الثقافة تعوّل على الفعاليّات الجادّة والأنشطة المبتكرة

فترة التوقف الطويلة بسبب جائحة كورونا منحت الجهات التنظيمية فرصة نادرة لالتقاط الأنفاس والتركيز على تجديد الملتقيات والمهرجانات والجوائز.
الجمعة 2020/09/11
على الفعاليات الثقافية والفنية أن تتجدد

مع توقف الأنشطة الثقافية والفنية خلال فترة الحجر الصحي، فقد كان الفضاء الإلكتروني ملاذا للكثيرين لإقامة اللقاءات والتظاهرات والمعارض وغيرها من الفعاليات، رغم أنها لم تحقق المتابعة الكافية. ولذا يبقى رهان الثقافة والفنون اليوم هو طرق تجديد الفعاليات وتعميق العمل على أشكالها ومضامينها وأهدافها لاستقطاب الجمهور حال انقضاء أزمة فايروس كورونا.

تسبب توقف معظم الأنشطة الثقافية العربية قرابة ستة أشهر في الكثير من الخسائر، المعنوية والمادية، خصوصا الفعّاليات المرتبطة بالاقتصاد والتسويق مثل معارض الكتب، والمقترنة بالتأثير الجماهيري والحضور المباشر كمهرجانات المسرح.

لكن الأزمة تحمل في طياتها شيئا إيجابيّا، وهو ضرورة إعادة النظر في فلسفة الملتقيات والكرنفالات العربية برمّتها، قبل انطلاقها من جديد بكامل طاقتها مرة أخرى لضمان الاستفادة.

صورة غير مكتملة

شهدت الأيام القليلة الماضية عودة بعض الأنشطة العربية على استحياء أو في وعاء إلكتروني مثل معارض الفن التشكيلي والكاريكاتير المشتركة، ومهرجان المونودراما عن بُعد، وحلقات فنون الأراجوز، ومؤتمر الشباب الدولي لمسرح الدمى والعرائس.

وأعلنت جهات تنظيمية عن اقتراب عودة فعاليات ثقافية خلال الأسابيع المقبلة، منها: معرض اتحاد الناشرين في القاهرة، نوفمبر المقبل، ومؤتمر اتحاد الناشرين العرب قبل نهاية العام الجاري، ومعرض القاهرة الدولي للكتاب في يناير المقبل، وغيرها.

شهدت الأيام القليلة الماضية عودة بعض الأنشطة العربية على استحياء أو في وعاء إلكتروني
شهدت الأيام القليلة الماضية عودة بعض الأنشطة العربية على استحياء أو في وعاء إلكتروني 

 ولا تزال الصورة غير مكتملة بعد بخصوص تفاصيل هذه التظاهرات التي جرى الإعلان عن خطوطها العريضة فقط. وتبدو هناك رغبة في إطلاقها في مواعيدها، لتحريك المشهد ووضع حد لفترة الجمود السابقة.

لم تكن الفعاليات والأنشطة العربية والدولية في أفضل حالاتها، لأسباب كثيرة فنية وتنظيمية، وعلى الرغم من جوانب القصور التي اعترتها فإن توقفها التام على مدار أشهر
طويلة أدى إلى تضرُّر قطاعات الثقافة وألوان التعبير الفني جميعها بشكل كبير.

وبلغت الخسائر مداها الأقصى في مجال صناعة النشر بسبب غياب المعارض العربية وانحسار الطباعة إلى أضيق الحدود وعدم القدرة على ترويج المنتج الإلكتروني البديل بكفاءة، رغم العروض الاستثنائية والتنازلات الملموسة من جانب دور النشر العربية، كذلك الحال في معارض كتب الأطفال، وفنون الكوميكس، وغيرها من الفعاليات القائمة على أسس تجارية واتفاقات متبادلة ومعدلات للمبيعات.

الحشد والشعارية

ومثلما لم تحقق الصيغة الرقمية العائد المأمول منها في ميدان الكُتب، شكلا ومضمونا، فإن الأنساق الإبداعية والفنية المختلفة لم تقدم وجها جديدا ولم تلق رواجا في ظهورها الافتراضي الباهت عبر البث الإلكتروني وفضاء الإنترنت.

لم تكن حفلات وندوات وأمسيات وعروض الـ”أون لاين” الباردة الضيقة غير ترضية هامشية مؤقتة، ووجبات خفيفة غير مشبعة، لجمهور بات محروما تماما تحت شعار “خليك في البيت” من ممارسة حياته الطبيعية، ومن التفاعل الحيّ النابض مع نوافذ الثقافة وحقول الإبداع المتنوعة.

تقترب الكرنفالات العربية المتعددة من استكمال إجراءات تحققها وعودتها من جديد فعليّا، لتستقطب حولها المثقفين والمبدعين والمهتمين، وتطلق رسائلها المعرفية والأدبية والتنويرية، فهل ستعود مثلما كانت قبل فترة التوقف، بالآليات التنظيمية والهيكلية والتخطيطية والاستراتيجيات الفنية نفسها، طالما أنها استوفت شروط الانطلاق، وتواءمت مع بروتوكول التعايش مع الإجراءات الصحية، والتباعد الاجتماعي..، أم أن هذه التظاهرات الكبرى تطمح إلى الظهور برؤية مغايرة، تتخلص فيها من خطاياها السابقة، وتضمن لها حضورا أكثر فاعلية وجدية وتأثيرا في الخارطة العربية؟

لا تزال القوة الناعمة تعوّل على الدور الذي تلعبه الأنشطة والمؤتمرات الدولية في مدّ الإشعاعات الحضارية خارج الحدود، وتعزيز التعاون الثقافي بين الشعوب، وتأصيل الظواهر الإبداعية بالانفتاح على الآخر، ومتابعة مستجدات الآداب والفنون حول العالم، ولا تزال هناك مؤسسات ودول قادرة على قيادة القاطرة وتوفير الإمكانات بسخاء واستضافة العشرات من التظاهرات والجوائز المرموقة، وبذل المزيد من الجهود من أجل بناء الجسور وتقريب وجهات النظر، الأمر الذي ينعش الآمال في ثقل عربي منتظر جرّاء فعاليّات مركزة جادّة، وأنشطة ثقافية جوهرية.

أمراض متجذرة

ضرورة إعادة النظر في فلسفة الملتقيات والكرنفالات العربية برمّتها قبل انطلاقها من جديد
ضرورة إعادة النظر في فلسفة الملتقيات والكرنفالات العربية برمّتها قبل انطلاقها من جديد

منحت فترة التوقف الطويلة الجهات التنظيمية فرصة نادرة لالتقاط الأنفاس والتركيز على الحقيقي والمثمر في الملتقيات والمهرجانات والجوائز المقبلة، فمراجعة الذات دون مواربة ضرورة قبل عودة الحياة إلى الكرنفالات العربية، وإلا فإنها ستكون نسخة مكررة من التظاهرات السابقة التي عانت آفات كثيرة أثرت بالسلب على مردودها، وأكسبتها سمعة سيئة.

ودفعت هذه الخصال البعض إلى مقاطعتها، والارتماء في أحضان فعاليات وجوائز بديلة ليست عند مستوى حسن الظن.

على الكرنفالات العربية في ثوبها الجديد التخلص من أمراض الماضي، وأبرزها الصخب والدعائية والثرثرة والحشد والشعارية، واجترار القديم والمعروف بالضرورة، والتكريس للاحتفاء بالراحلين، وتغليب المجاملات في انتقاء الضيوف والمتحدثين والمكرمين، وإهدار فكرة التنوع بمعناها الواسع الخصيب، وعدم الموضوعية في تصفية الحسابات مع المخالفين، والاهتمام بالكمّ العددي على حساب الكيف النوعي، وبالتمدد الأفقي على حساب التعمق الرأسي، ما جعل منها موائد للكلام والضجيج، لا للدرس الهادئ والطرح التحليلي المتعمق.

عانت بعض التظاهرات على مدار سنوات طويلة من غياب الاستراتيجيات التخطيطية الاحترافية، ومن الانحياز للمستقر الثابت على حساب الثوري المبتكر، بسبب البيروقراطية والروتين العقيم، وسيطرة الموظفين والإداريين والمرضيّ عنهم سياسيّا، وأهل الثقة لا الكفاءة، على المناصب الرفيعة في المؤسسات الثقافية العربية.

الكرنفالات العربية

لم يعد هناك المزيد من الوقت لإهداره في حرث هذا الفراغ، فالظروف القاسية التي يمر بها العالم ألغت ما كان يسمى بالترف والرفاهية، حتى في الثقافة والإبداع، وعلى إدارات المؤتمرات والمهرجانات والجوائز العربية أن تعي جيدا في مساعيها المستقبلية أن القيمة المجردة هي المعيار الوحيد المقبول في قياس النجاح والفشل، والمفيد والحقيقي والخالص لوجه الثقافة والإبداع هو فقط ما يستأهل الالتفاف حوله.

وتكمن اللبنة المهمة لبلورة هذا البناء في الأهلية، بمعنى إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح، وإسناد إدارة السياسات الثقافية عموما إلى مبدعين ومختصين بالعمل الثقافي غير تابعين للاستقطاب.

وليس عيبا أن تستفيد المؤسسات الرسمية في هذا الأمر من دروس المهرجانات المستقلة والفعاليات الثقافية التفاعلية الناجحة، التي تنظمها هيئات وكيانات خاصة وجماعات أدبية حرة ومراكز أجنبية، حيث يضطلع بكافة المهام فريق من الفنيين الاحترافيين المستقلين، المنخرطين في قلب المشهد الثقافي المعاصر، ما يضمن لهم المصداقية والسلاسة والنجاح في أدائهم، والقدرة الفائقة على الإقناع والتأثير في المتلقي.

14