فاروق يوسف يكتب ذاته العميقة في مدينة المستقبل

ما الذي يرجوه شاعر معاصر وهو يقتفي أثر شاعر آخر خارج المكان الذي تعرّف إليه في مرايا قصيدته؟ سؤال ملح ونحن نتتبع رحلة الشاعر العراقي فاروق يوسف متعقبا خطى الشاعر الإسباني غارسيا لوركا في مدينة نيويورك التي لا تعترف بزمن غير المستقبل.
بين مرآة الشاعر والمكان الذي لا يشبه أي مكان آخر في مدينة مثل نيويورك يمضي الشاعر فاروق سعيد وهو يستعير خطى من سبقه باحثا عن المدينة الأخرى في مدينة كهذه لم تتوقف يوما عن تبديل أقنعتها الكثيرة والركض نحو المستقبل بقوة دون أن تلتفت وراءها نحو من سحقتهم بأقدامها وقد طغى صخبها الكوني على كل شيء، حيث يختلط وجه الشاعر مع وجوه كثيرة سبقته لشعراء وكتاب أميركيين ومن العالم عبرت هذا المكان ولم يبق من أثر للمدينة الأسطورة إلا ما حفلت به من دونوه من كتابات عنها.
في كتاب الشاعر فاروق يوسف شاعر عربي في نيويورك على خطى لوركا في منهاتن والفائز بجائزة ابن بطوطة عن فئة اليوميات نحن أمام قصيدة طويلة تختزل هذه التجربة المركبة التي يحاول فيها الشاعر البحث عن أثر المكان وصورته في مرايا شاعر إسبانيا العظيم لوركا وعن المدينة في المدينة التي تطل على جهات العالم كلها وقد أغلقت أبوابها الكثيرة (على مُرابيين ومصرفيين وأباطرة فن وصانعي مصائد ومخترعي ألعاب وراقصين حفاة ومتزحلقين على زئبق مرايا لصورها تأثير ضربات العاصفة ومركبي جمل من هواء وقتلة متأنقين).
في هذه المدينة التي تحتشد بالغرائب والأقنعة والوجوه التي تتداخل بلكناتها وملامحها وهي تركض نحو المستقبل دون أن تتوقف عن صناعة الدهشة وصناعة كل شيء حتى بات من الصعب وصفها، في هذه المدينة يستعيد خيال الشاعر جزءا مهما من تاريخ منهاتن العجيب والمروع في زمن تجارة العبيد بينما هو يعبر شوارعها ويتأمل صورتها محاولا أن يجد تعريفا لها.
يتداخل الوصف مع الانطباعات والصور والمشاعر التي تتدفق في لغة شعرية مكثفة وموحية يحاول فيها الشاعر أن يقبض على تلك اللحظة المتسللة بسرعة وهو يعبر في متاهة هذه المدينة ووسط هندستها الخيالية وصورها التي لا تتوقف عن اختراعها في كل لحظة.
ما يفعله الشاعر ينخرط في تجارب خاضها شعراء سابقون لتعريف ما لا يعرف في هذه المدينة، ثمة إغواء وثمة عجمة في المكان عليك أن تفك حروفها. في اللقاء الأول مع المدينة يعترف بالعجز عن الإحاطة بها لأنها أكبر من مدينة وأغرب من أسطورة، لكنه لا يستسلم لسطوة حضورها وهو يواصل السير على إيقاعها السريع والصاعد، يقول “أجلس على ضفة النهر لأصف ما أراه. أمامي منهاتن. أبنية حمراء متشابهة. أنا في بروكلين المياه تمرّ كما الوقت. كنت أفكر بما يجري في وادي السيليكون وفي شارع الشيخ عمر في وقت واحد. أنظر إلى ظلي. يوم مشمس في بلاد تصل إليها الشمس متأخرة”.
تتوزع هذه اليوميات على مجموعة من العناوين التي يحاول فيها الشاعر أن يقول كل شيء رآه بعينه أو بخياله أو من خلال ما يتولد لديه من انفعالات وصور أو بلاغة تفيض بالمعنى في مدينة هي أقرب ما تكون إلى الخيال.
يتداخل الشعر مع النثر السرد في هذه اليوميات بحثا عن المعنى في مدينة تختلط فيها المعاني والأشياء والصور، يقول يوسف “عليك أن تتسلق سلما طويلا لتصل إليها من غير أن تلهث. تصل إلى وجهها المتأمل، المبتسم والصافي، إلى شعرها القطني الذي لا يتوقف عند ساعة بعينها، إلى يدها التي تروي الحكايات بلغة صامتة، إلى رسومها التي تطوي الزمن مثل صفحة كتاب لتصل إلى الأبد”.
في هذه المدينة التي وصفها من سبقه من شعراء بأنها مدينة بلا روح نجد الشاعر يبحث عن روحه الضائعة في متاهتها الكبيرة، دون أن ينسى مصائر شعراء آخرين قضوا فيها بصورة تراجيدية عجيبة تعكس الطبيعة العجيبة لهذه المدينة. لذلك لا يبحث الشاعر في حاضر المدينة وأساطيرها التي صنعتها لنفسها بقدر ما يحاول أن يبحث عن صورتها من خلال تلك العلاقة التي أنشأها كتاب وشعراء معها، ومحاولة المطابقة بينها وبين ما يراه ويشاهده لأنه يدرك أن مدينة بهذه الوجوه الظاهرة والمخفية يصعب أن تدرك كنهها دون مرايا كثيرة سرعان ما تخرج منها لكي تصنع أقنعة جديدة لها.
يعرف فاروق يوسف أن مدينة مهولة كهذه يصعب تدوين وقائعها على الرغم من شحن لغة هذه اليوميات بطاقة كبيرة من البلاغة، لذلك يترك للغة أن تتداعى وللخيال أن يطير بأجنحته في مدينة بلا أجنحة.
في هذا الإيقاع السريع للغة محاولة للحاق بزمن المدينة السريع وحيواتها حيث تصعب معرفة المدينة دون التأمل فيها. زنوج وهنود حمر وصينيون، قتلة ورسامون وعابرون كثيرون في زمن عابر بين محطات أنفاق قطاراتها الكثيرة وساحاتها ومتاحفها وواجهات أبنيتها الزجاجية العالية ولوحات إعلاناتها الضخمة والعجيبة ومقابرها. ففي مدينة ولكي تظل المدينة الاستثناء يصعب على الزائر أن يتوقف عن الدوران مع زمنها والركض وراءها للقبض على شيء من مجهولها السحيق.
في هذه اليوميات تتحول اللغة إلى مغامرة أخرى تتداخل فيها حيوات البشر مع حيوات الشعراء والكتاب الذين عاشوا فيها مع حيوات الشاعر الباحث عن حكاية جديدة في مدينة الحكايات كما يصفها وهو يعبر بين شوارعها وصورها الماثلة بقوة، وحين لا يجد لغة أخرى أو أجنحة يطير بها يستعين بالشعر عله ينقذه من هذا الضياع على أبوابها.
من الصعب على شاعر يقتفي أثر شاعر آخر في مدينة عجيبة كهذه أن يكتفي بتدوين ما رآه طالما أن ثمة ما هو مستتر وعجيب وصعب المنال ما يجعل هذه اليوميات تمارس لعبة المدينة نفسها من خلال بلاغتها الكثيفة. وهكذا يتحول المكان إلى صفحات يحاول الشاعر أن يكتب عليها وقائع ما يستحيل وصفه أو القبض على معناه الهارب، الأمر الذي نجده في هذه المقاطع والعناوين الكثيرة التي تتوزع عليها يوميات الشاعر وكأنه عاجز عن التقاط أنفاسه في هذه المغامرة لاستعادة خطى شاعر مرّ في هذه المدينة التي لا تتوقف عن صناعة نفسها من جديد.