"الفن الشافي".. كتاب يثبت أن الجمال منقذ للعالم

سيجيء يوم قد ندرك فيه أن لا وجود للطب بل للفن فقط.
الخميس 2020/12/10
من يشاهد الجوكوندا يغدو موناليزا في وجه من الوجوه

عندما نتحدث عن المتعة التي نجدها في قراءة كتاب أو سماع قصيد أو مشاهدة لوحة فعادة ما نعتبر ذلك انطباعا قد نفسّره بإحساس مرهف أو وعي حادّ أو ثقافة واسعة. ولكننا لا نملك تفسيره تفسيرا علميّا لاعتقادنا أن الفن يقاس بالذوق لا بالعلم. وها أنّ بعض أطبّاء الأعصاب يؤكدون بالتجربة أن الاستماع إلى سيمفونية لموزارت مثلا أو تأمل جدارية لمايكل أنجلو أو مشاهدة مسرحية لشكسبير يمكن أن تغير دماغ المتلقّي. كما أنهم يبيّنون العلاقة بين الفنّ والدماغ والجمال والصحّة.

كان الفلاسفة القدامى أوّل من نبّهوا إلى أثر الجمال والفن على مجريات حياتنا وأمزجتنا وحالتنا الصحية والذهنية، حتى وإن اختلفوا في تعريف الجمال وكيفية إدراكه. وها أن علوم الأعصاب تؤكّد اليوم ما ذهبوا إليه واستشعروه بالفطرة والملاحظة والتأمّل، وتكشف كيف يتواصل دماغ الإنسان مع الإبداع الفني في شتى أشكاله وأجناسه، وكيف يوسّع رؤيتنا إلى العالم ويغيّر ما بنا داخل مسعى شفاء وانبعاث.

الفارس وجواده

كانت فكرة مجرّدة كسائر الأفكار الفلسفية التي لم يثبتها بالفعل والمراس أحد، ولا أحد يعي الجلبة التي تتولد بداخلنا وتفجّر الموادّ التي تتصادم في أعماقنا حين يلتقي نظرنا بلوحة أو منحوتة. فلقاؤنا بعمل فني، أيّا ما يكن جنسه، يشبه إلى حدّ بعيد لقاءنا بصديق أو قريب أو حبيب، فهو غالبا ما يولّد فينا شعورا ما، يتراوح بين القبول والنفور، المحبة والكره، ولكنه لا يتركنا أبدا في وضع لامبالاة.

جاء العلم ليؤكد أن مشاهدة لوحة فنية مثلا تنشّط ملكتين من ملكات الدماغ، هما المتعة والمعرفة، ويثبت أن الفن يريح الإنسان ويحسّن مزاجه. ذلك ما أوضحه عالم طبّ الأعصاب الفرنسي بيير لوماركي في كتاب بعنوان “الفن الشّافي”.

الفن يفيد الدماغ، إذ يحور قدراته ويخلق ذخرا فكريا يساعد على تأخير آثار الشيخوخة وعلى التذكر وغيره

إذ يبين أن للدّماغ وظيفتين، فهو من جهة يسمح لنا بأن نبقى على قيد الحياة، ومن جهة ثانية يمنحنا الرغبة فيها، ما يعني أنهما وظيفتان ضروريتان، يكمّل بعضهما بعضا، ويشبهان الفارس وجواده، حيث يمثل الأول الدماغ الفكري، بينما يرمز الثاني إلى المتعة والمكافأة.

فإذا ما ألحّ الفارس على توجيه جواده وجهة ما ولم يُطعه الجواد، فذلك في رأي لوماركي أمر جيّد، فبذلك تنشأ الأخطاء، والرغبات التي تلهينا وتنأى بنا عن العقلانية، ولكنها تحدّدنا كبشر، نخطئ ونصيب. كذلك العمل الفني الذي يتوجه إلى ملكتي دماغنا، فينحت إحداها ويصقلها ويساعدها على اكتشاف ما لا تعلم، ويداعب الثانية فيمنحها المتعة والمكافأة.

هذه الظاهرة تمّت دراستها طويلا في مجال الموسيقى، وأثبت لوماركي أنها حاضرة أيضا في حقل الفنون المرئية، من خلال بعض التجارب التي أجراها لقياس ردة فعل شخص يرتاد متحفا للفنون، كنبض القلب والتعرّق، أمام لوحة يشاهدها، فإن استحسنها، انخفض توتّره النفسيّ، لأن إنتاجه للكورتيزول (الهرمون الذي يستعمله للقيام في الصباح وبدء نشاطه) في تلك الحالة ينخفض، مثلما ينخفض خفقان قلبه ويرتخي جسده، بينما يفزر الدّماغ، حيث جانب المتعة والمكافأة، الدوبامين (هرمون فرحة الحياة).

كما أن الإندورفين (الذي يمنح الشعور بالاطمئنان والراحة) والأوسوتوسين (هرمون التعلق والمحبة) اللذين ثبت إفرازهما خلال الاستماع إلى معزوفة موسيقية، يمكن أن يكونا هما أيضا ضمن الترسانة الكيمياوية التي تتفاعل بداخلنا حين نكون أمام لوحة فنية.

وإذ يذكّر بيير لوماركي بالفيلسوف الألماني روبرت فيشر الذي سبق أن شرح نظريا ما يعتري الفرد أمام عمل فني، فلكي يؤكد أنه يشاطره الرأي حين يقول إن كل فرد يتقمص العمل الذي يشاهده، فمن يشاهد الجوكوندا يغدو موناليزا في وجه من الوجوه، لكونه يحمل بداخله، مهما كانت ثقافته، شيئا من العبقرية البشرية، ذلك أن الفن يخاطب الجميع، والعلم أثبت ذلك، فهو يُحَسُّ ويُعاش، بصرف النظر عن التلقي، حسّيّا كان أم كيمياويّا أم إدراكيّا، وفي رأيه إن القول بأن الفن مقصور على النخبة لا معنى له.

أثر الفن على الصحة

لقد أثبتت بحوث عالم البيولوجيا الإيطالي جاكومو ريزّولاتّي أن بالإمكان تقويم الأثر الفني من خلال سماته الجمالية، وأبعاده، واعتباره جميلا دون أن نحبّه بالضرورة، ما يعني أن ملكتي الدماغ قد تشتغلان بشكل مستقل عن بعضهما بعضا، وتُبقيان على قنوات تواصل تقع في منطقة يعرّفها ريزّولاتّي بالجزيرة “إنسولا”، كمقر للتطابق الجمالي مع الغير، الذي يوحّد بين الفكر والعاطفة.

بيير لوماركي يبين في كتاب "الفن الشافي" أن للدّماغ وظيفتان ضروريتان، يكمّل بعضهما بعضا، ويشبهان الفارس وجواده، حيث يمثل الأول الدماغ الفكري، بينما يرمز الثاني إلى المتعة والمكافأة.

أما دراسة لوماركي فتؤكد التواصل بين الذهن والانفعال، وتبين أن الفن يفيد الدّماغ، إذ يحوّر قدراته ويخلق ذخرا فكريا يساعد على تأخير آثار الشيخوخة، مثلما يساعد على التذكر حتى حينما يصيب المرض القدرات الدماغية. فعندما نتأمل لوحة أو نسمع قطعة موسيقية أو نقرأ رواية فإن بعض مناطق الدماغ تشرع في العمل، لتتفاعل مع مناطق أخرى تنشّط الذاكرة، وترغّبنا في الابتكار، وتجعلنا نحسّ بمتعة.

أما ممارسة الفن فيمكن أن تقضي على الضّغط النفسي والقلق وحتى الألم، بفضل الهرمونات التي أسلفنا ذكرها. وأما الموسيقى فيمكن أن تساعد على تأخير ظهور مرض ألزهايمر. ومن ثَمّ ينصح بعض الأطباء، وفي مقدّمتهم لوماركي، مرضاهم بارتياد المعارض والمتاحف، بل ثمة من يدوّن ذلك في وصفة طبيّة، كما يصف الأدوية الأخرى، أو يرافق مرضاه إلى المعارض الفنية، والقصور القديمة التي تزخر بلوحات ومنحوتات بديعة.

وكما يغير كِتاب حالتنا النفسية ونظرتنا إلى العالم، يمكن للموسيقى أو الفن التشكيلي أو النحت أن تفعل الشيء نفسه، وتساعدنا على تجاوز همومنا وقت الضيق وآلامنا عند اشتداد المرض، وأن نكون أكثر سعادة في أوقات الصحة والرفاء. فالفن عنوان الجمال، والجمال هو الذي ينقذ العالم.

يقول الفرنسي لوكليزيو، صاحب جائزة نوبل للآداب عام 2008، مؤكدا أثر الفن على الصحة الجسدية والذهنية “سيجيء يوم قد ندرك فيه أن لا وجود للطّبّ، بل للفنّ فقط”.

14