الروايات تعري الأباطيل الطوباوية

المدينة الفاضلة التي خطط لها كل ما أفلاطون، والفارابي وظلت مثل حلم جميل لم يتحقق، أو مثل سراب في الصحراء.
وقد شهدت القرون السابقة للقرن العشرين ظهور العديد من اليوطوبيات. لعلّ أشهرها تلك التي ابتكرها البريطاني توماس مور في القرن السادس عشر، وتلك التي ولّدها ما سمّي بـ”عصر الأنوار”، والثورة الفرنسيّة التي أطاحت بالنظام الملكي في عام 1789.
وفي القرن التاسع عشر، ظهرت يوطوبيا العلم. وأصحابها بشروا الإنسانية بأن العلم سوف ينقذها من الأمراض، ومن الأوبئة، ويروض الطبيعة لتكون في خدمتها بعد أن كانت عصية عليها. ومن فرط تمجيده والمباهاة به، أصبح العلم “إله الحضارة الجديدة”. لكن سرعان ما تبين للإنسانية أن العلم قد يؤدي إلى كوارث مرعبة، وإلى حروب مدمرة. وهذا ما أثبته القرن العشرون الذي يبدو بعد رحيله كما لو أنه هشّم من خلال العواصف السياسية الهوجاء، والأحداث المأساوية والحروب المدمّرة التي طبعته، كلّ الآمال والأحلام لدى الشعوب والأفراد على حدّ السّواء.
فالشيوعيّة التي ظهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والتي بدت لأهل السياسة والفكر كما لو أنها قادرة على محو الفروق الطبقية، وإرساء العدالة الاجتماعيّة، وبناء مجتمع سليم من الأمراض والأزمات، تحوّلت عند تطبيقها إلى كوابيس مرعبة. وكانت النتيجة أنظمة مستبدّة، ومعسكرات ومحتشدات رهيبة، ومجازر فظيعة، وتزويرا للتاريخ، وانتهاكات بالجملة لحرية الأفراد والجماعات. لنتذكر ستالين وما فعله بالمعارضين لنظامه في سيبيريا.
ولنتذكر أيضا ماوتسي تونغ وثورته الثقافيّة التي كان ضحاياها يعدّون بالملايين. ولا يفوتنا أن نشير إلى كيم إيل سونغ الذي ترك شعبا يتسوّل لقمة الأرز، وإلى بول بوت زعيم “الخمير الحمر” الذين قتلوا مليونين من أبناء شعبهم، معيدين بلادهم قرونا إلى الوراء. وكلّ هذا تمّ باسم “الثورة”! وجميع هؤلاء كانوا قد ابتكروا أشكالا جديدة من اليوطوبيا، ساعين إلى إقناع شعوبهم ومجتمعاتهم بأنهم قادرون على إنقاذهم من شقائهم ومن محنهم ومن أزماتهم.
وخلال القرن العشرين، ظهرت العديد من الروايات المضادّة ليوطوبيا الشيوعية. وفي كتابه “هيليوبوليس” يقول الكاتب الألماني إرنست يونغر إن منظري اليوطوبيات يقدّمون النور إلى الجماهير، ثم يأتي المطبقون للنظريّات، وبأفعالهم يحولون النور إلى ظلام، والأحلام إلى هشيم.
وفي روايته الشهيرة “1984”، وأيضا في روايته الأخرى “مزرعة الحيوانات”، ينتقد الكاتب البريطاني جورج أورويل الأنظمة المتسلطة، المتجسّدة في الأنظمة الشيوعيّة. ومن خلال شخصيّة “البيغ بروذر”، انتقد الزعماء الشيوعيين المتسلطين والمستبدين. وقبل ذلك، وتحديدا عام 1931، كان البريطاني الآخر ألدوس هكسلي قد فضح الأوهام واليوطوبيات التي تروّجها العلوم الحديثة. فعل ذلك من خلال روايته “أروع العوالم”، وهو يرى أن العلم الذي تصور الكثيرون أنه قادر على توفير السعادة للبشرية، والتخفيف من أوجاعها، ومن محنها، يتحول لدى الأنظمة الاستبدادية إلى وسيلة لقهر الشعوب ومراقبتها.
وتبدو الكتب التي عارضت اليوطوبيات التي عرفها القرن العشرون، وعرّت زيفها وأكاذيبها كما لو أنها تعكس ذلك الانحراف التراجيدي للطبقة الحاكمة التي يسميها أفلاطون بـ”الحراس”. وقد أحيت هذه الكتب من جديد “جحيم” دانتي وفيرجيل. وهو جحيم لم يعد تحت الأرض، وإنما هو مسكون بالأحياء، ويمتدّ على وجـه الأرض. وهـو عكس “الجنّة الضّائعة”. وهو “جحيم أرضي” ابتكره الإنسان من دون أي تدخل من الله. وفي زمن شهـدت فيه العـديد من البلدان انحسارا رهيبا لفكرة وجود الله، فتح الإنسان أنواعا من الجحيم: معسكرات اعتقال، ملاحقات، انتهاكات لحريات الأفراد والجماعات، طمس لهويّات الشعوب.
وخلال القرن العشرين أيضا، شهد العالم العربي موت العديد من اليوطوبيات. فالاستقلالات الوطنيّة التي كانت الشعوب العربية تأمل أن تحقّق لها الكرامة والعزة والعدالة الاجتماعية، تمّت مصادرتها من قبل أنظمة فاسدة ومستبدة حوّلت العالم العربي إلى سجن رهيب. وأما حلم “الوحدة العربيّة” فقد تبخّر من دون أن ينجز ولو القليل منه. بل بات أداة لزرع الكراهية والتباغض بين الشعوب العربيّة.
ولأن الحاضر كما المستقبل أصبحا مقفرين من أيّ أمل أو حلم جميل، فقد ارتدّت نسبة كبيرة من العرب إلى ماضيها البعيد باحثة فيه عما يمكنها من الخلاص من محنها وأوجاعها وهكذا ظهرت يوطوبيا الجهاد المقدس المبشر لأصحابه والراغبين فيه بالجنة. وتحت تأثير هذه اليوطوبيا، تقوم جماعات أصولية بتكفير الناس، وقتلهم وذبحهم، وترويعهم، وسلب أملاكهم، وطردهم من بيوتهم وأوطانهم. ليعيش العرب “جحيما أرضيا ” آخر لا يدري أحد متى وكيف ستكون نهايته؟