مصطفى الرزاز رسم على غرار الفنان الشعبي ولم يقلده

يرى بعض الفنانين في الفنون الشعبية منجما، من خلال الدخول إليه يمكن التعرف بيسر على عبقرية الشعب من الداخل. ففي تلك الفنون يكشف الشعب عن قدرات خفية تقترب في تأثيرها من تأثير السحر في الحكايات الشعبية.
ولطالما اجتهد الفنانون في مسعاهم من أجل التقاط الأحجار الكريمة التي صقلها الشعب بخبرته الإنسانية وغنى أساليبه في البحث عن لحظات الجمال الآسرة. غير أن النجاح لم يكن من نصيب الجميع.
ذلك ما كان الفنان المصري مصطفى الرزاز على دراية به بسبب تعمقه في دراسة الفنون الشعبية أكاديميا، كما أنه تأثر بالفنون الشعبية في أعماله الفنية في مجالات الرسم والنحت والخزف والحفر الطباعي. لا يجد الرزاز موهبته في فن بعينه، بل في كل تلك الفنون مجتمعة وإن كانت معارضه الشخصية في مجال الرسم هي الأكثر.
ابن جيله الباحث عن هوية
وإذا ما كان جيل الرزاز قد ركز على التراث الشعبي منطلقا لتأكيد الهوية الوطنية، فإن الرزاز حاول أن ينأى بنفسه عن الجميع من خلال اعتماد أسلوب يمزج بين مفردات الفن الشعبي والمشاهد المعاصرة برؤية فنية منحازة إلى تجريد العمل الفني من طابعه الحكائي. وهو الطابع الذي عُرف به الفن المصري الحديث.
هناك محمول حكائي يمكن التماس معه غير أن العمل الفني لا يروي حكاية.
تلك ميزة لن تجدها في أعمال فنان مصري آخر. يمكنك أن ترى أبطال الحكايات الشعبية وأيضا يمكنك أن تُسحر بحكاياتهم التي تتسلل إليك من خلال علاقات الأشخاص في اللوحة، ولكن اللوحة نفسها لا تروي تلك الحكايات. هناك غرض آخر من القيام برسمها. وهو غرض جمالي يغلق باب الحكاية ليفتح أمامنا أبوابا عديدة أخرى.
الأقنعة والطيور والخيول والأسماك هي مفرداته التي يكثر من استعمالها، وهي لا علاقة لها بالحكاية وإن تعثرت بها فإن ذلك يعني أن قطيعة قد وقعت مع السرد وعليك أن تبدأ من جديد.
تلك لعبة يجيدها الرزاز ليضمن سلامة عالمه الذي يبدو كما لو أنه مرآة لعالم يمكن أن يحل محل عالم الحكاية الشعبية لولا أنه كان على درجة عالية من الخصوصية فهو عالمه الشخصي. العالم الذي تمتزج فيه مصادر الإلهام بالوقائع الشخصية التي هي على قدر كبير من الترفع الشعري.
ولد الرزاز عام 1942. تخرج من المعهد العالي للتربية الفنية بالقاهرة، وحاز على شهادة الماجستير في الفنون والتربية. عام 1974 أنجز دراسات في الفنون والحرف بعد حصوله على منحة من جامعة أوسلو. ثم نال شهادة الدكتوراه في الفن الشعبي من جامعة نيويورك.
أقام أول معارضه الشخصية عام 1966 وذلك بقاعة أخناتون التي احتضنت عددا من معارضه التي تزيد على الثلاثين معرضا. ومارس العمل الأكاديمي أستاذا للتصميم في كلية التربية الفنية بجامعة حلوان كما أصبح عميدا لكلية التربية النوعية بالدقي. وحصل على جائزة النيل في الأعوام القليلة الماضية. اهتم كثيرا بالجانب المعرفي في ما يتعلق بنظريات جماليات الفنون وبالأخص الفنون الشعبية.
وكتب عشرات البحوث، مشاركا في المؤتمرات والندوات الفنية في مختلف أنحاء العالم العربي. معارفه النظرية أثرت في تشكيل شخصيته الفنية فكانت تجربته مزيجا من التأثير المباشر لتقنيات الفنان الشعبي التى تسنى له أن يدرسها عن قرب وتلك الخبرة المتأنية التي اكتسبها من دراسته لفنون الرسم والخزف والحفر الطباعي والزخرفة. فكان في الوقت الذي يعمل فيه على إنجاز عمله الفني يمارس نوعا من البحث يتخطى من خلاله المؤثرات الجمالية المباشرة.
منذ رحلته الأولى إلى بلاد النوبة، وقد كان طالبا، انشدّ الرزاز إلى جماليات الحرف اليدوية التي يشكل الخزين التاريخي مصدر إلهام لها فكان يتنقل بين القرى والبلدات المصرية الصغيرة باحثا عن تلك العوامل المشتركة التي تربط الفنان الشعبي بالفنون المصرية القديمة، الإسلامية والقبطية التي درسها وأثرت كثيرا في أسلوبه الفني.
ولأن الباحث الدارس كان يتقدم الفنان المعجب فقد كان استلهام جماليات الفنون الشعبية لديه لا يتم بهدف إحياء تلك الفنون التي قد انقرضت أجزاء منها بل سعى الفنان إلى أن ينتقل من الاستلهام الشكلي إلى محاولة اكتشاف قوانين الخيال الذي كان يحرك يد الصانع.
كانت موهبة الصانع في التعامل مع المواد من خلال تقنيات بعينها هي الباب الذي فتحه الرزاز على خيال الفنان الشعبي المصري والذي سيكون في ما بعد بمثابة مساعده الخيالي في إنجاز أعماله الفنية.
الفنان في رحلته السعيدة
“الحوادث السعيدة” ذلك مصطلح اخترعه الرزاز ليختصر من خلاله علاقته التجريبية بالعمل الفني. يقول “أثناء العمل أكون معرضا لأي حادثة قد تُفسد اللوحة. فمثلا دائما ما أفكر أن أزيل بعض الحبر من أماكن معينة وأترك الباقية فتبرز اللوحة بشكل مختلف وتكرار الأمر يجعلك تتعلم من أخطائك ويبرز لديك خبرة جديدة، فالعمل الفني عمل ابتكاري وكلما كان ذهن الفنان حاضرا لأي متغير استطاع توظيفه بشكل جيد هنا وخرج العمل الابتكاري الجيد”.
بروح تجريبية يتعلم الرزاز من أخطائه كما لو كان يرغب في أن يرى حلولا جمالية أخرى لم تكن متاحة بشكل تقليدي. “تجليات من القاموس البصري” وهو عنوان معرضه الشامل الذي أقامه هذا العام، يمكن أن يعبر عن طريقته في النظر إلى مفردات العمل الفني باعتبارها خزائن لممكنات شكلية كثيرة. فهي تظهر بأشكال عديدة عبر محطات
حياته وتحولات أسلوبه الفني. فالمفردة التي يستعيرها من الفنان الشعبي ليست هي دائما في كل عمل تظهر فيه كما أنها لا تمت بصلة إلى وجودها الأصلي. الحوادث السعيدة تتدخل، في أحيان كثيرة، في إعادة صياغة المفردات البصرية في تجلياتها. وهو ما يمكن أن يوسع من آفاق القاموس البصري. تلك هي لغة الفنان التي يسعى من خلالها إلى إنتاج عالم لا يعيدنا إلى عوالم الفن الشعبي عبر عصوره المتعاقبة.
هل يحتاج مَن يرسم الخيول إلى الاطلاع على عشرات المخطوطات التاريخية التي اضطلع مؤلفوها بمهمة التعرف على أنوع الخيول وسلالاتها وتطور أشكالها؟ نعم إذا كان من نوع مصطفى الرزاز الذي سعى في معرضه “طيف الفرس” إلى أن يلخص تجربة خمسين عاما قضاها وهو يرسم الخيول التي استعارها من القص الشعبي ليكسبها صفات تنسجم مع تجربته الفنية. الرزاز ليس رساما تقليديا للخيول.
عرف الرزاز كيف يفر بخيوله من مشاهدها الواقعية ليزج بها في عالم أثيري تطبق عليه الأفكار الصوفية من كل ناحية. تلك محاولة يمكن أن تعرف بفن الرزاز الذي يحلق بمفرداته كما لو أنها كائنات قد وجدت من أجل أن ترسم ومن أجل أن تكون صورتها مصدرا لخيال لا يحيل إلى الواقع بقدر ما يسعى إلى خلق واقع مجاور هو واقع الكتابة الذي جعل من الحصان كائنا أسطوريا. وهو ما حول الرزاز نفسه إلى صانع أساطير.
كل لوحة من لوحاته تنطوي على أسطورة، يمكن تخيل أنها كانت حية يوما ما وفي متناول الجميع. سيتخيل الرزاز نفسه رساما قادما من عصور مختلفة. إنه رجل الحوادث السعيدة الذي سيكون أثره كبيرا على الرسم الحديث في مصر.