على حب الفن السابع إلى درجة الوله، وكونت جيلا من النقاد وحتى المخرجين من أولئك الذين كانوا بالأمس فتيانا ويافعين يتزاحمون أمام شبابيك الصالات ويترجون موظفيها للدخول دون تذاكر.
لم يعرف العالم العربي مهرجانا سينمائيا في مثل سحر وجاذبية وعفوية قرطاج، ذلك أن الطاهر شريعة ورفاقه المؤسسين لم يكن يخطر في خلدهم سجادة حمراء أو طاقم سموكن، بقدر ما كانوا يحلمون بسينما تشبه تلك الوجوه المتعبة والمتطلعة إلى ما يقولها ويعبر عنها.
وبالفعل، كان المهرجان في مستوى تطلعات الطامحين لجعله ماكينة سينمائية منتجة، وليس مجرد مناسبة سنوية لتجميع الأفلام وعرضها فقد تمخضت عنه ورشتا “شبكة” و”تكميل” كان الهدف منهما تقديم منح مساعدة على إتمام المشاريع السينمائية من الأقسام الرئيسية لأيام قرطاج السينمائية التي ما فتئت تتطور من دورة إلى أخرى. هذا ودعمت ورشة “تكميل” منذ سنة 2014 تاريخ إنشائها 44 مشروعا في مرحلة ما بعد الإنتاج. أما “شبكة” فدعمت 9 مشاريع قيد التطوير منذ سنة 2018.