لا شيء يخيف مثل سقوط شجرة على الأرض

مع الانتشار المرعب لوباء كورونا عاد شبح الموت ليُفزع الناس في جميع أنحاء العالم، فما عاد أحد في مأمن منه. وعندما نتمعن في الثقافات والآداب الإنسانية منذ القدم، وحتى عصرنا الراهن، نلاحظ أن الموت يحضر بقوة في أعمال كبار الفلاسفة والمفكرين والكتاب والشعراء.
يمكن القول إن الكاتب الروسي ليو تولستوي من أبرز الأدباء الذين كتبوا عن الموت. ولعل ذلك يعود إلى أنه أدرك مبكّرا حقيقة الموت الرهيبة. فوالدته توفيت وهو في الثانية من عمره. وفي سنّ السابعة، التحق بها والده.
في بداية مسيرته الأدبية، فقدَ أخوين له، هما نيكولا، وديميتري. وخلال زيارة أدّاها إلى تورغينييف، كتب يقول ”كنت أجتاز على ظهر حصان غابة تورغينييف، عند الغروب. عشب نضر، سماء مرصّعة بالنجوم، روائح غياض الصفصاف المزهرة، وأوراق البتول الجافة، زغردات عندليب، صرير الحشرات، صوت الوقواق، ووحدتي، ولذّة الإحساس بحركة الحصان تحت جسدي، واطمئنان مادي ومعنوي، وهذه الفكرة: دائما أفكر في الموت!”.
في مذكراته، كتب يقول “الكسل من جديد، والضجر والحزن. كلّ شيء يبدو لي تافها. المثالي صعب بلوغه، وأنا كنت قد غرقت. العمل، شهرة صغيرة، المال، ما جدوى كلّ هذا؟ قريبا الليل الأبدي. ويبدو لي دائما أنني سأموت قريبا”. وهكذا عاش تولستوي حياته من البداية إلى النهاية مسكونا بالموت.
الحياة كالعاصفة
يهيمن الموت بظلاله القاتمة على الكثير من قصص تولستوي، وأعماله الكبيرة. فنيكولا ليفين في “الحرب والسلم” يدرك أن موته وشيكا، حيث يجد نفسه منفصلا عن عائلته، وعن أقاربه، وعن أحب الناس إليه، بل عن الأحياء جميعا. وتنتحر أنّا كارينينا مثلما فعلت مدام بوفاري في رائعة فلوبير. وقد استوحى تولستوي موضوع روايته “أنّا كارينينا” من حادثة واقعيّة. فقد انتحرت امرأة بعد أن أهملها عشيقها الذي كان جارا لها. تحت وقع اليأس والإحباط، ألقت بنفسها تحت عجلات قطار. وقد رأى تولستوي جسدها مفتّتا. من تلك الصورة المرعبة، استوحى شخصية أنّا كارينينا.
ويحضر الموت في قصة “السيد والخادم”، الخادم العجوز يدعى نيكيتا. أما سيده فهو التاجر فاسيلي أندريتش. ويروي لنا تولستوي قصة تيههما تحت الثلوج المتهاطلة، بينما العواصف تُعوِل غاضبة، مُشيعة الخوف والوحشة في قلبيهما. ورغم أن البعض يقبل باستضافتهما إلّا أنهما يمعنان في مواصلة رحلتهما بكثير من العناد والإصرار لأن فاسيلي أندريتش لا يريد أن يفرط في صفقة تجارية قد تزيد في ثرائه، وتوفر له فرصة أخرى لجعل حياته أكثر نعمة ورفاها وترفا. وهو لا يفكر في أي شيء آخر إلّا في ذلك. لذا هو يرفض أن يؤجل رحلته رغم المصاعب التي تزداد شدة بعد كل ساعة، بل بعد كلّ لحظة.
الموت يهيمن بظلاله على الكثير من قصص تولستوي، وأعماله الكبيرة من «الحرب والسلم» إلى "موت إيفان إليتش"
ويفقد المسافران وجهتهما أكثر من مرة، لكنهما يصران على مواصلة الرحلة غير عابئين لا بالثلج، ولا بالعواصف الهوجاء، ولا بعواء الذئاب الجائعة، ولا بالبرد الذي يجمّد جسديهما، ولا بالحصان المسكين الذي لم يعد قادرا على التقدم خطوة واحدة إلى الأمام. وحتى عندما يتيقّن فاسيلي أندريتش أنّ مواصلة الرحلة أصبح أمرا مستحيلا، فإنه لم يكفّ عن التفكير في ثروته، وفي ممتلكاته. لكن في لحظة ما يستعيد حسّه الإنساني، ويتذكر أنه حَمَى بجسده خادمه نيكيتا من البرد اللاذع، لذا هو”دافئ، وحيّ”.
عندئذ يشعر أن نيكيتا ليس سوى هو، وأن نيكيتا هو فاسيلي أندريتش، و”أن حياته ليست فيه، وإنما في نيكيتا”. إنه يستمع فيسمع تنفّس نيكيتا، بل يسمع غطيطا خفيفا فيقول في نفسه بفرح الظفر “نيكيتا يحيا، وهذا يعني أنني أنا أحيا أيضا”. في النهاية، يتجمّد فاسيلي أندريتش، ويموت. أما الخادم نيكيتا فقد تمكن الفلاحون في اليوم التالي من إخراجه من تحت الثلج وهو على وشك أن يلفظ أنفاسه.
ومن خلال هذه القصة يوحي لنا تولستوي بأن الحياة شبيهة بتلك العاصفة الثلجيّة الهوجاء. مع ذلك، يعيشها الإنسان طامحا إلى أن ينال من خيرها، ومن نعمها ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ناسيا أن الموت يترصده في كل لحظة ليلقي به في مهاوي العتمة الأبدية وليس معه أي شيء من كل النعم التي نالها. فأمام الموت يتساوى كل الناس الفقراء كما الأغنياء، الأقوياء كما الضعفاء. والحياة بلا معنى. “وماذا يستفيد الإنسان من تعبه الذي يتعبه في هذه الدنيا”. والإمبراطوريات والحضارات الكبيرة تموت أيضا. حتى الأشجار ليست مستثناة من ذلك.
اختلاف النهايات
في قصة “الأموات الثلاثة” التي يروي فيها تولستوي موت كائنات ثلاثة: سيّدة من الطبقة النبيلة، وفلاح، وشجرة. فأما السيدة النبيلة التي تعتقد أن شفاءها مرتبط بالسفر إلى إيطاليا فهي “كريهة ومثيرة للشفقة”، بحسب تولستوي. حياتها كلها سلسلة من الأكاذيب. لذلك هي لا تتردد في الكذب حتى أمام الموت رغم أنها مؤمنة بالتعاليم المسيحية. إلّا أن إيمانها كاذب ومزيف. لذلك كانت نهايتها مؤلمة لأنها تستحق ذلك.
وقد وصف تولستوي نهايتها على النحو التالي “لا، سأواصل، قالت المريضة، ورافعة نظرها إلى السماء، شابكة يديها، بدأت تغمغم بكلمات بلا تكملة. يا إلهي، لماذا إذن؟، قالت، ثم انهمرت دموعها بغزارة أكثر من ذي قبل. صلّت طويلا، وبحرارة، إلّا أن صدرها ظلّ يؤلمها، ودائما جدّ مضغوط، بينما ظلّت السماء، والحقول، رمادية، مظلمة دائما، ونفس ضباب الخريف ينزل، لا سريعا ولا كثيفا، بل من دون انقطاع، على طين الطريق، على السقوف، على العربات، على جلد خروف الحوذيين الذين كانوا يثرثرون بأصواتهم الغليظة والمرحة، وهم يشحّمون العربات أو يربطونها”.
أما فيدور الفلاح فيموت بهدوء ذلك أن دينه هو الطبيعة التي عاش في أحضانها من البداية إلى النهاية. فقد كان يذبح الخرفان، ويقطع الأشجار، ويزرع الجوْدَرَ ويحصده، وكان متقبّلا للحقيقة الكونية التي تقول إن الإنسان يولد، ثم يحيا، ثم يموت. حين يتيقن أن نهايته وشيكة، يهدي فيدور حذاءه الشتوي إلى حوذيّ، ويوصيه أن يضع على قبره حجرا. بعد وفاته، يتباطأ الحوذي في تنفيذ وصيته رغم أنه حلم أن الميّت أتاه في حلمه ليذكره بذلك. وفي النهاية، عند بداية الربيع، ينطلق إلى الغابة عازما على الحصول على صليب من الخشب. وكان عليه أن يقطع شجرة.
وقد صوّر تولستوي سقوط الشجرة بطريقة بديعة تشعر القارئ بأن تلك الشجرة ليست جمادا، بل كائنا حيّا “للحظة كل شيء ظلّ هادئا، ثم انحنت الشجرة من جديد، ومن جديد سُمعت طقطقة في الجذع، وتركت الشجرة تاجها يسقط على الأرض الرطبة ساحقة الحَرجة، ومكسّرة أغصانها. سكن صوت ضربات الفأس، ووقع خطواته. وأطلقت الدّخلّة زقزقة، ثم حلقت عاليا. والغصن الذي كانت حَاطّة عليه، تأرجح حينا، ثم تصلّب هو وأوراقه، مثل الآخرين. وانتصبت الأشجار بكبرياء وبأكثر ابتهاج، بأغصانها الساكنة فوق الفضاء الحار الجديد. مخترقة السّحابة الشفّافة، لمعت أولى أشعّة الشمس، منتشرة في السماء وعلى الأرض. وبدأ الضباب في الصعود من ثنيّات الحقل، وتألق الندى على الاخضرار وطفت السحب الصغيرة البيضاء على السماء الزرقاء. وكانت الطيور تحلّق هائجة في الدّغْل، وتطلق، منتشية بجمال الطبيعة، أناشيد السعادة. والأوراق المفعمة بالنسغ تغمغم فرحة وهادئة على القمم، وأغصان الأشجار الحيّة تتأرجح ببطء وبجلال فوق الشجرة الميّتة، الشجرة التي هوت”.
في”كلوستوميار”، يروي تولستوي قصة حصان أبقع تبدو حياته شبيهة بحياة إنسان. ففي البداية، يتذوق طعم السعادة، ويتمتع بالمهابة، ويركبه النبلاء والأشراف، والضباط الشجعان، وينتصر في سباق الخيول، ويقطع المسافات المديدة من دون أن يناله التعب. ثم تبدأ حياته في الانحدار. وفي النهاية لا يتبقى منه سوى قحْف كبير وأضلاع.
أما الموت في قصة “موت إيفان إليتش” فمرّ وقاس. فحتى بلوغه سنّ الخامسة والأربعين، ظلّ إيفان إيليتش المستشار القانوني في محكمة الاستئناف يعيش حياة هادئة لا يكاد ينغصها شيء. وكانت حياته الزوجيّة هانئة وسعيدة. ورغم أنه واجه البعض من المصاعب في حياته الوظيفيّة فإنه تمكن من تجاوزها. لكن ذات يوم أحس بوجع. فلمّا احتدّ هذا الوجع، حاصرته الهموم والهواجس فسارع بالتوجه إلى الطبيب.
ولم تخفّف الأدوية من حدّة الأوجاع. وها هو يشعر بأن الموت يسكنه لكن لا أحد انتبه إلى مصيبته إلّا هو. نعم هو الوحيد الذي يعلم أنه سيموت قريبا. من قبل كان هناك نور. أما الآن فالظلام يكتنف الدنيا من حوله، فلا يرى ولا يلمس ولا يسمع ولا يشمّ إلّا الموت. لكنه لا يريد أن يموت. لذا يشعل شمعة فتسقط على الأرض ليجد نفسه في قبضة الموت مرة أخرى. وها هو يواجهه وحيدا بينما الآخرون، باستثناء الخادم غيراسيم، منصرفون إلى حياتهم، يعبثون، ويمزحون، ويضحكون، ويلعبون، ويعبّون الفودكا، ويرقصون من دون أن يعيروه اهتماما.
يحاول إيفان إيليتش أن يفكّ لغز الموت إلّا أنه يعجز عن ذلك. وهو يسعى جاهدا لطرده من فكره ومن قلبه، لكنه سرعان ما يعود أسود قاتما، ليحاصره من جديد، ناشبا مخالبه في لحمه، مطوقا عنقه استعدادا لخنق أنفاسه. وفي الحين يطلب الخادم غيراسيم فيهبّ إليه وهو على يقين أن سيده ذاهب إلى حتفه بأقصى السرعة. مع ذلك، يمكث بجانبه، يواسيه، ويقدم له الأدوية، ويحادثه. وعندما يخرج، ينخرط إيفان إيليتش في البكاء مثل طفل أهمله والداه. وفي النهاية يصبح عاجزا عن النهوض من الفراش، ويفقد الرغبة في الحديث مع زوجته، ومع أبنائه. طوال الوقت، يظلّ ممددا، وعيناه مثبتتان على الجدار. ثم تأخذ الأوجاع في الاشتداد فلا يقدر على كتم صرخاته. وفجأة ينتفي خوفه من الموت، ويرى بصيصا من النور كذلك الذي يراه الإنسان بعد أن يجتاز نفقا رهيبا مظلما. عندئذ يغمغم “انتهى الموت… ولم يعد له وجود أبدا”، ثم يتصلّب ويموت.