كاتبة أخذ منها الموت ابنها فردت عليه بكتاب غريب

“إن أخذ الموت منك شيئا رده إليه: كتاب مايكل” كتاب استثنائي يجمع كل الأجناس الأدبية بنفس شعري أسطوري.
السبت 2020/03/21
فراق الابن تجربة مريرة (لوحة للفنان أحمد قليج)

الكتابة عن الموت ليست بالأمر السهل على الإطلاق، كتب فيه فلاسفة وعلماء ومفكرون، نصوصا عقلانية هامة، كما كتب فيه الساردون والشعراء نصوصهم المليئة بالشجن والعاطفة. لكن أن تجمع كاتبة بين الشعري والسردي والعلمي والفني حتى في كتاب عن الموت فهذا يدعو إلى إعادة تفكيكه.

 تأتي أهمية كتاب نايا ماريا آيت “إن أخذ الموت منك شيئا رده إليه: كتاب مايكل” والذي قامت بترجمته الكاتبة دنى غالي وصدر عن دار المتوسط، من كونه يجعل من تجربة الموت القاسية تجربة شعرية بامتياز منذ العنوان الرئيس للكتاب وحتى آخر كلمة فيه.

لذلك فإن أهمية هذا الكتاب لا تنبع من الطابع التراجيدي الحزين لموضوعه وحسب، بل من خلال التجربة الحية والقاسية التي عاشتها الكاتبة والشاعرة الدانماركية عندما فقدت ابنها في حادث مأساوي وحاولت أن تتمثل أبعادها النفسية والوجودية الذاتية والعامة.

كتاب شعري بامتياز

الكتاب يستحضر كل شيء حول تجربة الموت فتستدعي الكاتبة من مخزونها المعرفي والشعري كل ما يتعلق به
الكتاب يستحضر كل شيء حول تجربة الموت فتستدعي الكاتبة من مخزونها المعرفي والشعري كل ما يتعلق به

في هذه اليوميات التي تتميز بلغتها الشعرية المكثفة والموحية منذ العنوان الرئيس للكتاب تتداخل مستويات اللغة والتجربة باعتبار الموت قدرا بشريا ساحقا عانى من ويلاته الكثير من الكتاب والشعراء في العالم. لذلك يصعب تصنيف الكتاب تحت مسمى أجناسي محدد فهو مثل أمواج البحر التي تذهب بعيدا هنا وهناك ثم تعود إلى المكان الذي انطلقت منه دون أن تتوقف عن الحركة.

تستخدم الكاتبة في هذا الكتاب تقنيات القطع السينمائي والمشهدية والتكرار إلى جانب السرد المكثف والحلم والمنولوج في محاولة منها لتمثل أبعاد هذه التجربة القاسية بلغة حارة ومتوترة، تكتب “دخل الغابة الخضراء، ونظر إلى أوراق الشجر. أرى الضوء يومض في شعره الذي كان له لون جلد النمر. يمشي وحيدا. لا يفهم لم هو وحيد؟ ولكن نمره معه. كان نمره معه. يضع يده على ظهره القوي يبدو لي راضيا ثم يستدير الطريق فيختفي في المنعطف يقوده النمر متوغلا أبعد فأبعد في الغابة الخضراء”.

لا تكتفي الكاتبة باللغة الشعرية المتوترة بل تستخدم بعضا من تقنيات اللغة الشعرية مثل التكرار خاصة في الجزء الأول من الكتاب. يتكرر مشهد الاتصال الذي ستعلم من خلاله بالحادث الذي سيغير حياتها والتمثل بسقوط ابنها من الطابق الرابع وتحطمه على أرض الشارع.

ينمو فضاء المشهد في كل مرة من خلال الإضافة في السرد التي تطرأ على رواية الواقعة التي ستشكل محور هذه التجربة المروعة في حياتها. لذلك يسهم هذا التكرار في نمو فضاء السرد وفي جعل القارئ في حالة تشوق لمعرفة وقائع ما حدث.

تستعيد الكاتبة وقائع الزمن الذي عاشته مع ابنها منذ لحظة الولادة وحتى لحظة الدفن لكنها لا تستخدم السرد الخطي المعتاد في كتابة اليوميات. في هذا الكتاب تشبه الكتابة موج البحر الذي يذهب بحرية في كل اتجاه ثم يعود إلى المركز ثم يندفع في اتجاه آخر، ومن أجل تحقيق هذا الانتقال الذي يغلب عليه التداعي الحر تستخدم تقنية القطع السينمائي دون أن تفقد اللغة كثافتها التعبيرية وحيويتها التي تعد ملمحا واضحا في هذا الكتاب.

تعويض الغياب

استحضار لتجربة الأمومة
استحضار لتجربة الأمومة

لا تكتب ماريا آيت وقائع ما حدث بقدر ما تحاول أن تستعيد تجربة الأم مع وليدها منذ لحظة الولادة وحتى نموه وما يطرأ عليها من تبدلات تفرضها طبيعة الحياة. يختلط الحسي بالعاطفي والشعري بالسرد كما يختلط الذاتي بالعام عندما تحاول أن تستعيد أصواتا أخرى لشعراء عاشوا تجربة الفقد والغياب.

كذلك تختلط أزمنة الماضي بالزمن الخاص للحدث، نجدها تقول مثلا “حين كنت صغيرا كنت تنام وقت الظهيرة في عربتك تحت شجرة الماغنوليا. كان ذلك في تلك الغابة الخضراء. استيقظت وضحكت ونظرت إلى ورق أشجار الغابة. كنت تناغي. بدا ذلك وكأنك تغني. وميض الضوء، مطر من الضوء خلل الورق الأخضر/ أنا مجنونة”.

هناك زمن ما قبل الواقعة الأليمة التي ستحفر عميقا في نفسها وحياتها ولا تستطيع أن تتحرر منها، إضافة إلى زمن الأحلام التي ستعيشها بعدها وستدونها بلغة شديدة التكيف والإيحاء. وتلعب طريقة توزيع الكتابة وعلاقة الأسود مع بياض الصفحة دورا مهما في عملية التلقي وخلق التأثير الذي تسعى إليه في القارئ. إن هذه الطريقة في الكتابة واستخدام تقنية الكتابة لا تنبع من كون الكاتبة هي شاعرة أولا بل لأن ابنها الذي أورثها هذا العذاب والشعور القاسي بالفقد الصاعق كان سينمائيا ويعمل على “منتجة” الأفلام.

إن استخدام طريقة القطع هي محاكاة للأسلوب الذي كان يستخدمه في مونتاج الأفلام وكأنها بذلك تحاول أن تستحضره حتى في شكل الكتابة وطريقتها “نجلس في مطبخ شقة مستعارة والوقت قد توقف. نجلس متحلقين حول المائدة في كوبنهاغن ونمسك بأيدي بعضنا. نسمع ونرى الساعة التي تدق على الجدار فوق الثلاجة. ولكن الوقت قد تعطل. يعوم، عائم، إنه ليس غير اللحظة هذه، طوال الوقت ليس غير الآن، لا أقل ولا أكثر من ذلك. لا نعرف إن كان الوقت نهارا أم ليلا. نحن خارج الأيام والليالي الآن”.

ما يميز هذا الكتاب أنه يحاول أن يستحضر كل شيء حول هذه التجربة فتستدعي الكاتبة من مخزونها المعرفي والشعري كل ما يتعلق بموضوع الموت في تجارب غيرها من الشعراء الغربيين إلى جانب أهم الأساطير التي تتحدث عن الموت. تعتمد الكاتبة التكثيف الشديد والإيجاز. لذلك نجد أنفسنا أمام تجربة تستحضر الكثير من التجارب الواقعية والأسطورية في آن معا داخل هذا الفضاء المتميز بلغته الرشيقة والموحية التي تجعل الكتابة كما تصفها.

هناك مشهدان يلحان عليها بالحضور في هذا الكتاب؛ مشهد بلوغها خبر الحادث ومشهد رؤيته في غرفة العناية المشددة، وما بين زمني هاتين الواقعتين يظل يتحرك زمن الكتابة أو تجربتها المحكومة بهذا الدفق الشعوري والشاعري والذهني وكأنها قدرها الذي لن تستطيع التحرر منه حتى آخر حياتها “حين ينتهي موتك وهو سينتهي لأنه يتكلم، حين ينتهي موتك وهو سينتهي مثل كل موت، مثل كل شيء حين ينتهي موتك سأكون حينها ميتا”.

14