الثقافة الرقمية تدفع الأفراد إلى التخلي عن خصوصياتهم

مع انتشار التكنولوجيا ووسائل التواصل وإحكام شبكة الإنترنت السيطرة على العالم، تقلص هامش الخصوصية للأفراد بشكل كبير، حيث نشأت ثقافة إنسانية جديدة تلغي الخصوصيات تحت شعار الحرية، فصار البشر من مشرق الأرض إلى مغربها، عرضة للاستغلال الاستهلاكي وللتحكم النفسي الذي يصل حد التوجيه.
تدور أفكار وتأملات أندرياس برنارد الأكاديمي الألماني بمركز الثقافات الرقمية التابع لجامعة ليوفانا في كتابه “نهاية عصر الخصوصية” حول وضع الذات في الثقافة الرقمية، حيث الإجراءات والخدمات والأجهزة التي أصبحت في الوقت الحاضر بديهية، وتبدو كأنها أمر طبيعي في ظل استخدامها المتوفر في كل مكان بصورةٍ متزايدة. ومع ذلك فإنها تمثل في تاريخ أنماط تمثيل الفرد لذاته تطورًا حديثًا بشكلٍ مدهش.
ويذكر برنارد أن من التحق قبل ربع قرن بالمدرسة أو الجامعة، مثلا، سيتذكر مدى محدودية الخيارات المتاحة آنذاك ليعرض الفرد شخصيته وميوله وقناعاته على الملأ. أما اليوم فتبدو هذه الفترة في رأي برنارد كأنها عهد سحيق، يقول “صارت حقبة زمنية غريبة، وبسرعة البرق صار موقع ‘فيسبوك‘ منذ خريف عام 2006 شبكًة تفتح أبوابها أمام الجميع وأصبحت الهواتف الذكية متوافرة منذ عام 2007 وأصبحت متاجر التطبيقات الإلكترونية متوافرة منذ عام 2008. وبذلك تكوَّنت ثقافة رقمية واسعة النطاق، تبحث مقالات صحافية وأكاديمية باستمرار أساليب ظهورها وتحتفي بها أو تشيطنها. غير أنه نادرًا ما يتم التطرق لأصل تاريخها المعرفي، وإن حدث ذلك فإنه يكون من منظور تاريخ الكمبيوتر”.
التحكم الرقمي
انطلاقا من هذه الرؤية يحاول برنارد في كتابه “نهاية عصر الخصوصية”، الذي ترجمته سمر منير وصدر عن دار صفصافة، بحث تأصيل مثل ذلك التاريخ المعرفي واندماج تقنيات الوسائط الرقمية في تاريخ العلوم الإنسانية.
يرى برنارد أن هناك شيئا ما يلفت الأنظار في أساليب تمثيل الذات ومعرفة الذات في أيامنا هذه سواء في “الملفات الشخصية” في وسائل التواصل الاجتماعي، وكذلك أيضًا في وظائف تحديد الموقع الموجودة في الهواتف الذكية، والتي يتم استخدامها بشكلٍ متنوع، وقياسات الجسم وفقًا لحركة “القياس الكمي للذات”، وهو ما يتمثل في حقيقة أنها جميعًا ترجع إلى طرق تم ابتكارها في علم البحث الجنائي وعلم النفس والطب النفسي منذ نهاية القرن الـ19.
اليوم أصبحت تقنيات تسجيل البيانات ـ التي كانت مقتصرة لوقتٍ طويل على السلطات الشرطية والعلمية من أجل ضمان الوصول إلى مجموعة من الأشخاص يثيرون الانتباه ـ تخص أي مستخدم للهواتف الذكية وشبكات التواصل الاجتماعي. ومع ذلك لم تعد الأوصاف الشخصية المتعلقة بوصف المظهر الخارجي للأشخاص والمرتبطة ببيانات سيرهم الذاتية وأجهزة نظام التموضع العالمي عبر الأقمار الصناعية “جي.بي.أس” وأجهزة القياس، التي يتم تثبيتها على الجسم بصفٍة دائمٍة، بمثابة أدوات لاستقصاء الشبهات الجنائية؛ بل إنها تُستخدم اليوم بمفهوم اللهو أو بمفهوم تواصلي أو يتم استلهامها اقتصاديًّا أو عاطفيًّا.
مع انتشار تقنية الوسائط الإلكترونية لم تعد عملية حصر البيانات الشخصية وإعادة نقلها مرتبطة بالأزمات أو بالشرطة
يشير برنارد إلى أنه “في ظل ظروف تقنية الوسائط الإلكترونية الراهنة، لم تعد عملية حصر البيانات الشخصية وإعادة نقلها مرتبطة بمواقف الأزمات. فقد تطوَّر شعورٌ عام بالتوق إلى إجراء تسجيل ذاتي للبيانات وتحديد الفرد لمكانه تقنيًّا وإجراء قياسات ذاتية للجسد تقنيًّا وهو الشعور الذي تقارب مع الاتجاه البيوسياسي نحو أن يقوم الأفراد بأنفسهم بعملية تحسين النسل”.
ويستدرك متسائلا: بمَ تبوح هذه الميول عن الاستعدادات الداخلية للأفراد في الوقت الحاضر؟ ما هي أدوار وتأثيرات القيام طوعًا بمثل تلك العمليات التنظيمية؟ ويقول “عندما نتتبّع من يعتبرون على الأرجح أهم واضعي نظريات تقنيات السلطة الحديثة، نجد أن هناك حقبتين كبيرتين قد تشكلتا في تاريخها. حيث تحدث ميشيل فوكو عن ‘السلطة التأديبية‘ والتي أصبحت تحاصر الأفراد في الفضاءات المكانية للمؤسسات حديثة النشأة وتقدم لهم أوامر تنظيمية؛ أي في المدارس والثكنات العسكرية والمصانع والمستشفيات والسجون. وقد تبددت حقبة السلطة التأديبية بصورة متزايدة على مدار القرن العشرين وهو ما أكد عليه جيل دولوز في مقاله ‘هوامش على مجتمعات السيطرة‘ عام 1990”.
“نحن نمر بأزمة في كل الأوساط الاجتماعية التي تحاصرنا”، هكذا كتب دولوز ووضع “أشكال السيطرة السريعة للغاية ذات المظهر التحرري” محل الفضاءات المكانية السابقة لضبط النظام؛ فوضع “الشركات” المرنة والمنفتحة محل المصنع ووضع “التدريب المستمر طوال العمر” محل المدرسة. إلا أن هذا المقال ذا الرؤية الثاقبة، والذي مرَّ عليه في تلك الأثناء ما يزيد على 25 عامًا، قد تم تأليفه في عهد لم تكن صورة الإنسان الجديدة في الثقافة الرقمية وعلوم الأحياء وعلوم الأعصاب قد تشكلت فيه بعد.
فن الحكم
حول إمكانية التحكم في الذات في الثقافة الرقمية، يلفت برنارد إلى أن آليات الاستبطان تنتشر في كل مكان، يُثبِّت فيه الناس تصوراتٍ معيارية لحياتهم عن طريق قيامهم بالتتبع الذاتي، ويقومون من تلقاء أنفسهم بعمليات تسجيل خارجية عن طريق الاعتناء بـ”ملفاتهم الشخصية”. يمكن لهذه الإجراءات أن تعزز من استقلالية الفرد؛ حيث أنها تحرره من أي قوى وسيطة. إلا أنها تساهم، من ناحية أخرى، في تنفيذ الإجراءات التنظيمية على الفرد بتعجل. هناك مجموعتان من التصورات تعتبران مفيدتين في المقام الأول في هذا التنفيذ للإجراءات التنظيمية وهما المجموعتان اللتان تتحركان على العتبة الفاصلة بين الحاضر والماضي؛ ألا وهما “المخاطرة” و”الوقاية”.
إن السبب في أن الكثير جدًّا من الناس يرتدون في الوقت الحاضر أسورة لياقة بدنية، أو يختبرون ذبذبات أجسادهم بالاستعانة بالهاتف الذكي أو يقومون بالتأمين على الحياة “المستند إلى سلوكياتهم”، أو يأمرون بتحليل الجينات الخاصة بهم لمعرفة هل هناك أمراض وراثية محتملة، يتمثل في السعي إلى خفض المخاطر الصحية عن طريق الوقاية. وفي الوقت الحاضر، أصبح هناك توافق اجتماعي بشأن الضرورة الملحة لاتخاذ تدابير وقائية تتعلق بالأمن والحالة الصحية الجيدة.
وهذا يتعارض بصورة ملحوظة مع التقبل المتزايد دائمًا لوجود بعض الانحرافات في المظهر الجمالي، فلم تعد الأنظار تلتفت لمن يذهب إلى المكتب بقصة شعر “موهوك” حمراء اللون أو بجسد عليه وشوم، لكن القيام بنزهة بالدراجة دون ارتداء خوذة أو استهلاك السجائر بانتظام أو عدم الاكتراث بالوقاية من مرض سرطان الأمعاء في عمر الخامسة والأربعين يدفع الناس المتواجدين في البيئة المحيطة إلى هز رؤوسهم في استنكار ويثير انتقادهم الصريح، وربما كان هذا سيثير قبل ربع قرن أصداء معاكسة لذلك.
ويضيف برنارد أن المعرفة الوقائية تفيد في التحكم في الأفراد والسيطرة عليهم عن طريق سلطات عليا وهو ما احتاط له مونستربرج وواطسون وهيرولد. غير أن استخدام الأفراد لهذه التدابير الوقائية على وجه التحديد طواعية، من أجل التحكم في ذواتهم والسيطرة عليها، يعد أمرًا محوريًّا للوضع الراهن للذاتية. حيث انعكس “التنميط العنصري” الذي تجريه الشرطة في محطات القطار ووسائل المواصلات العامة ـ والذي يخضع الأشخاص ذوي السمات العرقية المحددة لمراقبة مستمرة وذلك بناءً على الشك التنبّؤي ـ في الملفات الشخصية التي أنشأها أصحاب شبكة “لينكد إن” لأنفسهم وفي جهاز الإرسال الذي يعمل بنظام “جي.بي.أس” ويتم تثبيته في قدم “من يمثل خطورة ما” وفي أساور اللياقة البدنية التي يرتديها من يقومون بالتتبع الذاتي.
أي أن ذلك “التأثير المتبادل بين تقنيات السلطة وتقنيات الذات” ـ والذي أبرزه ميشيل فوكو في تأملاته الفكرية عن فن الحكم ـ يتمتع بحضورٍ خاص في الثقافة الرقمية. حيث كتب فوكو “يمكن أن نطلق على نقطة الاتصال، التي يرتبط فيها شكل توجيه الأفراد عن طريق آخرين بطريقة إدارتهم لذواتهم، اسم الحكم”. وهو ما يعني بالنسبة لـ”الحكوماتية” في العصر الحاضر ما قاله توماس ليمكه “إن الحكم لا يشير بالدرجة الأولى إلى قهر الذاتية وإنما إلى إنتاجها ‘الذاتي’ في المقام الأول أو بشكلٍ أدق إلى اختراع ودعم تقنيات ذاتية يمكن أن تقترن بأهداف الحكم”.