البيض لم يأتوا إلى أفريقيا لنشر الحرية

"قلب في الظلمات" رواية تفضح جرائم الرجل الأبيض في الكونغو من أجل الحصول على العاج.
الأربعاء 2020/04/29
البيض أجرموا في حق أفريقيا

كانت الإمبراطوريات الاستعمارية تزعم أن الهدف من هيمنتها على الدول الضعيفة هو نشر القيم الحضارية والإنسانية الرفيعة. غير أن التاريخ أثبت بالأدلة القاطعة أن تلك الإمبراطوريات استغلت قوتها العسكرية لكي تنهب ثروات العديد من البلدان، مسلطة على شعوبها مظالم ومجازر رهيبة. وهذا ما فضحته العديد من الروايات الشهيرة مثل رواية “قلب في الظلمات” للبريطاني جوزيف كونراد.

خلال الأيام الماضية، أعدت قراءة رائعة جوزيف كونراد “قلب في الظلمات” (في الترجمة العربية: قلب في الظلام، لكني أفضل الجمع على المفرد) في ترجمتها الفرنسية. وهي الرواية التي استوحى منها المخرج الأميركي الشهير فراشيسكو كابولا فيلمه الذي يحمل عنوان “القيامة الآن”.

وعندما أنهيت هذه الرواية، شعرت كما لو أنني لم أقرأها من قبل. وهذا ما تتميز به الأعمال الإبداعية العظيمة حيث إنك تشعر في كل مرة تعيد قراءتها بأنك تحتاج إلى قراءتها مرة أخرى لتسبر أغوارها، وتستجلي خفاياها.

جرائم البيض

جوزيف كونراد انتصر للأفارقة المضطهدين من البيض الذين نهبوا ثرواتهم وارتكبوا في حقهم أبشع الجرائم
جوزيف كونراد انتصر للأفارقة المضطهدين من البيض الذين نهبوا ثرواتهم وارتكبوا في حقهم أبشع الجرائم

كان كونراد قد كتب ذات مرة يقول “إن طبيعة معرفتي، والإيحاءات والإشارات التي تتضمنها أعمالي، مُتّصلة مباشرة بظروف حياتي العملية، أو بالأحرى بعلاقات بسيطة، وعابرة للغاية، أكثر مما هي متصلة بتجربة معيشة”. والواضح أن رواية “قلب في الظلمات” تعكس هذه القولة. ويقول كتّاب سيرة كونراد إنه كان وهو طفل يطيل النظر في خارطة القارة الإفريقية. ثم ذات مرة وضع إصبعه على نهر الكونغو الذي بدا شبيها بثعبان هائل الحجم، وقال وكأنه يتحدث إلى نفسه “عندما أكبر سوف أكون هناك”.

وفي عام 1890 وكان آنذاك في الثالثة والثلاثين من عمره، أجرى كونراد اتصالات في بروكسيل، وبمساعدة من سيدة تدعى مارغريت بارادوفسكا، حصل على عقد عمل يمكنه من السفر إلى الكونغو التي كانت تحت هيمنة مملكة بلجيكا. وفي شهر ماي من العام المذكور، انطلق من مدينة بوردو الفرنسية في رحلة استمرت شهرا كاملا، خلالها عاين القسوة التي كان يسلطها الاستعماريون الفرنسيون على سكان البلدان الأفريقية الواقعة تحت هيمنتهم.

وعند وصوله إلى الكونغو، أصيب منذ الأيام الأولى بصدمة موجعة. فقد وجد نفسه في بلاد موحشة، فيها يموت الناس بسبب الجوع، أو بسبب الأوبئة، أو بسبب المظالم الفظيعة المسلطة عليهم من قبل المستعمرين البيض الذين كانوا يعاملونهم معاملة الدواب. وفي رسالة بعث بها إلى مارغريت بارادوفسكا، كتب كونراد يقول “كل شيء هنا مُنَفّر وكريه بالنسبة إليّ، الناس كما الأشياء، ولكن الناس بالخصوص. وكل هؤلاء أصحاب الدكاكين من الأفارقة وتجار العاج لهم غرائز خسيسة. أتأسف لأنني جئت إلى هنا. بل إنني أتأسف على ذلك بكل مرارة”.

وشيئا فشيئا بدأ كونراد يكتشف مشاهد فظيعة من جرائم الاستعماريين البلجيكيين في الكونغو. ويعتقد الكثيرون من المؤرخين أن بلجيكا هي أول بلد اقترف جرائم التصفية العرقيّة في القرن العشرين. ويقول المؤرخ الهولندي جان سانغرس صاحب كتاب “الكونغو، الأسطورة والواقع” إن الملك البلجيكيّ ليوبولد الثاني كان يعتبر الكونغو “ملكيّة خاصّة” به وحده. لذا استعمل كلّ ثرواته التي حصل عليها من هناك في بناء القصور الفخمة، والحمّامات المعدنيّة في مدينة أوستوند شمال البلاد. وقد كلّف القادة العسكريين والجنود المرتزقة الذين جمعهم من مختلف أنحاء أوروبا بإجبار المزارعين الكونغوليين على العمل دون أجر من أجل المملكة البلجيكيّة، فإذا ما رفضوا ذلك قطعت أيديهم وأرجلهم وحملت في صناديق إلى بروكسيل لكي يتأكّد الملك ليوبولد الثاني أن كلّ شيء على ما يرام في المستعمرة البعيدة التي لم يكن يعرف عنها وعن سكّانها شيئا.

رواية "قلب في الظلمات" كتبها جوزيف كونراد بعد رحلته إلى الكونغو وما عاينه من جرائم الاستعمار فيها

في النهاية كانت نتيجة هذه السياسة العنصرية والإجراميّة ملايين من القتلى والجرحى والمشوّهين من أبناء الشعب الكونغولي. وخلال الحرب الكونيّة الثانية استفادت بلجيكا من عائدات مناجم النّحاس والأورانيوم بعد أن أجبرت الكونغوليين على العمل من دون أجر، وفي ظروف قاسية ولا إنسانيّة، الشيء الذي أتاح لها إنقاذ اقتصادها من الانهيار، وجنّب أبناءها غوائل الفقر والجوع.

أما الجريمة الأخرى التي اقترفتها بلجيكا في حقّ الكونغو وشعبها فتتمثّل في اغتيال الزعيم الوطني باتريس لومومبا الذي كان يحظى بشعبية كبيرة. فعند انتخابه أول رئيس للحكومة الكونغولية عام 1958 انزعجت السلطات البلجيكية انزعاجا شديدا من ذلك، وشرعت تعدّ المؤامرات الخسيسة والخبيثة بهدف التخلّص منه. وخلال احتفالات الاستقلال التي انتظمت في الثلاثين من شهر يوليو 1960، خاطب باتريس لومومبا الملك بودوان قائلا إن القانون البلجيكي كان يعامل البيض والسّود بكثير من الاختلاف.

وقد ضاعف ذلك الخطاب الذي تضمّن انتقادات لاذعة للاستعمار البلجيكي من ضغينة سلطات بروكسيل، معتبرة إيّاه “إهانة لحفيد ليوبولد الثاني”. وفي الحين قرّرت القضاء على صاحبه في أقرب فرصة ممكنة.

رحلة في الجحيم

انتقادات لاذعة للاستعمار البلجيكي
انتقادات لاذعة للاستعمار البلجيكي

الشخصية الرئيسية في رواية “قلب في الظلمات” يدعى مارلو. والواضح أنه يجسد شخصية كونراد نفسه. ومارلو يركب الباخرة ليقطع مسافة طويلة عبر النهر بحثا عن كورتز، الرجل الأبيض الذي يعذب ويقتل المئات من أبناء الكونغو من أجل الحصول على العاج.

ويقول مارلو إنه -أي كورتز- صنيعة أوروبا بأسرها إذ إن والدته كانت نصف بريطانية، أما والده فقد كان نصف فرنسي. وكان يعامل السكان المحليين معاملة العبيد الخاضعين له خضوعا تاما بحيث لا يجرؤ أي أحد منهم أن يتفوه بكلمة واحدة، أو أن يأتي بحركة تشي بالغضب أو الرفض أو التمرد. فإن فعل ذلك ضرب حتى الموت، ثم يعلق رأسه على أغصان الأشجار.

ورغم أنه يفاخر بأنه يجسّد صورة الرجل المتحضر، والمتمدن القادم من بلاد تعيش في ظل الديمقراطية، واحترام الحريات العامة والخاصة، فإن كورتز لا يمتنع عن ارتكاب أفظع المجازر، ناشرا الرعب في كل مكان يحل فيه. وأثناء رحلته التي تشبه رحلة في جحيم أرضيّ، يشاهد مارلو، رؤوسا كثيرة معلقة على الأشجار. وكان كورتز يستعذب رؤيتها من خلال نافذة غرفته عندما يستيقظ كل صباح.

وواصفا رحلته، يقول مارلو “السفر في النهر كان شبيها برحلة إلى الوراء باتجاه بدايات العالم عندما كانت الأعشاب والنباتات تغطي الأرض بشكل جنوني، وكانت الأشجار ملكات. مجرى نضبت مياهه. وصمت رهيب، وغابة كثيفة يعجز النظر عن النفاذ إليها. وكان الهواء حارا، كثيفا، فاترا. ولم يكن هناك أيّ فرح في ضوء الشمس”.

ومتحدثا عن أهالي البلاد الذين شاهدهم خلال رحلته، يقول مارلو “كانوا يموتون ببطء، وكان ذلك واضحا بما فيه الكفاية. لم يكونوا أعداء، لكنهم مجرمون، والآن ليس هناك ما هو أرضي، لم يكن هناك سوى أشباح سوداء تعاني من الجوع ومن المرض، ملقاة بأشكال فوضوية في الظل الأخضر الغامق”…

14