عوض تاج الدين.. وزير أسرار مبارك يعود لمكافحة الوباء

لم يسمع كثيرون في مصر صوتا فعليا للطواقم الاستشارية لرئيس الجمهورية إلا نادرا، فمنذ رحيل المخضرم أسامة الباز، مستشار الرئيس الأسبق حسني مبارك للشؤون السياسية، كاد هذا المنصب ينحصر في جانب التكريم وبلا وظيفة حقيقية أو دور ملموس، لكن قد تضطر الحكومات في أوقات الأزمات إلى الاستعانة بخبرات أشخاص يمتلكون كفاءة ومهارة عالية في تخصص الأزمة، حتى لو كان ذلك باستدعائهم من منازلهم بعد خروجهم من مناصبهم. ويكفي أنهم عاصروا مواقف مشابهة لتلك التي تواجهها الدولة، وتريد الخروج منها بأقل الخسائر، فما بالك بجائحة عالمية مثل كورونا تواجه الدول تحديات كبيرة للقضاء عليه.
تصلح هذه القاعدة لتطبيقها على حالة الطبيب محمد عوض تاج الدين وزير الصحة المصري الأسبق الذي قرر الرئيس عبدالفتاح السيسي تعيينه قبل أيام مستشارا له للشؤون الصحية والوقائية، للاستفادة من خبراته وكفاءته الطبية ليكون المحرار الذي يستطيع تشخيص الموقف بدقة، وتتخذ الحكومة إجراءاتها الطبية للتعامل مع السيناريوهات المحتملة.
يختلف تاج الدين عن باقي مستشاري الرئيس المصري، بأن كلمته واضحة ومسموعة عند مختلف المؤسسات داخل الدولة، بعكس زملائه في دائرة المستشارين الذين تتم الاستعانة بهم من أصحاب الخبرات والكفاءات، سواء كانوا من السياسيين أو الاقتصاديين أو حتى العلماء.
درج من يشغلون منصب المستشار أن يكون دورهم شرفيا، ويقتصر على عرض الرأي وفق التخصص، وليس شرطا أن يؤخذ بكلامهم، وبعضهم يمثل المنصب لهم نوعا من التكريم على جهود سابقة، مثل رئيس وزراء سابق أو وزير كان في حقيبة هامة ورحل في تعديل حكومي.
رجل الأزمات
فسر البعض حديث السيسي المتكرر بثقة وهدوء عن الوضع الصحي في البلاد وسيناريوهات مواجهة كورونا، بأنه يستمد هذه الطمأنينة من مستشاره الصحي المخضرم في التعامل مع مثل هذه الظروف، فعوض تاج الدين يملك خبرات تؤهله لرسم خارطة تقريبية لمستقبل الوباء قد تضيء الطريق أمام مؤسسات الدولة ووضع خطة بعيدة المدى.
ربما لأن المحنة عميقة، وربما لأن الرجل يزهد في المناصب، وربما كيمياء إنسانية معينة جمعته بالسيسي هي التي جعلته يأتي به في هذا التوقيت، ويتولى مهمة عصية، النجاح أو الإخفاق فيها سوف تترتب عليه تداعيات عميقة.
يرتبط الثقل السياسي والطبي الذي يتمتع به تاج الدين عند دوائر الحكم في مصر، بأنه محنك في إدارة الأزمات الصحية، فهو الذي استعان به مبارك لمواجهة وباء إنفلونزا الطيور ثم الخنازير عامي 2007 و2008، رغم أنه رحل عن منصب وزير الصحة، وبالفعل نجح في إدارة الأزمتين والوصول بالبلاد إلى بر الأمان.
كان تاج الدين وزير الصحة الوحيد الذي وضع خارطة علاجية ساعدت مصر لأول مرة على أن تكون دولة خالية من مرض شلل الأطفال، واستعانت به بعض الدول التي ينتشر فيها المرض.
وضعته هذه النجاحات في دائرة اهتمام الرئاسة المصرية، ودفعت إلى استدعائه للمرة الثالثة، ليكون العقل المفكر لها في طريقة التعامل مع فايروس كورونا، بحكم أن محور الأزمة يدور حول وباء يصيب الصدر والجهاز التنفسي، في زمن يصنف فيه الرجل أنه الأكثر كفاءة في مصر بهذا التخصص.
هناك معيار آخر سرع من وتيرة الاستدعاء يتعلق بكون أغلب المسؤولين عن قطاع الصحة حاليا لم يعيشوا أزمة معقدة وخطيرة، وربما تكون هناك هفوات في خارطة المواجهة لغياب الخبرات والتجارب، لذلك من الضروري الاستعانة بمخضرم عاصر أزمات صحية صعبة.
يلعب تاج الدين دورا محوريا في إدارة المواجهة ضد وباء كورونا، وليس صدفة أن يصبح صاحب الإطلالة الدائمة على الجمهور كل مساء عبر شاشات التلفزيون ليتحدث عن الأزمة وخطط الحكومة، وطمأنة الشارع عن الأوضاع في مصر. لكن البعض تشكك في أن يكون الظهور المتكرر واليومي مقدمة لاختياره خليفة هالة زايد وزيرة الصحة الحالية، فهذه الحفاوة لم تكن مألوفة، حتى أن وسائل إعلام عديدة بدأت تشيد بآرائه وحكمته، وطالبت الحكومة بالاستفادة منه بما يفوق وضع المستشار.
بدت الحكومة كأنها تريد تقديم تاج الدين للمجتمع بطريقة المستدعى شعبيا، وليس رسميا، كي تصبح وصفته ذات تأثير قوي، وهو ما تحقق بالفعل، حيث يترقب كثيرون ظهوره لطمأنتهم على الوضع الصحي والتوقعات المستقبلية للأزمة. وتدرك الحكومة أن خطابها الرسمي لن يجدي نفعا مع الكثير من الفئات في المجتمع، فلا نصائحها سوف تجد قبولا، ولا قراراتها تلقى تأييدا على الأرض، لتباعد المسافات مع الشارع، وهنا كانت في حاجة ماسة إلى شخصية مقبولة جماهيريا.
لغة الأرقام
يمتلك تاج الدين مجموعة صفات لا غنى عنها لصانع القرار، أو رجل الشارع، فهو من وجهة النظر الرسمية يمتلك الحس السياسي الذي يكفي ليكون متناغما مع أفكار وقرارات وتوجهات الحكومة في إدارة الأزمة، بحكم أنه وزير سابق.
ولا يشعر الناس في كلامه أنه مجرد مستشار للرئيس، ولديه قدرة فائقة على نقل ما يدور في كواليس اجتماعات الحكومة بما يعطي انطباعا للجمهور بأن هناك جدية حقيقية في مواجهة الأزمة، ويقوم بتوصيل الرسائل الخشنة بطريقة ناعمة.
الحكومة هنا، لا تريد أن يخرج الكلام للناس بشكل رسمي عن طريق أحد أعضائها، مثل وزيرة الصحة، لكنها تبحث عن توزيع الأدوار. هذا يتحدث عن خطة المواجهة، وذاك يقتصر دوره على إعلان القرارات، والأهم في الرجل أن رصيده عن الفئات المتقدمة في السن، يسمح له بأن يكون كلامه مقبولا، بحكم أن هؤلاء عاصروه عندما كان وزيرا للصحة ونجح بكفاءة.
وبحكم أن الأكبر سنا، هم الفئة الأكثر إصابة بفايروس كورونا، وفق تصنيف منظمة الصحة العالمية، فإن الدولة بحاجة إلى شخص يحظى بمصداقية عند هؤلاء، لذلك يركز كلام تاج الدين على مخاطبة هذه التركيبة. تظل الميزة الأهم في تاج الدين، أنه شخص هادئ في كلامه، ولا يعرف للتصريحات المتهورة طريقا، فهو يتحدث بشكل علمي ويجيد لغة الأرقام والإحصائيات المحلية والدولية، ولديه قدرة فائقة على التحليل والتفسير للخروج بنتائج منطقية تقنع الناس بما يقوله.
الثقل السياسي والطبي الذي يتمتع به تاج الدين عند دوائر الحكم في مصر، يرتبط بكونه محنكا في إدارة الأزمات الصحية، فهو الذي لجأ إليه الرئيس الراحل حسني مبارك لمواجهة وباءي إنفلونزا الطيور والخنازير، وبالفعل نجح في إدارة الأزمتين والوصول بالبلاد إلى بر الأمان
يصعب أن تجد في كلامه ما يشير إلى أنه شخص صدامي، فهو لا يجيد لغة الاشتباك، وإذا تحدث تكاد تستمع إلى صوته من شدة احترامه لمن يخاطبهم، أو يحاورهم من الإعلاميين، فهو دائم الدعابة، وضمن استراتيجيته في إقناع الجمهور استخدام أمثلة شعبية قديمة وبسيطة تجعل الناس تستمع إلى كلامه بعناية دون ضجر أو ملل.
لم تمرر جماعة الإخوان تعيين تاج الدين مستشارا لرئيس الجمهورية دون التفتيش في تاريخ الرجل، وكانت أغلب الروايات تتحدث عن أن إقالته بعد ثلاثة أعوام من منصبه كوزير للصحة في عهد مبارك، دليل دامغ على إخفاقه في المهمة، لأنه لو كان حقق إنجازات في حينه، لما تمت الإطاحة به بعد هذه الفترة القصيرة.
عندما بحثت “العرب” عن مبررات مبارك في الإطاحة بتاج الدين آنذاك والتحدث إلى بعض الشخصيات التي كانت قريبة منه، جاء الرد بأن الرجل ينظر لنفسه على أنه عالم وباحث في شؤون الطب، ولا يفضل كثيرا العمل في المناصب الإدارية التي تعج بالروتين والبيروقراطية والتعقيدات والتعامل مع الموظفين، ما لم يكن بجواره عدد من المساعدين الأكفاء.
تعكس هذه الصفات، أن تاج الدين من هواة إدارة الأزمات عن بُعد، بمعنى أنه يخطط ويفكر ويضع الحلول، ويترك تنفيذها لأصحاب القرار، وبالنظر إلى المهمة التي يقوم بها في الوقت الراهن، يتضح أنه يفعل الأمر ذاته، فهو يظهر في صورة العالم الذي يقدم طروحات وحلولا ونصائح، وليس بشكل رسمي يظهره على أنه المتحكم في زمام الأمور.
عقدة المنصب
منذ الصغر، وهو يحلم بأن يرتبط اسمه بلقب ”دكتور“. صب اهتمامه على أن يكون متفوقا في كل مراحله الدراسية، فانعكس ذلك على مسيرته العلمية والوظيفية، فكان سريع الانتقال بين المناصب، من أستاذ في كلية الطب بجامعة عين شمس، إلى وكيل للكلية ثم عميد لها، وشغل منصب نائب رئيس الجامعة، قبل أن يتولى رئاسة الجامعة ويخرج منها ليشغل منصب وزير الصحة.
وفي كل هذه المناصب كان الرجل يتولى دور المايسترو والمخطط الرئيس في العمل.
اختير ضمن عضوية لجنة المحكمين في هيئة تحرير مجلة منظمة الصحة العالمية لإقليم شرق المتوسط، ونجح في عضوية المكتب التنفيذي للمنظمة عام 2002، وعضو الجمعية العامة لها، قبل أن يتم اختياره مستشارا فيها.
حصد صاحب الـ75 عاما عدة جوائز، منها جائزة الدولة التقديرية، وجائزة النيل في العلوم، وهي الأعلى في العلوم بمصر، وجائزة الطبيب المثالي، فضلا عن وقوفه على منصة التكريم أكثر من مرة، على المستوى المحلي والدولي لدوره في القضاء على شلل الأطفال في بلاده، والمساهمة في السيطرة على المرض في دول أخرى، والمشاركة في حملات وقوانين الحد من التدخين في مصر والعالم.
يمكن البناء على هذه السمات، بأنه من المستبعد أن يكون تاج الدين وزيرا للصحة، فهو لا يريد أن يُفهم قبوله منصب مستشار الرئيس على أنه المدخل لتحقيق هذه الخطوة، كما أنه شخصيا ليست لديه عقدة المنصب، بل يقدّس لقب العالم في تخصصه الطبي. وافق على الانضمام لعضوية المجلس الأعلى للصحة، وهي جهة تابعة لوزارة الصحة، رغم أنه كان من قبل وزيرا، والأغرب أن من طلبت منه الانضمام للمجلس، هي وزيرة الصحة الحالية التي كانت طبيبة شابة في مستهل مشوارها عندما كان تاج الدين وزيرا، أي أن من تدير الوزارة الآن هي إحدى تلميذاته.
تظل تجربة الرجل مع فترة مرض مبارك شاهدة عيان على حنكته، فعندما تعرض الأخير لوعكة صحية استدعت سفره إلى ألمانيا لتلقي العلاج، اصطحب معه تاج الدين ليكون إلى جواره، ورفض أن يأخذ معه المستشار الطبي للرئاسة أو طبيبه الخاص.
وكان الشارع حينها يترقب بيان تاج الدين كل يوم ليتحدث خلاله بشكل دبلوماسي عن الحالة الصحية للرئيس. وحتى اليوم، ورغم وفاة مبارك لم يُكشف الستار عن الحقائق الغائبة حول مرضه قبل حوالي 15 عاما بل احتفظ بها تاج الدين لنفسه.
يعتبر تاج الدين ذلك بمثابة سر مهني وإنساني وأخلاقي، ولا يجوز الإفصاح عنه ولو مات صاحبه، وهي من السمات التي يفضلها المسؤولون أصحاب الخلفيات العسكرية بمصر في من يتعاملون معهم ويناقشونهم الخطط والأفكار والقرارات، خاصة إذا كانت لها علاقة مباشرة بقضية مصيرية مثل جائحة كورونا.