المبدعون في الجزائر لا يطلبون الشفقة.. ولكن الحقوق

مثقفون بارزون يعتبرون "مبادرة" وزيرة الثقافة لمساعدتهم "لفتة منقوصة" ومحاولة لذر الرماد في العيون.
الاثنين 2020/04/06
مثقفون في مصير مجهول (لوحة للفنان: دنيو أحمد علي)

اعتبر عدد من الفنانين الجزائريين خلال هذا الأسبوع أن إحالتهم إلى مؤسسات الوصاية ومديريات الثقافة للتكفل الشكلي بهم على مستوى المحافظات استمرارا لسيناريو الممارسات المتكررة المخلّة بقيمة ومكانة الفنان والمثقف في المجتمع الجزائري. الذي يعاني من نواحي مختلفة.

 بادرت وزيرة الثقافة الجزائرية الدكتورة مليكة بن دودة في الأيام القليلة الماضية بتكليف ديوان حقوق التأليف للقيام بمساعدة الفنانين الذين تواجههم مشكلات اجتماعية حادة، ويعانون أيضا من الصعوبات المادية في ظل الأزمة الراهنة التي يفاقمها تهديد انتشار وباء كورونا في البلاد.

وفضلا عن ذلك فقد تضمّنت مبادرة وزيرة الثقافة أمرا موجّها إلى ديوان حقوق المؤلف بالإسراع في دفع مستحقات الفنانين الذين تربطهم عقود واتفاقيات رسمية بالمؤسسات المشرفة على إدارة الإنتاج الفني. ولكن يبدو أن الفنانين لا ينظرون إلى مثل هذه التحركات بعين الرضا بل يعتبروها مجرد محاولة لذر الرماد في العيون، قصد تغطية الواقع المرّ الذي يحطم طموحاتهم، ومن أجل تسويف الاستجابة لمطالبهم لإحداث تغيير راديكالي في القطاع الثقافي والفني برمّته في إطار جدول زماني محدّد.

خطوة منقوصة

وصل الأمر بعدد من الفنانين والمثقفين البارزين في الحياة الثقافية والفنية الجزائرية إلى اعتبار سلوك وزارة الثقافة تجاههم فعلا مخلّا بكرامتهم. وفي الواقع هناك بعض الفنانين والمثقفين الذين ينظرون إلى إجراء وزيرة الثقافة بأنه لفتة إيجابية، ولكنها في تقديرهم لا ينبغي أن تستخدم كبديل لمعالجة أمراض واقع قطاع الثقافة والفن ومشكلات الفاعلين فيه. إلى جانب ذلك فإن الدكتورة بن دودة التي أتت من قطاع التعليم العالي لا تحيط علما بخبايا وحقائق الأزمة البنيوية التي تنخر هذا القطاع مثل إسناد المسؤوليات الثقافية إلى أشخاص بيروقراطيين لا علاقة لهم بالثقافة والفن، وآفات تهميش المواهب وتحقيرها والتسبب في تهجيرها أو قتل الإبداع في نفوس أصحابها، والإذلال الاجتماعي والمادي للفنانين ومنتجي الثقافة فضلا عن عدم التنظيم المحكم للقطاع الثقافي وعماله.

لا شك أن الفترة القصيرة التي مرّت على وجود الدكتورة بن دودة على رأس وزارة الثقافة لا تكفي في الحقيقة لحصر ثم دراسة تفاصيل المشكلات الكبرى التي يعاني منها قطاع الثقافة والفن الجزائري، كما أن إطارات وزارة الثقافة المساعدين حاليا لا يملكون عوامل الخبرة والكفاءة والاختصاص والمصداقية التي بموجبها يتم إنجاز الإقلاع الحقيقي لهذا القطاع الذي تعرّض للتدمير المنهجي على أيدي الوزراء السابقين وأعوانهم مثل مديري الثقافة ودور الثقافة والنشر والمتاحف والمكتبات الكبرى وهلم جرّا.

أزمة معقدة تعصف بمنتجي الثقافة والفن في الجزائر وتتسبب في تدهور البنية الثقافية وأشكال التعبير الثقافي

من الملاحظ وزيرة الثقافة الدكتورة بن دودة قد شرعت في عقد لقاءات صباحية، مع بعض الوجوه العاملة في ميدان النشر والإعلام الثقافي والمسرح وغيرها بقصد تدارس وتشخيص مشكلات الوضع الثقافي والفني في الجزائر بهدف وضع التصورات والمنظورات الجادة والكفيلة بمعالجتها، ولكن هذه اللقاءات قد تميزت حتى الآن بأنها استشارية غير ملزمة وإخوانية انتقائية جدا ومجرد سبر خارجي لحقائق وضع ثقافي وفني وطني معقّد، وبسبب ذلك بقيت تلك اللقاءات تدور في فضاء جوهر الأزمة المعقدة التي تعصف بمنتجي الثقافة والفن، وتتسبب في تدهور البنية الثقافية في المجتمع الجزائري ومختلف أشكال التعبير الثقافي والفني والمؤسسات الثقافية على مستوى المدن الكبرى وفي الجزائر العميقة في آن واحد.

وفي هذا الخصوص يلاحظ أن استبعاد الخبراء في شأن تسيير وتنظيم قطاع الثقافة والاتحادات والتنظيمات والجمعيات والرموز الثقافية والفنية من هذه الاجتماعات قد ساهم فعليا في عدم التوصل إلى وضع مشروع مخطط وطني متكامل وقابل للتنفيذ ماديا وتأطيرا بشريا يضمن تنفيذ عمليات النهوض بقطاع الثقافة وتحديثه.

وضع متفاقم

وضع معقّد
وضع معقّد

في الواقع فإن احتجاج الفنانين خلال هذا الأسبوع على أسلوب الوزارة لتقديم المساعدات للفنانين في هذا الظرف الاستثنائي الصعب تشم منه رائحة تتعارض مع كرامة الفنان والمثقف الجزائري.

ولا شك أن الفنانين والمثقفين الجزائريين ليسوا بحاجة إلى الشفقة بل فهم يطالبون بوضع القوانين الملزمة التي بموجبها تحفظ حقوقهم المادية والأدبية، وتعالج بواسطة تفعيلها المشكلات المزمنة والطارئة التي تعرقل السير الطبيعي للمؤسسات الثقافية والفنية التي تناط بها مسؤولية الإشراف المادي والتقني على الإنتاج السينمائي والمسرحي والموسيقى والفني التشكيلي والأدبي والفكري، فضلا عن دور النشر ومؤسسات الطباعة والإشهار والمكتبات وهلم جرّا.

من الملاحظ أن الأوضاع الاجتماعية للفنانين والأدباء والمثقفين الجزائريين تزداد تفاقما وشراسة مثل ضعف المرتبات وعدم توفر السكن اللائق والتقاعد الذي يحافظ على الكرامة، ونظام التفرّغ والبحث الفني والإبداعي والفكري الذي يوفّر للجميع الإمكانيات المادية اللازمة لإنجاز المشاريع الفنية والأدبية الكبرى، مثل تأليف الكتب أو ترجمة الأعمال المحورية في حقول الفن والفكر والآداب عن اللغات الأجنبية أو من اللغات الوطنية إلى اللغات العالمية، فضلا عن دعم مبادرات الانخراط في فترات التكوين المتواصل في الخارج.

وفي الحقيقة فإن المشهد الثقافي والفني الجزائري مغلق تماما على التيارات الفنية والفكرية والأدبية الطليعية في عالمنا المعاصر، كما أن وزارة الثقافة الجزائرية لا تملك سياسات الإرساليات الفنية والفكرية والأدبية إلى البلدان المتطورة لاستيعاب آدابها وفنونها وفكرها وطرائق العمل الثقافي والفني، وبسبب هذا بقي المبدع الجزائري مغتربا عن عصره ومبعدا عن التفاعل الخصب مع مستجدات الفن والفكر والثقافة العالمية. ففي هذا المناخ يفرض الفقر والبؤس الاقتصادي والتهميش على الفنانين والمثقفين والأدباء المبدعين الجزائريين في الوقت الذي يفترض أن يدعموا باعتبارهم في طليعة القيادة الروحية لمجتمعاتهم.

وفي الحقيقة هناك أمثلة كثيرة مؤلمة في هذا المجال، ولكننا سنكتفي بالإشارة إلى ثلاثة نماذج معروفة وهي على التوالي الواقع المزري الذي وضعت فيه الفنانة المسرحية الجزائرية المعروفة نضال، التي تعاني مع أسرتها من أزمة السكن القاسية حيث ما فتئ يتلاعب بها المسؤولون، وهناك نموذج الوضع البائس المفروض على الموسيقار نوبلي فاضل، الذي ترك وحده فريسة لمرض الزهايمر، ونموذج المطربة الجزائرية المعروفة فلة عبابسة التي عانت وما تزال تحاصر من كل الجهات ماديا وحضورا فنيا.

14