الطفل الغني أم الفقير.. من الأقدر على تحمل مصاعب الحياة

معالجة التوزيع غير المتكافئ للموارد تساعد في تقليل اختلال الأداء المعرفي.
الخميس 2020/11/12
تربة الفقر والخصاصة لا تثمر قدرات ذهنية متطورة

فندت دراسة حديثة إحدى القناعات السائدة حول أن أبناء البيئات الفقيرة هم الأكثر ذكاء باعتبار أنهم الأقدر على تحمل أعباء الحياة والأكثر تكيفا مع الظروف الصعبة. وأكدت أن الأطفال الذين ينشأون في أحياء فقيرة، يتراجع أداؤهم المعرفي لأن الإجهاد المزمن من شأنه أن يعطل نمو الدماغ عن طريق إزالة حساسية المستقبلات وإتلاف الأنسجة، ما يدعو إلى معالجة التوزيع غير المتكافئ للموارد لتقليل اختلال الأداء المعرفي.

أظهرت دراسة نُشرت منذ أيام قليلة في مجلة “جاما نتورك أوبن” أن الأطفال الذين ينشأون في أحياء فقيرة، يقل ويتقلص أداؤهم في مجموعة من الوظائف المعرفية، مثل القدرة اللفظية ومهارات القراءة والذاكرة والانتباه، ولديهم أحجام دماغية أصغر في المناطق المعرفية الرئيسية مقارنة بأولئك من الأحياء الأكثر ثراء.

ويفنّد هذا البحث، بما لا يقبل الجدل، تلك المقولات السائدة حول أن أبناء البيئات الفقيرة هم الأقدر على تحمل أعباء الحياة والأكثر تكيفا مع الظروف الصعبة، وبالتالي فهم الأكثر ذكاء، على اعتبار أن أحد تعريف الذكاء هو القدرة على التكيف.

هذه الدراسة التي أجراها باحثون في جامعة واشنطن ونظر الفريق في بيانات تصوير الدماغ والاختبار العصبي المعرفي لـ11875 طفلا تتراوح أعمارهم بين 9 و10 سنوات (48 في المئة منهم من الإناث)، من 21 موقعا داخل الولايات المتحدة، لا تعكس المناطق الحضرية والضواحي، والتركيبة السكانية للولايات المتحدة فحسب، وإنما تنطبق أيضا على بقية بلدان العالم.

وأوضح الباحثون أن الإجهاد المزمن يمكن أن يعطل نمو الدماغ عن طريق إزالة حساسية المستقبلات وإتلاف الأنسجة. وكتبوا “تشمل المسارات المحتملة الأخرى الحرمان العاطفي أو المادي، والاضطرابات في العلاقة بين الوالدين والطفل والتغذية والتعرض للسموم”.

وسقطت بذلك تلك السرديات المروجة لفكرة تزعم أن الفئات الشعبية وأبناء الأحياء الفقيرة والمحرومة أكثر ألمعية وتفوقا من أبناء الطبقات الميسورة، وهي مقولة متداولة كرستها الروايات والأعمال الدرامية ذات المنحى الرومانسي.

وكأن الفقراء يريدون أن ينتقموا لأوضاعهم المزرية بالنسج والإكثار من الروايات التي تتحدث عن “عبقرية” أبناء الضواحي المعدمة، والقادمين من أسر تعاني الفاقة والحرمان والتفكك.

الإجهاد المزمن والحرمان العاطفي يمكن أن يعطلا نمو الدماغ عن طريق إزالة حساسية المستقبلات وإتلاف الأنسجة

والأمثلة كثيرة في كتب السير الذاتية والأفلام والروايات ذات الطابع الرومانسي الحالم، إلى درجة الإيحاء بأن حياة البؤس وحدها هي الكفيلة بأن يتخرج منها المبدعون والمتفوقون، حتى ليُخيل للمرء أن الفئات الميسورة قد حرمها الله نعم الفطنة والتفوق والذكاء.

واستبدت أكذوبة تفوق الفقراء بأصحابها واستفحلت حتى أصبحت قناعة لدى بعضهم.. قناعة مفادها أن حياة القسوة والحرمان من شأنها أن تصنع الأبطال والرجال الأكفاء. وروج أصحاب هذه المقولة لفكرتهم عبر أمثلة أقل ما يقال فيها أنها تحفظ ولا يقاس عليها، كما سوقوا لادعاءاتهم ودعموها بنصوص وآيات وأحاديث نبوية على شاكلة “اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم”.. والحال أن المقصود مما جاء في الأثر هو ضرورة عدم الاستسلام لحياة الترف والرفاهية تحسبا لما قد يأتي من أزمات وصعوبات.

الأغنياء قد يعجبون بحياة الفقراء وسكان الأحياء الشعبية، على سبيل الغرابة والنظرة السياحية، وقد يشاركونهم العيش لمدة أيام لمجرد الفضول وخوض التجربة كما نشاهد في برامج تلفزيون الواقع، أما الفقراء فلا يشاركون الأغنياء عيشهم إلا في الخيال والأفلام هندية النزعة وقصص ألف ليلة وليلة كما حصل مع شخصية “أبي عزة المغفل” الذي حملوه وهو مخمور، في لعبة متقنة من الخليفة وأعوانه، ووضعوه في قصر الرشيد، وحينما استفاق من الصدمة بدأ يتصرف وكأنه الرشيد بل أصبح أكثر قسوة من الخليفة نفسه.

Thumbnail

وبعيدا عن هذه الحادثة التي تروج لمقولة “اعطني مالا، أعطيك سلطة ونفوذا” فإن الفقراء أنفسهم قد أخذتهم العزة بالنفس وأصبحوا يغازلون فقرهم ويسوقون له عبر الأغاني والأمثلة الشعبية مما يجعل الأمر في غاية الخطورة لما يروج له ممن تقاعس وقبول بالمسلمات دون بذل أي جهد في تغيير الواقع.

وبالعودة إلى الدراسة التي أجراها باحثون في جامعة واشنطن، وجد أن ضعف الأداء المدرسي والمعرفي بين الأطفال الذين نشأوا في بيئات فقيرة. وتسلط هذه الدراسة الضوء على الأهمية الخاصة لسياق الحي في نمو الطفل، بغض النظر عن دخل أسرة الطفل.

وتشير نتائج الدراسة إلى أن السياسات التي تعالج التوزيع غير المتكافئ للموارد بين الأحياء قد تساعد في تقليل الاختلال في الأداء المعرفي أي أن المعالجة تبدأ بتحسين الوضع المعيشي في سبيل تحسين وتطوير الأداء المعرفي، وذلك بعكس الرأي المساند لفكرة تحسين القدرات الذهنية من أجل تحسين الأوضاع المعيشية.. وهذا ما نقرأه ونشاهده عادة في الأعمال الروائية والدرامية التي تطرح سيرة ملحمية لشخصية عصامية استطاعت التفوق على أوضاعها بذكاء فطري خارق.

ليس الأمر استهتارا بالقدرات الذهنية التي تنمو وسط بيئات اقتصادية واجتماعية صعبة، لكن الواقع الذي أثبتته الدراسات الحديثة بالحجة والبرهان، يشير إلى أن تربة الفقر والخصاصة لا يمكنها أن تثمر قدرات ذهنية يعول عليها في بناء الأسر والمجتمعات، ذلك أن الإنسان يحتاج إلى تغذية سليمة في الجسد والفكر والعاطفة.

وتؤكد الأبحاث الحديثة أن الفقر يغذّي نفسه، وذلك بسبب أن العبء النفسي للندرة، أي ندرة الغذاء والفرص المتاحة التي تغلّف حياة الفقراء تؤثر في الدماغ البشري، بحيث تؤدي إلى ضعف الإدراك، مما يقود الفقير في نهاية المطاف إلى اتخاذ أسوأ القرارات، وبالتالي الاستمرار في دائرة من الفقر الذي يعيد إنتاج نفسه. إن الفقر هو أصل الداء ومصدر كل آفة في المجتمع تمتد من التفكك الأسري وصولا إلى تناول السموم ومن ثم الجريمة والإرهاب.

21