شيءٌ يُذكَر

نفتقد في زمننا هذا إلى ذاك الخطيب الذي، ومهما كان تخصصه، يتكلم معنا دون أن ينظر في ورقة بين يديه أو يقرأ خلسة من شاشة “أوتو كيو” أمام عينيه، إلى متحدّث يحسن سلب الألباب وحصد اهتمام من يستمع إليه ويشاهده عبر لغته الرصينة وأفكاره المتسقة مع ما يريد قوله، وتعابير وجهه ولغة جسده.
لا أستطيع منع نفسي، حين أشاهد خطباء اليوم، من تذكر تفاصيل ذلك التمثال البرونزي للخطيب الروماني أولوس ميتيلوس وهو يلقي كلماته ويده مرفوعة عاليا وأصابع يده الأخرى منثنية على القماش المطرز بنقوش المعرفة. ولكن من أين سيأتي هذا المتحدث، وعالم الخطابة والبلاغة عالم قائم على المعرفة أولا وعلى أصالة الكلمات التي سيرتجلها صاحبها. لا على التقليد والأعماق المهزوزة؟ وكيف يمكنك أن تصنع سياسة جديدة أو تعلّم أجيالا جديدة وأنت تتلعثم في ما تريد قوله؟
اهتمام البشرية بالتواصل فاق كل اهتماماتهم الأخرى، فابتكروا له منصات إلكترونية عديدة، كما يعلم القارئ الكريم، تتسابق في ما بينها على تقديم الجديد من التقنيات يوميا، لكن من خلفها تتوارى جبال الكلام العفوي الخضراء والزرقاء الخفيفة التي شيّدها الناس عبر التاريخ. يمحوها الوقت ويمحوها عدم اهتمام الناس بتربية أبنائهم على فن الخطابة، ولعلهم فعلوا هذا نتيجة يأسهم من الخطباء من كل صوب واتجاه. لكنهم أغفلوا أن قوة المبنى قائمة على قوة المعنى، ولو زرعوا في الأجيال الناشئة “شيئا يُذكَر”، لحرصوا على تعليمهم كيف سيلقيه هؤلاء على مسامع الآخرين.
حسن الخطاب ليس مقتصرا على الإلقاء المباشر وحده، لكنه يشمل كل أشكال التواصل التي لم يعد يفهمها كثيرون إلا على أنها مجرد إيصال المطلوب والسلام. وبتّ تجد اليوم من يرسل لك على تطبيق “واتساب” ليرميك بكلمات هي إلى الصخر أقرب، بينما يكون غرضه طلب خدمة منك. وأخرى تجعلك تحك رأسك لتفهم ما الذي تقصده وهي تشرح لك موقفا سياسيا ما.
وفي رمضان من رمضانات العرب المسلمين السابحين في ملكوت الله، لاحظ أحد المشايخ أثناء إلقائه لخطبة الجمعة شخصا مسنّا يبكي وتنهمر دموعه كالمطر، كلما ارتفعت وتيرة الخطبة وكلما أرعد صوت الخطيب، حتى شعر الأخير بالزهو بأنه قادر على التأثير إلى هذه الدرجة. وبعد الانتهاء من الخطبة والصلاة اقترب الخطيب من الرجل وسأله: ما الذي أعجبك في خطبتي يا عم؟ فقال له جار يجلس قرب الرجل: المعذرة شيخنا، اكتب له ما تريد على ورقة، لأنه أصم ولا يسمع بالمرّة.
فعلام كان يبكي ذلك العجوز الأطرش يا ترى؟